مُنقِّب الآثار هنري لايارد (أبو الآشوريين الجدد)

موفق نيسكو

مُنقِّب الآثار هنري لايارد (أبو الآشوريين الجدد)

إنَّ الآشوريين والكلدان الحاليين لا علاقة لهم بالقدماء، بل هم سريان آراميون نساطرة، قام الغرب تعمداً أو جهلاً أحياناً، بسرقة اسمين من حضارات العراق القديم وتسميتهم بهما، فسَمَّت روما السريان النساطرة المتكثلكين كلداناً، وثبت اسمهم في 5 تموز 1830م، وسَمَّى الإنكليز الذي بقوا نساطرة، آشوريين، سنة 1876م، وبدورهم صَدَّق المتأشورن والمتكلدنون، أنهم فعلاً آشوريون وكلدان، إما جهلاً، أو بالاعتماد على جهل بعض الرحَّالة والمنقبين والمبشرين والمؤرخين ولغاتهم، وليس الاعتماد على تاريخهم المكتوب بلغتهم وبيد أسلافهم، أو تزويراً، كما سنرى.

يعتبر دور السياسي والمنقب عن الآثار الإنكليزي، اوستن هنري لايارد مثيراً للجدل، لأنه أول من لعب دوراً مهماً بإطلاق اسم الآشوريين على النساطرة، حيث لُقِّبَ "بأبي الآشوريات، النينوي، ابن نينوى"، وقد قام لايارد ابتداءً من أواخر تشرين الثاني 1845م بعدة زيارات لاكتشاف آثار العراق خاصة نينوى وحولها، وزار مناطق السريان الشرقيين النساطرة الذين يُسَمَّونَ التياريين أحياناً، يُساعده المختص بالآثار هرمز رسام (1826–1911م) حامل الجنسية البريطانية، والمُتهم بسرقة وبيع الآثار الآشورية للإنكليز، وهو شقيق المترجم عيسى رسام الذي عمل مُترجماً مع رحَّالة آخرين قبل لايارد (انظر دعوى تهريب الآثار العراقية في المحاكم البريطانية بين هرمز رسام وبج (رحلات بج إلى العراق، ترجمة فؤاد جميل ج2 ملحق 7 ص261-289. ونورا كوبي، الطريق إلى نينوى ص402-403).

ولد لايارد في 5 آذار 1817م لأبوين إنكليزيين في أحد فنادق باريس حيث كان والداه في فرنسا، وتنقلت العائلة بين سويسرا وإيطاليا إلى أن عادت إلى إنكلترا سنة 1829م، فدخل لايارد مدرسة قرية ريجموند قرب لندن، وعمل بداية حياته في مكتب خاله المحامي بنيامين، ثم رافق صديقه ميتيفورد في رحلته إلى الهند، وأثناء مروره في العراق سنة 1840م تَعرَّف على نائب القنصل البريطاني، ولم يُكمل رحلته إلى الهند حيث تَعيَّن موظفاً في مكتب العقيد الإنكليزي تايلور في بغداد، وقام بالتعاون مع الآثاري والقنصل الفرنسي في الموصل إميل بوتا (1802–1870م) الذي كان يُنقِّب عن الآثار الآشورية، وسنة 1845م زار نينوى وخورسيباد ونمرود وغيرها للتنقيب عن الآثار، يُرافقه المختص بالآثار العراقي المسيحي هرمز رسام، يُسانده قنصل بريطانيا في العراق وعالم الآثار، هنري راولنصون (1810–1895م) الذي كان يملك معلومات واسعة في التاريخ واللغات، ويُلقَّب "أبو المسماريات أو أبو الخط المسماري"، وهو الذي ساعد لايارد في حل رموز وكتابات الآثار وتحديد تواريخ الدولة الآشورية وملوكها، كما قام راولنصون بمساعدة لايارد إنشاء قسم الآشوريات لأول مرة في المتحف البريطاني الذي كان قد أُنشئ سنة 1753م، وشغل لايارد بعد عودته إلى إنكلترا عدة مناصب سياسية منها عضو برلمان، وتعيَّن في 11 شباط 1852م وكيل وزير للشؤون الخارجية، وشارك في حرب القرم بين روسيا وتركيا (1853–1856م)، وكان له دور في الهند والحبشة، وعُيِّن سفيراً لبلاده في تركيا سنة 1877م، وتوفي في 5 تموز 1894م.

اعتبر كثيرون لايارد شخصية انفرادية منطوية على نفسها منذ صغره، غير منضبط، لا يرضخ للأوامر، مشاغباً في المدرسة، مولعاً بملاعبة الحيوانات المفترسة، وهو لم يكن باحثاً أو متخصصاً بالتاريخ والآثار والدين واللغات، بقدر ما كان منقّباً للآثار ومثابراً على عمله بها، فهو شخصية عصامية، عاشقة للحرية لأنه عاش حياة قاسية، طموح جداً، لكنَّ طموحه مبهماً، هاوياً للرسم والنحت والفن، مغامراً وميالاً للسفر خاصة إلى الشرق حيث عمل والده في جزيرة سيلان، محباً لمطالعة الأدب والقصص والأساطير التاريخية، وقرأ كثيراً من كتب الشرق كتاريخ إيران والهند، وكان معجباً بالقصص التي تتحدث عن القوة والشقاوة مثل، مغامرات حجي بابا لجيمس مورير، وكتاب تسليات الليالي العربية (مأخوذة عن ألف ليلة وشهرزاد)، وكتب الرحَّالة الغربيين إلى العراق التي تتحدث عن قوة بابل وآشور كرحلة كلوديوس ريج، وقصيدة الشاعر الإنكليزي جورج بايرون (1788–1824م) المنتشرة في إنكلترا، بعنوان "هجوم سنحاريب"، التي تقول إحدى أبياتها: هجم الآشوري كما يهجم الذئب على القطيع.

لم تكن الدولة الآشورية التي سقطت سنة 612 ق.م. معروفة كثيراً للعالم والرحَّالة، ومنهم لايارد قبل اكتشاف الآثار باستثناء ما ورد عنها في العهد القديم من الكتاب المقدس ولدى قسم من مؤرخي التاريخ، وبعض القصص التي نُسج أغلبها استناداً على الكتاب المقدس، ولهذا لم يكن لايارد يعرف شيئاً عن الآشوريين القدماء واسمهم وأصلهم، إلاَّ ما جاء عنها في الكتاب المقدس، وما قرأه عنهم عموماً في التاريخ والقصص والأساطير، ولم يستعمل اسم الآشوريين، بل النساطرة، فمنذ أن بدأ رحلته من حلب إلى الموصل يقول لايارد عن مناطق الكورد: يعيش بين السكان الكورد عدد من مختلف الطوائف المسيحية، هم: الأرمن والكلدان والنساطرة، وقبل سنين قامت مذابح بحق النساطرة، وعن الموصل، يقول: سكانها من المحمديين والمسيحيين، كالكلدان الذين تحولوا من الإيمان النسطوري القديم إلى الكاثوليكية الرومانية، وأيضاً اليعاقبة والسريان الكاثوليك أو اليعاقبة الذين انتموا إلى روما، وتعامل لايارد في الموصل مع تاجر مسيحي كلداني، ويقول إن المترجم عيسى رسام الذي ساعد رحَّالة سابقين، هو من أصل كلداني (William N. Sir A Henry Layard autobiography and letters from his childhood until his appointment. ، وليم نابير، هنري لايارد، السيرة الذاتية ورسائل من طفولته حتى تعليمه، إنكليزي، لندن 1903م، ج1 ص299–323).

ولم يكن لايارد يُفرِّق بين بابل وآشور وبين النساطرة والكلدان الذين انشقوا عن النساطرة، فكان يُسَمِّي النساطرة،كلداناً، ويقول عن رحلته من بغداد إلى مناطق النساطرة في شمال العراق: أجبرتني أحوالي الصحية من جديد للبحث عن مكان بارد ومنعش لأستريح فيه هرباً من حرارة الصيف، فقررت التوجه إلى الجبال التيارية المسكونة من المسيحيين الكلدان (علماً أن التيارية نساطرة، وليسوا كلداناً)، وعندما ذهب إلى بغداد عاشر الكلدان وحضر حفل زفاف فتاة كلدانية، وكان لايارد جاهلاً باللغات، فساعدهُ راولنصون في حل رموز الكتابة المسمارية الأكدية التي كانت لغة دولة آشور القديمة والتي سَمَّاها لايارد أول الأمر، الكلدانية، فقد أرسل لايارد رسالة لوالدته في نيسان 1846م يقول: يسرني أن أقول لكِ إني توصلت إلى بعض النتائج مثل أسماء المدن والأشخاص وإلى الآن لم استطع فك خطوطها، لكن بمساعدة الميجر راولنصون، آمل أن أتوصل قريباً إلى حل أبجديتها، أمَّا بالنسبة للغة فهل هي كلدانية؟، أو واحدة من اللهجات المنسية لإحدى اللغات التي لم تزل موجودة ويمكن التوصل إليها بالبحث والمقارنة؟، أو هي لغة غير معروفة لا بُدَّ من إعادة بنائها من جديد؟ (الطريق إلى نينوى، ص269–270)، ومع أنه نَقَّبَ في بلاد آشور فقد كتب في مذكراته سنة 1853م عن زياراته للشرق بعنوان، "المغامرات المبكِّرة في بلاد فارس وبابل"، كما كتب مقالة عن تاريخ النساطرة (انظر هنري لايارد، البحث عن نينوى، ص15).

عندما وصل لايارد منطقة النساطرة في شمال العراق وتداخل مع القوم، لاحظ أن هناك فرقاً بين الكلدان الذين قبل ثلاثة قرون كانوا قد انشقوا عن النساطرة وتكثلوا وتسَمَّوا كلداناً، وبين النساطرة التياريين، وأن النساطرة يمتازون بالبساطة في الاحتفالات الدينية على النقيض من خرافات وسخافات ومراسيم الكاثوليك، لذلك فالنساطرة يستحقون أن يلقَّبوا "بروتستانت الشرق" (هنري لايارد، السيرة الذاتية، ج2 ص108–175)، ثم لاحظ أن بعض سكان المنطقة الكورد يضطهدون النساطرة، وجرت مذابح في قراهم آخرها مذابح أمير بوتان بدر خان بك سنة 1843م ذهب ضحيتها آلاف النساطرة، كما لاحظ كيف يُعذب بعض الكورد النساطرة ويضربونهم بالعصي، وفي الرسالة التي وجهها إلى عائلته في إنكلترا في 5 تشرين الأول 1846م تكلم عن مذابح النساطرة على يد الكورد، وفوق كل ذلك لاحظ أن النساطرة غير محبوبين حتى من الكلدان لأسباب عقائدية دينية، وهناك شبه عداء بينهما، وإثر كل هذه الأمور بدأ لايارد يتعاطف مع النساطرة ويلبس زيهم، وبدأ يستعمل كلمة الآشوريين على عليهم مُفترضاً أنهم أحفاد الآشوريين القدماء، وسَمَّاهم "الآشوريين النساطرة"، وفي جولاته بينهم، ذكَّرَهم بالمأساة التي حَلَّت بسقوط الدولة الآشورية القديمة، ثم قامت مجلة الشهر الجديد اللندنية monthly magazine new The، بنشر مقال (عدد 87–1849،344م)، يقول: يجب إنقاذ صفوة من المسيحيين النساطرة الذين هم أحفاد الآشوريين، ثم أصدر لايارد سنة 1849م كتابه (نينوى وبقاياها Nineveh and its remains)، وحاز على شعبية واسعة في إنكلترا، وارتياح وتفاعل النساطرة (الآشوريون الجدد) حيث ترجموه سنة 1983م، بعنوان (البحث عن نينوى)، ركَّزوا بترجمة الفقرات التي تُظهر اعتداء الأكراد على النساطرة، وأضافوا لكل كلمة نسطوري (آشوري)، أو بَدَّلوا نسطوري بآشوري، ثم تُرجم سنة 1994م، وهذه إحدى صفحات الكتاب المترجم مع الأصل، التي تظهر التزوير.

 

في 11 نيسان سنة 1852م قَدَّم عالم الآثار الإنكليزي هنري راولنصون بحثاً إلى الجمعية الآسيوية الملكية بعنوان "تاريخ آشور المستقى من الكتابات التي اكتشفها لايارد في نينوى"، وذكر أنه استند في بحثه إلى ملاحظاته الشخصية وبمعونة معلومات الكتاب المقدس، وسنة 1853م أصدر لايارد سلسلة "آثار نينوى"، وبين سنتي (1854–1855م) وصلت إلى انكلترا نحو خمسة وعشرين ألف قطعة أثرية طينية وحجرية اكتشفها لايارد، وأحدث وصول هذه الكمية ضجة شعبية واسعة هناك، ألهمت خيال الناس، فالمتدينون أعجبوا بها للتشابه الكبير بين ما ورد في الكتاب المقدس عن الآشوريين وما احتوته هذه الآثار، وأنها جاءت شاهداً تؤكد صحة الكتاب المقدس، وأصبحت تُنشر هذه الاكتشافات مقرونة بآيات من الكتاب المقدس، ومن جهة أخرى فقد جعلت هذه الآثار المسرحيات والقصائد والأساطير عن بلاد آشور صورة حقيقة على أرض الواقع، وصارت بلاد آشور ونينوى موضوع الإنشاء المفضل في مدارس انكلترا، ومادة دسمة للكُتَّاب، وراح قسم من الشعراء مثل ولتر سافج لاندر يتغنى بلايارد واكتشافاته، ويقول: سترتفع أغنيتي، ستردد في خرائب نينوى لايارد! يا ذاك الذي أخرج المدن من التراب
الذي جفف نهر النسيان من وسط ظلالها وحرر العروش والملوك، والهياكل والآلهة من الزمن القاهر..إلخ.

يقول البرفسور الأمريكي من أصل سرياني نسطوري جون جوزيف: عندما اكتُشفت آثار آشور القديمة في نينوى وضواحيها، جذبت اهتمام العالم على النساطرة وأخوتهم الكلدان، وبدأ عامة الناس في إنكلترا استعمال الآثار الآشورية كسلاح ضد ناقدي الكتاب المقدس، وبطل الحفريات هو لايارد الذي سارع إلى الإعلان عن هذه الأقليات اعتماداً على ما تبقى من أكوام وقصور مدمرة من نينوى وآشور، وقد كتب لايارد أن النساطرة يتحدثون بلغة أسلافهم الآشوريين وهو رأي أعرب عنه هرمز رسام مساعد لايارد الذي يتحدث اللغة الآرامية، قائلاً: (الآشوريون القدماء تحدثوا الآرامية وهم لا يزالون يفعلون ذلك)، علماً أن الآشوريين القدماء لم يتحدثوا دائماً اللغة الآرامية، بل كانت لغتهم الأم هي الأكدية، وهي لغة اللوحات المسمارية الشهيرة والآثار التي ساعد هرمز رسام نفسه في التنقيب فيها، ومن المثير للاهتمام أن لايارد ورسام استمرا باستعمال اسم الكلدان الأقدم على كل من الكاثوليك الكلدان والنساطرة، ولايارد نفسه إلى ما قبل سنوات قليلة من الحفريات الآشورية كان دائماً يشير إلى النساطرة باسم، الكلدان، أو الكلدان النساطرة من أجل تمييزهم عن الكلدان الكاثوليك المتحدين مع روما.

لقد أدت كتابات لايارد الترويج للاسم الآشوري في الوقت الذي كان فيه رؤساء أساقفة كانتربري قد تلقوا بين سنة (1844–1868م) عدة رسائل من بطرك ومطارنة النساطرة عِبرَ عيسى رسام وغيره، تدعوهم لمساعدتهم، فأرسل رئيس الأساقفة سنة 1866م بعثة قابلت البطرك ومطارنته في مقره في جوله مرك، وقد وجدت البعثة أنَّ الشعب جاهل، وحتى الأساقفة لا يجيدون القراءة والكتابة، وأنَّ رجال دينهم أعرف بأقسام البندقية من أقسام الكتاب المقدس والدين، وفي 7 يناير 1870م نقل رئيس أساقفة كانتربري رسالتهم إلى مؤمني الكنيسة الأنكليكانية، وفي كلام الأسقف وردت مرة واحدة عبارة (Christians of Assyria المسيحيون في آشور أو مسيحيو آشور كتسمية جغرافية)، لتتغير فيما بعد بحذف (Of)، وتصبح (Assyrian Christian الآشوريون المسيحيون)، ومن يومها بدأت الدوائر الرسمية والكنسية في إنكلترا بتبديل كلمة سرياني أو نسطوري في السجلات بآشوري، فتلقَّفَ النساطرة الاسم الآشوري وأعجبوا به خاصة البطرك بنيامين إيشاي +1918م الذي كانت له تطلعات قومية وسياسية، يساعده بنشر وتعزيز الاسم المبشرون الأنكليكان كالدكتور وليم ويكرام وغيره، وشيئا فشيئا بدأ السريان النساطرة استعمال اسم الآشوريين، وبعد مئة سنة وفي 17 تشرين أول 1976م، ثبت اسم الآشورية على أحد فرعي كنيستهم، علماً أن الاسم النسطوري بقي مقترناً بهم رسمياً في دوائر الدولة ووزارة الأوقاف العراقية إلى 17/8/ 1993م، وحسب كتاب ديوان رئاسة الجمهورية المرقم 21654، المرفق، ولا يزال الفرع الآخر يرفض التسمية الآشورية، بل أحد شروطه للوحدة، هو حذف اسم الآشورية.


وشكراً موفق نيسكو

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1416 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع