الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الباميا وحكايتها.. الجزء الثاني
للباميا أحجام متباينة بين الصغيرة الحجم والمتوسطة والكبيرة، ففي العراق تكون غالبا صغيرة الحجم، وتكون في تونس وليبيا والجزائر والمغرب طويلة جدا وخضراء داكن ويتم تقطيعها إلى عدة قطع حتى تُطبخ، وهم يسمونها ملوخية. وفي أرتيريا يطبخون الباميا مع الكزبرة الخضراء ويكون لونها يميل إلى البني.
يقول عبد اللطيف البغدادي (1162-1231م) والمُلقب بابن اللباد في كتابه: (كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر) أنه وجد بها الباميا ووصفها قائلا: "هي من الخُضر؛ كأنها جراء القثاء (الخيار)، وعُثر على رسوم لها في المقابر الفرعونية ...ومن غريب ما مر بي أنني رأيتها في المغرب وتسمى عندهم (الملوخية)... الجين الناقل لحب الباميا متوارث في بلاد ما بين النهرين، وهي من شيم نفوسهم ...فإن تجد عراقيا لا يحبها ...فلعله لا يظلم...وقد علمني الوالد رحمه الله ...وأنا في أول طريق تعلم قواعد قراءة القرآن بمَثل عن الباميا والبانية، والباميا المفضلة عراقيا هي صغيرة و سمينة و فاتحة اللون ...والحديث عنها ذو شجون ..".
من الأمثال الشعبية العراقية: "انهجم بيت الباميا ..شكد تنفخ"، ويُضرب هذا المثَل في ذم التكبّر، فيوصف الإنسان المتكبر المتعالي بأنه (منفوخ) لأنه ينظر إلى بقية الناس أنهم دون مستواه أو أقل منه شأنا. فهذا الربط واضح بين من ينفخ نفسه تكبرا وبين ما تنفخه أكلة الباميا الشعبية.
هناك الكثيرين يحبون ان يأكلوا الباميا باردة محمصة من الأسفل بقطع اللحم ثريد مع خبز الرقاق، وهناك من يفضلها كوجبة افطار عند الصباح.
عندما كنتُ طالبا في مانشستر حكى لي زميل وصديق عزيز قصة عن أجود أصناف الباميا في الموصل، حيث كان لديهم علوة خضراوات في (سوق المعاش) القديم المقابل لبناية البلدية الموصل القديمة في الميدان بجوار الجسر العتيق بالموصل.
يقول صديقي: أجود باميا في الموصل كانت الباميا التي يزرعها (محمد طه الصوفي)، وعندما كانت تصل سوق المعاش مُحمّلة في حمل على ظهر حصان، كان أهل العلوات يتسابقون عليها لشرائها.
و(محمد طه الصوفي) أنا أعرفه شخصيا لأن بيته كان قريب جدا من بيتنا في الدواسة خارج، وهو والد مدير الإعدادية الشرقية الشهير الأستاذ جاسم محمد طه الصوفي.
لقد كان (محمد طه الصوفي) عنده بساتين في الموصل في الدواسة خارج وفي الجوسق، معظمها بساتين فستق ويزرع معها خضراوات ويقوم هو وابنه الأكبر بالعناية بها.
أما حكاية الباميا فيقول صديقي: بينما كان (محمد طه الصوفي) جالسا في أحد الأيام على حافة الشط في منطقة الجوسق، رأى شجيرة باميا قد جرفها الماء، فنزل إلى الماء وأخرج الشجيرة ووجد فيها بعض ثمار الباميا، وهي من صنف كان غير معروف بالموصل. فقام بتجفيف البذور، ثم قام في الموسم الثاني بزراعتها ثم جنى ثمارها.
وفي العام التالي أعاد العملية وقام بتجفيف البذور ثم زرعها، واستمر بهذه العملية لعدة سنوات حتى تكوّن لديه رصيد كافي من البذور فأنزلها للسوق وأخذ يبيعها ولاقت اقبالا واسعا.
وحدثني صديق عزيز كان معي في الثمانينيات في مانشستر قائلا: زارني عصرا صديق عراقي من مدينة أخرى، وعندما حان وقت العشاء أردتُ أن آخذه معي إلى المطعم، فسألني: ماذا كانت وجبة غذائك؟ فقلتُ له: باميا، فقال لي: وهل بقى منها شيئا؟ فقلتُ له: نعم، فقال: هاتها بسرعة فأنا أتوحم عليها.
يقول صديقي: فأخرجت الباميا من الثلاجة وقلتُ له: ما عندي تمن معها، فقال: بعد أحسن. ثم طلب الضيف قطعة خبز، فقلتُ له: انتظر قليلا.. ثم ذهبتُ إلى الجهة المقابلة من شارع أوكسفورد حيث كان هناك مخبز بالتنور واشتريت خبز وأعطيته لضيفي، وحاولت تسخين الباميا له، فقال لي: لا أرجوك أنا أحبها باردة.
يقول صديقي: أخذ ضيفي يأكل الباميا مع الخبز الحار وهو بأتم سرور وهو يُردد: هاي تسوى ألف مطعم!!
يقول الصديق الطبيب الدكتورAnam Al-Salihi : عندما كنت مصاحبا لعائلتي في أريزونا بأمريكا لأغراض دراسة الوالد، أصابنا ما يصيب العراقيين في سفرهم من هوس البحث عن الاكلات العراقية. وبدأنا نبحث عن (أصابع السيدة Ladies Fingers)؛ وهو الاسم الشائع للباميا في بريطانيا، ولم يعرف أحد ماهيتها!! وفي أمريكا هي متواجدة في الأسواق العربية، وهي خضراء وطرية ولها اسمين: Okra و Gold Finger.
ويضيف الدكتور Anam Al-Salihi: "ثم وجدناها في أحد الأسواق وعليها لافتة "Okra"، فحمدنا الله الذي وفقنا لهذا "الكشف العظيم"، وباشرت الوالدة رحمها الله بطبخ الباميا لنا وللمبتعثين العراقيين، فجمعت الباميا شتات العراقيين على مائدتها المباركة والحمد لله.
أما الصديق الأستاذ نبيل المصري فقد ذكر أن والده رائد الرياضة العراقية المرحوم عبد الجبار المصري (1914-1969) قد حكى له سالفة عن شخص كان يعيش في الموصل في النصف الأول من القرن العشرين وكانت الناس تطلق عليه لقب (سيد باميا)، حيث كان هذا الشخص يعشق الباميا ويأكلها في موسمها من بداية الصيف إلى بداية الخريف، وبثلاث وجبات يوميا: في الصباح يأكلها مع الخبز (تغميس)، وفي الظهيرة يأكلها مع التمن أو البرغل ومع البصل، وفي العشاء يأكلها تشريب مع البصل واللبن.
وعندما يطبخون الدولمة، كانوا يضعون باميا له في أسفل الجدر، وعندما يذهب ليأكل التكة (الفشافيش) في السوق، كان يأخذ معه عدد من حبات الباميا ويعطيها لأبو المطعم ويقول له: سويها بالشيش علملح شوي شيشين!!
يقال أن الزوجة الأولى لصاحبنا (سيد باميا) تطلّقت منه لأنها لم تستوعب الموضوع، فقالت له: إما أنا وإما الباميا. ثم تزوج امرأة ثانية كانت تحب الباميا، وكانت تقوم بتجفيف كمية كبيرة من الباميا وذلك بشكها بخيوط بشكل قلائد لاستعمالها في فصل الشتاء.
يروي سائق نوري باشا السعيد (1888-1958) أن الباشا كان يحب (تشريب الباميا) لذلك كانت زوجته أم صباح ترسل إليه بالطائرة ذلك التشريب بالسفرطاس عندما يكون في لندن.
ويضيف سائق نوري السعيد أنه ذات يوم بينما كنا لدى بائع الخضراوات وكانت الباميا حديثة الانتاج (في بداية جيتها)، قال الباشا نوري السعيد للبائع: أوزن لي نص كيلو باميا. وكان هناك رجل واقف بالقرب من الدكان، فلما سمع الباشا يشتري الباميا، قال بصوتٍ عالٍ: إإإيه اليوم يوم القوادين. ولما سمع الباشا ذلك قال للبائع: أوزن له نص كيلو باميا حتى نصير أنا وهو قوادين.!
ويذكر خالد عوسي في خواطره أنه في سنة 1958 جرى الاتفاق على إقامة الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن وحضر الوفد الأردني الى العراق واختتمت المباحثات يوم 13 تموز 1958. وفي ساعة متأخرة من ليلة 13/14 تموز 1958 ذهب السكرتير الشخصي العقيد الركن فاضل أحمد عبد العزاوي إلى بيت نوري السعيد لغرض توقيع محضر اجتماع مباحثات الاتحاد الهاشمي من قبل الباشا نوري السعيد. وعند دخوله إلى البيت، يقول العزاوي وجدت الباشا يرتدي بجاما وجالس على الزولية وأمامه صينية وفي الصينية ماعون كبير فيه طعام فقال لي: اتفضل فاضل خوش (ثريد باميا). يقول العزاوي جلست معه وتناولنا ثريد الباميا وكانت هذه آخر وجبة عشاء يتناولها بهدوء، وفي صباح اليوم التالي حدثت الثورة وهرب نوري السعيد ولم ينفذ الاتحاد الهاشمي بسبب قيام الثورة وقتل نوري السعيد.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
1268 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع