ترجمة: د. رمضان مهلهل سدخان
أولمبياد باريس ٢٠٢٤ ...صراعات المدينة مع الحرارة والجرذان ومياه الصرف الصحي مع بدء الألعاب الأولمبية
من المتوقع أن تهطل الأمطار في باريس، وقد يمثل ذلك مشكلة بالنسبة لمنظمي الألعاب الأولمبية. ليس لأن المطر قد يطفئ الشعلة الأولمبية أثناء حفل الافتتاح (إذ حدث هذا بالفعل أثناء عاصفة في مونتريال عام 1976، وكان لا بد من إعادة إشعال الشعلة باستخدام ولاعة سجائر)، ولكن لأن مياه الأمطار تجرف مياه الصرف الصحي إلى نهر السين.
وتجري مراقبة مستويات البكتيريا الإشريكية القولونية E coli في نهر السين من جانب المنظمين المرهَقين والعلماء المتوترين بشكل مستمر، وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية كانت تلك القراءات على حافة الهاوية. ومن المفترض أن يستضيف النهر السباحة في المياه المفتوحة وفعاليات التراياثلون [الثلاثية] الأسبوع المقبل، لكن هطول الأمطار الغزيرة يمكن أن يعيد القراءات إلى منطقة غير آمنة، كما كان عليه الحال في معظم أيام السنة. لذا ليس من المستغرب أن تقوم عمدة باريس، آن هيدالغو، بتأجيل عرض السباحة الأسبوع الماضي لأطول فترة ممكنة.
هناك ثقة بين المنظمين بأن الطقس الجاف في منتصف تموز قد فعل ما يكفي لخفض مستويات التلوث وتجنب الخيار الجذري المتمثل في إلغاء مرحلة السباحة وتحويل التراياثلون [الفعاليات الثلاثية] إلى الدواثلون [الفعاليات الثنائية]، لكن هذه مجرد واحدة من عدد من القضايا التي أثقلت كاهلهم في الفترة التي سبقت هذه الألعاب.
لكن أهم هذه القضايا هو الأمن. إذ تأتي هذه الألعاب الأولمبية بعد أقل من عقد من وقوع الحادث الإرهابي الأكثر دموية في تاريخ فرنسا، وهو هجمات عام 2015 على مسرح باتاكلان ومواقع أخرى حول باريس، والتي خلفت جروحاً عميقة ومدينة على حافة الهاوية. وكان هذا المراسل في حديقة للمشجعين بالقرب من برج إيفل في بطولة أمم أوروبا 2016 عندما قام أحد الأشخاص في الحشد الكثيف بإطلاق الألعاب النارية، مما أدى إلى تدافع مرعب للهروب مما كان يُفترض أنه فرقعة بندقية.
وتأتي الألعاب في وقت توترٍ في فرنسا بعد الانتخابات المبكرة في وقت سابق من هذا الشهر، والتي شهدت اندلاع أعمال عنف في الشوارع بعد فوز مفاجئ للائتلاف اليساري في البلاد الذي منع اليمين المتطرف من الاستيلاء على السلطة. وشوهد المتظاهرون وهم يطلقون القنابل المضيئة ويشعلون النار في الدراجات الكهربائية ويشتبكون مع الشرطة.
وقال إتيان ثوبوا، الرئيس التنفيذي لأولمبياد باريس 2024، لصحيفة "الإنديبندنت" في وقت سابق من هذا العام: "الأمن هو جوهر كل ما نقوم به. وهناك خطة كبيرة يجري وضعها موضع التنفيذ. وسيجري نشر عشرات الآلاف من الأشخاص ولم يُتْرَك حجر واحد دون أن يُقلَب. فالأمر لا يتعلق بالثقة، بل يتعلق بالدقة، والحد من المخاطر التي ستظل موجودة دائماً".
وهناك أيضاً مخاوف بشأن درجات الحرارة التي من المتوقع أن ترتفع إلى أكثر من 30 درجة مئوية الأسبوع المقبل، مما يجعل أنواع الأحداث جميعها تشكل خطراً صحياً جدياً. وفي القرية الأولمبية، جرى بناء أماكن الإقامة دون تكييف الهواء من أجل تعزيز المؤهلات البيئية للألعاب، ولكن المنظمين تراجعوا بعد رد فعل عنيف من الاتحادات الوطنية، وسيجري الآن توفير 2500 وحدة تكييف مؤقتة لخدمة 7000 غرفة في الموقع.
هذا الرد لم يرضِ الجميع. فالنوم يعد ّ أمراً بالغ الأهمية بشكل متزايد لأداء النخبة، وتقوم بعض الدول الأكثر ثراءً، بما في ذلك بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، بإحضار أو شراء أو استئجار وحدات تكييف الهواء الخاصة بها. وقال مات كارول رئيس اللجنة الأولمبية الأسترالية: "نحن نقدر فكرة عدم وجود مكيفات هواء بسبب البصمة الكربونية. لكنها دورة ألعاب عالية الأداء. لن نذهب في نزهة".
إن استضافة الألعاب الأولمبية تشكل دائماً استعراضاً للقوة الناعمة للعالم، ولهذا تحاول باريس تقديم نفسها بصورة معينة في حين تخفي بعض الحقائق القاسية. وإحدى هذه الحقائق هي مسألة الفئران: فقد خضعت المدينة لعملية تطهير جماعية باستخدام الفِخاخ الميكانيكية والمواد الكيميائية، وإغلاق مداخل الصرف الصحي، بقيادة خبراء إبادة يُطلق عليهم "فريق التحطيم".
وفي موازاة مظلمة، اتُّهِم مسؤولو المدينة بالتطهير الاجتماعي بعد أن قامت الشرطة بتفكيك مخيمات المهاجرين في وقت سابق من هذا الشهر وجرى إبعاد المشردين بشكل ممنهَج من شوارع العاصمة. ومنذ نيسان عام 2023، جرى ترحيل ما يقرب من 13000 شخص على أطراف باريس – معظمهم من المهاجرين والأشخاص الذين ينامون في العراء والعاملين في تجارة الجنس – وفقاً لتقرير صادر عن مجموعة من منظمات حقوق الإنسان والجمعيات الخيرية تسمى Le Revers de la Medaille (أي الجانب الآخر من العملة).
وبينما جرى تكليف مسؤولي الحكومة والمدينة بتقديم الوجه المشرق لباريس، فإن المهمة الأساسية للجنة المنظمة المتمثلة في تقديم الألعاب كانت واضحة نسبياً، نظراً لأن معظم البنية التحتية الرياضية كانت موجودة بالفعل ولم يكن هناك الكثير مما يجب بناؤه من الصفر. أما المكان الرئيسي الجديد الوحيد فهو مركز الألعاب المائية، على الرغم من أن ذلك يأتي مع نقطة غريبة تتمثل في أنه لن يستضيف سباق سباحة واحداً، برغم الوعود التي قدّمت في العرض الأصلي للمدينة.
ويطالب الاتحاد الدولي للسباحة "فينا" بسعة مكان لا تقل عن 15 ألف مقعد للأحداث الكبرى مثل الألعاب الأولمبية، لكن مركز الألعاب المائية الجديد اللامع في باريس الذي تبلغ تكلفته 175 مليون يورو (147 مليون جنيه إسترليني) سيستضيف فقط السباحة الفنية والغوص وكرة الماء أمام 5000 متفرج، بينما ستقام مسابقات السباحة في ملعب لا ديفانس أرينا الأكبر بكثير. وقد أفادت التقارير بأن تخفيض السعة قد تقرر مع تضخم ميزانية المكان من 70 مليون يورو الأصلية، برغم أن متحدثاً باسم اللجنة المنظمة لأولمبياد باريس 2024 نفى ذلك لصحيفة الإنديبندنت، مؤكداً أن القرار كان لوجستياً بحتاً.
وتجدر الإشارة إلى أن تحقيقاً بالفساد لا يزال يُلقي بظلاله على اللجنة المنظمة، بعد أن داهمت الشرطة الفرنسية منزل الرئيس التنفيذي ثوبوا وصادرت وثائق كجزء من مداهمات متزامنة على مقر الأولمبياد ومكاتب الشركات التي منحت عقوداً للمساعدة في تنظيم الألعاب. ولا يزال التحقيق في "تضارب المصالح غير القانوني وإساءة استخدام الأموال العامة والمحسوبية" مستمراً، ولم يجرِ توجيه أية اتهامات ضد أي شخص متورط. وقال ثوبوا لصحيفة "الإنديبندنت" بأنه كان مصدوماً من المداهمات لكنه أضاف بأن "هذا جزء من العمل".
كل هذا يعني بأن المنظمين ومسؤولي المدينة لا يمكنهم الانتظار حتى تصل الألعاب إلى ذروتها، وحتى يصعد النجوم إلى المسرح. سيكون هذا العام هو العام الذي تكون فيه الصحة النفسية في دائرة الضوء، حيث تعود سيمون بايلز للأداء تحت رقابة مشددة بعد معاناتها في طوكيو. وسيتنافس آدم بيتي وكايلب دريسل، وهما من أفضل السباحين في المسابح، بعد قضاء بعض الوقت للعناية بصحتهما النفسية. ويمكن أن تكون قصصهما ملهمة سواء في النصر أم في الهزيمة.
هناك العديد من الأسماء البارزة المحتملة، مثل العداء الأمريكي نوح لايلز، ونجمة السباحة الكندية المراهقة سمر ماكنتوش، وملك الجودو الفرنسي تيدي رينر. وهناك دائماً قصص تنشأ من العدم – فكِّرْ في الميدالية الذهب التي تقاسمها لاعبو الوثب العالي في طوكيو، وهي لحظات تجري مشاهدتها ومشاركتها حول العالم بلمح البصر .
وبعد قرن من استضافتها الألعاب الأولمبية للمرة الثانية عام 1924، ستصبح باريس أول مدينة تستضيف الألعاب الأولمبية الصيفية للمرة الثالثة. وسيكون الحدث مذهلاً، مع حفل افتتاح على النهر ومنافسات رياضية ممتعة تقام على خلفية برج إيفل وقصر فرساي. وبعد سبع سنوات من فوزها بالعرض، أصبحت باريس جاهزة أخيراً لتقديم أعظم مشهد في العالم، طالما أنها لن تمطر.
عن صحيفة الإنديبندنت، 25-7-2024.
1184 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع