احمد الحاج
العقلية الصنمية وصِدَام الطبقات الحتمي !!
من بديع ما ذكره اللواء الركن عبد الرحمن التكريتي،في كتابه (جمهرة الأمثال البغدادية) نقلا عن الاستاذ ابراهيم الشوك، قصة طريفة تروي تفاصيل اتفاق عائلي أبرم بين زوجين أميين لم يرزقا بولد بالرغم من زواجهما المبكر فتعاهدا على أن يطلقا اسما غير مألوف على أول مولود لهما جريا على العادات والتقاليد البالية التي تتوهم بأن إطلاق اسم منبوذ اجتماعيا نحو (جريو، زبالة ، خريبط ، جعيمص ..الخ) بإمكانه أن يقي الأطفال حديثي الولادة ويحميهم من أعين الحساد ومن الموت المحقق ، فأنجبا ولدا أسمياه (بغل) وبعدما كبر وتزوج صارت إمرأته تشمئز من إسمه وتحثه على تغييره فنزل عند رغبتها وقرر تبديل اسمه فأعد وليمة لأبناء قريته سائلا اياهم عن الاسم الجديد الذي يقترحونه عليه وأجمعوا على أن يكون(كديش) بدلا من ( بغل ) ليعود الرجل فرحا الى زوجته ويخبرها باسمه الجديد فما كان منها إلا أن صرخت قائلة :
" يول مصخم ، بعدك بالطولة !" .
فذهب قولها مثلا بين الناس يضرب لمن لا يتغير جوهره ولا تتبدل طبيعته والطبع قد سبق التطبع مهما تطورت الأحداث ومهما ادلهمت الخطوب وتبدلت ظروف و أحوال الأمم والشعوب من حوله،وهذا الأمر إن كان يصدق على شيء فإنما يصدق على ما يعيشه الشرق الاوسط على سطح الكوكب الازرق الملوث أخلاقيا واجتماعيا ومناخيا وبيئيا وسياسيا وأيديولوجيا إلا ما رحم ربك،ولا شك أن الكيان الصهيوني اللقيط الذي زرعه الغرب الاستعماري في قلب هذا الشرق الغني بالنفط والغاز والكبريت والفوسفات والذهب واليورانيوم ومعظم الموارد الطبيعية المهمة زيادة على التاريخ الحضاري العريق الضارب بالقدم ، والموقع الاستراتيجي،والمياه العذبة،والاراضي الخصبة،تخلصا من الصهاينة وخبثهم ومؤامراتهم ومشاكلهم التي لا تحصى في بلدانهم أولا ، ولنهب ثروات دول الشرق الأوسط وبناء القواعد العسكرية المؤقتة والدائمة على أديمها ثانيا، ولإسقاط النظم الحاكمة أو تنصيبها تباعا مشفوعة بسحق الشعوب وظلمها على الدوام بذريعة الدفاع عن أمن الكيان ثالثا، ولضمان وجود حليف جرثومي ودائمي لهم رابعا، حليف لم ولن يكف يوما عن نشر الجائحات الوبائية وإثارة الفتن والقلاقل وزعزعة الأمن والاستقرار في قلب هذا الشرق المبتلى بالكيان الصهيوني الذي يستدعي حلفاءه، ويستعديهم على كل من حوله - شعوبا وحكومات- وإن كانوا من المطبعين معه وكلما سنحت له الفرصة لضمان ابقاء كل دول الشرق الاوسط وشعوبها ضعيفة وهزيلة ومتناحرة فيما بينها بدوافع سياسية أو قومية أو دينية أو قطرية أو طائفية وبما يسمح له بالتفرد بالقوة والصدارة والاستقرار وتسويق نظامه الاجرامي على أنه الأنموذج الديمقراطي الوحيد في الشرق الاوسط ولولا طوفان الاقصى لانطلت هذه الخرافة على ملايين البشر، كل ذلك أملا بتحقيق حلمه الدائم" دولة اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات "على حساب حلم مناهض ومناقض له يتهدد وجوده كليا ألا وهو" فلسطين من النهر الى البحر"ليتهم كل من يتبنى الشعار الثاني أو يترنم به بأنه "معاد للسامية "ومواز للنازية ، ومناظر للفاشية، ومتبن للراديكالية ،وعاشق للديكتاتورية ، ومناهض للديمقراطية وهلم جرا مع أن كل الاوصاف التي يطلقها الكيان المسخ على خصومه وأعدائه إنما تنطبق عليه حرفيا منذ نشأته المشؤومة بوعد بلفور عام 1917م والى كتابة السطور ،وقد عقد الكيان المسخ العزم على تصفية آخر جيوب المقاومة الحقيقية المتمركزة في غزة العزة ليتبعها بتصفية بقايا المقاومة في الضفة الغربية قريبا ليضمن - بعيدا عن شواربه - على قول الشوام ادخال ما تبقى من القطيع في ركب وقطار التطبيع لاسمح الله ، ليكشف لنا أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو الدكتور جون مير شايمر،وله كتاب سابق مهم جدا بالاشتراك بعنوان "اللوبي الاسرائيلي والسياسة الخارجية الامريكية "السبب الرئيس الذي يقف وراء الدعم المتواصل واللامحدود وغير المفهوم للكيان المسخ أمريكيا،مؤكدا بأن السبب"ليس اخلاقيا ولا استراتيجيا كما يتوهم كثيرون،بقدر ما هو استجابة الادارات الامريكية المتعاقبة ذليلة وصاغرة لضغط اللوبي الاسرائيلي المتغلل والمتوغل والمتغول في امريكا والذي يعرف اختصارا بـ" أيباك " وأي نائب أو سيناتور أو وزير أو رئيس أو مرشح للرئاسة الامريكية يخرج عن طوع هذا اللوبي ، ويقصر في تنفيذ أوامره لدعم الكيان فسيلفظه الكونغرس ويطويه النسيان !
وتأسيسا على ما تقدم فقد أصبح شعار العرب أسوة بكل من جاورهم من قوميات ومكونات هو"مات الصنم،عاش الصنم"حتى غدت تلك المنظومة بمثابة أهزوجة لمعظمهم ما فتئوا يرددونها طوال حياتهم ما خلا حقب قليلة "وما بين كل خازوق وخازوق ..راحة " كما يقول المثل الدارج، نعموا خلالها بالأمن والأمان، وبالسلم والسلام،وما بين كل صنم زائل ونظير له صائل، هنالك أرحام تدفع ومعتقلات محلية وأجنبية تبلع...أكتاف تخلع وأظافر تقلع...معاصم تقيد وأفواه تكمم وألسنة تقطع...أجساد بفعل الكهرباء -اللا وطنية- تحت التعذيب وبتهمة اللاشيء تضيء وتسطع ..رقاب للاستبداد المستورد تسجد على مدار الساعة وتركع ،للطغيان المحلي المبارك أجنبيا تنبطح وتخضع ..جامعات وكليات ومعاهد ومدارس ومساجد تهدم - إن لم يكن ماديا فمعنويا - وتُمنع، يقابلها ملاه وخمارات ومسارح وكباريهات وحلبات وكازينوهات للالهاء المتواصل تجاور معابد للبوذية والهندوسية والسيخية على حساب الأديان السماوية تُشيد في كل شهر على رؤوس الاشهاد وتُرفع ..وياويل و سواد ليل كل من لا يقدم فروض الطاعة والولاء لينصت مليا ويبارك ويفتي بجواز هذا الصنيع ويخضع ، والمحصلة النهائية هذي أصنامهم وتلك قطعانهم فحيثما شئت يا ذئب السلطان المتوج والمبارك أورو..صهيو..أميركيا جب وارتع ،وعلى الشعوب الشرق أوسطية قاطبة أن تصفق للجميع وترقص بحضراتهم طربا كطيور مذبوحة من شدة الالم وتبارك لهم فوزهم المتتالي،وقراراتهم المزاجية، وبشاراتهم الوهمية، وانتصاراتهم الفضائية،وخطاباتهم الكاريكاتورية، وطلتاهم الكارتونية، وهتافاتهم الثورية الوهمية في كل مرة لتقنع قبل أن تعود الى حظائرها بصمت الحملان وهي تجر أذيال الخيبة والخذلان استعداد ليوم تطبيل تالي تعيد في اصبوحاته وأمسياته الكرة ثانية وتهجع ، وإذا ما قررعبد ما التغريد خارج السرب المنوم مغناطيسيا فلن يؤيده أحد ماخلا النزر اليسير بل ولن يستجيب لندائه الى الحرية عبد ولن يسمع ، فالعبيد الذين أدمنوا الاستعباد وكما تقول الحكمة واذا ما أمطرت السماء يوما حرية، فسيفتحون اتقاء خيرها المظلات !
والنتيجة الحتمية لتلكم الدوامة المقيتة حيث الكيان الصهيوني اللقيط من أمام الشعوب الشرق أوسطية ،بينما الحكومات المستبدة أو الراضخة أو المنبطحة أو المائعة أو المطبعة من ورائها، هي ما زحزحت أصنام عن عروشها قط إلا بأصنام أمثالها، وما جثم صنم على صدور المواطنين إلا بـ(جئنا محررين لا فاتحين) وما رحل عنهم الإبعبارة لويس السادس عشر (وليكن بعدي الطوفان) ، ففي ظل الاصنام رقاب تلو الرقاب على حبال المشانق تأرجحت، ومعاصم تلو المعاصم بقيود السجانين رزحت، وبأمرهم ظهور بريئة بسياط الجلادين تقرحت، أجيال بين قطعان الضباع ترعرعت، أزهار بحقول الالغام تفتحت، عقول راجحة تحجرت، مصانع عملاقة تعطلت، مزارع خضراء مترامية الاطراف تصحرت، كفاءات لا تبارى هاجرت، ملايين نزحت ،عوائل كريمة تشردت، أسر متماسكة تفككت،بطون جاعت، أجيال خُدَِرت وتخدرت ، أرامل ناحت ، أطفال تيتمت ، ضمائر حية ماتت، عصبيات طائفية تأججت،فتن نائمة استيقظت، آثار ومعالم ضاربة في عمق التاريخ طمست وهُرِّبت ، ثروات لا تعد ولا تحصى نُهبت، موازانات مليارية سرقت ، ولا يزال العرض مستمراً وبنجاح ساحق لمن فاتته المشاهدة وحتى اشعار آخر، عاش الملك مات الملك ، أطول عرض هزلي قدم على مسرح الشرق الاوسط ، إن مكث المظلوم مرغما لمتابعة ما تبقى من مشاهده وفصوله يندم، وإن ولى يا لهف نفسي عليه فراراً دون إذن من حاشية الاصنام-يُعدم- وهكذا ضاعت بلادي بين نوح باك وترنم شاد أو بين خنوع ماسيوشي وتجبر سادي ، ولسان حالنا يردد ما انشده محمود الوراق يوماً:
اني شكرت لظالمي ظلمي ..وغفرت ذاك له على علمي
وما زال يظلمني وارحمه ..حتى بكيــــته من الظلم
وما أحوج الشرق الأوسط برمته وعلى مستوى الحكومات والشعوب الى وقفة شجاعة مع النفس لوأد الروح -الصنمية- والانهزامية التي تقمصته وتحكمت بمصائر أجياله على مدى عقود طويلة، لتنعم بالامن والحرية والعدالة الاجتماعية و، أما المراهنة الدائمة والدائبة على الأصنام فهذه لن تسمع أنين الثكالى، ولن ترى معاناة الضحايا ، ولن تستشعر الآم الجماهير ، إذ ليس للاصنام آذان تسمع بها، ولا أعين تبصر بها ، ولا قلوب تفقه بها، ذاك أن قلوب الاصنام من حجر، ولا يفلح قوم ولوّا امرهم حجراً، واذا كانت الخمر أم الخبائث، فان العقلية الصنمية المتوارثة كابرا عن كابر ولاشك في ذلك ، أبوها ، ولله در القائل :
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة ...ولكن تفيض الكأس عند امتلائها
فيا من تبنون بكل يوم لكم قصرا، أتعلمون أن غالبية شعوبكم أوسطية الشرق المقهورة لا تملك في أرضها شبرا؟ يا من تنهال عليكم الثروات تترا، أتدرون أن شعوبكم تكد ولا يُدفع لها أجرا؟! أتدرونهم أضحوا لا ماء صالح للشرب ولا كهرباء، لا دواء ناجع للمرضى ولا مستشفيات - مال أوادم - ولا غذاء؟! لا تعليم رصين ولا خدمات عمومية ولا انجازات رياضية ولا نجاحات ثقافية ولا رخاء ، لا ضمان جودة ولا اختراعات ولا اكتشافات ولا تصنيع محلي ولا تحسين أداء ، وإنما مجرد ضحك وسفه وعته وبله وترفيه هنا ، يقابله بكاء وعويل ويتم وعزاء ولا جديد فوق أرض الشرق الاوسط المبتلى بأصنامه أو تحت السماء !
ودعونا وقبل الختام نوجز ولا نسهب، ونختزل ولا نطنب، فخير الكلام ما قل ودل، وشر الكلام ما طال وخل.. وكلامنا موجه حصراً الى من نظموا في حب أسيادهم أشعارا، واتخذوا من لبوس الصالحين دثارا، الى من قطعوا الأعناق وسبّحوا، الى من بدماء الأبرياء ثملوا وسَبَحوا، الى من بقطع الأرزاق يُسر بعضهم ويفرح، والى من بآلام المضطهدين يغني ويصدح، الى من لسان حاله يصدق عليه قول قائلهم:
ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
والكل يسأل من أين لك كل ما تملك ياهذا ؟ كيف ومتى وأنّى ولماذا؟ إن كنت تعلم فتلك مصيبة، وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم ، والسؤال موصول الى هذه الفاشينيستا المطبلة لهذا ، والى نظيرها في الرقص والتطبيل السياسي لذاكا !
ولاشك أن الهوّة السحيقة التي تتسع يوما بعد آخر بين الاغنياء والفقراء ، وبين السعداء والتعساء، في ظل تضخم وبطالة خانقة وغلاء فاحش وركود وانكماش اقتصادي مخيف وغير مسبوق ، لم تعد مقبولة بالمرة شرق اوسطيا وستسفر عن "صِدَام قادم بين الطبقات" لامحالة ولو بعد حين ولات حين مندم ، ومن يمعن النظر في الفوارق الطبقية الكبيرة التي أسفرت عن اختفاء الطبقة الوسطى برمتها وبما بات يمزق النسيج الاجتماعي ، ويقطع أوصاله ويهدد شعوبنا وبلداننا بأسرها بما لا تحمد عقباه البتة سيصاب بالذعر والاحباط الشديدين،ولاغرو أن مَن يقلب الطرف مليا فلن يجد صعوبة باكتشاف أن الافراط والتفريط ،والاسراف والتقتير،اضافة الى استشراء الفساد المالي والاداري والسياسي والحزبي،والتعصب القبلي، والاصطفاف الطائفي، والتعنصر القومي ،زيادة على التبعية المذلة للأجنبي، والتخبط الاقتصادي وغياب الخطط والبرامج التنموية والاستثمارية الحقيقية علاوة على الاغراق الشعبوي في ثقافة الكماليات والاستهلاكيات المشفوعة بالترفيه والتسطيح والتسفيه اللامحدود ، تأتي في صدارة الاسباب التي أدت الى اتساع الفوارق الطبقية، واختلال الموازين الاخلاقية، وتصدع اللحمة الوطنية، وانهيار العملات المحلية، وتكدس الثروات المليارية لدى القلة القليلة من دون السواد الاعظم الذي يلوك الصخر خبزا، ليجد الباحث الجدي وبعد تأمل عميق بأن الحل الأمثل لهذه الآفات مجتمعة انما يكمن في تبني الوسطية والاعتدال منهجا في كل شيء والاخيران لن يأتيا إلا بالخيرالعميم ، لأن الوسط وكما تعلمون هو فضيلة بين رذيلتين، وخير الناس أنفعهم للناس، كما قال خير الناس.اودعناكم أغاتي
2186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع