د.ضرغام الدباغ
سوف تكسبون ... ولكنكم لن تنتصروا
Sie werden gewinnen aber nicht siegen
الحرب الأهلية تجتاح اسبانيا من أقصاها إلى أقصاها، والتوحش وسعار القتل أنتشر بين الناس، الجمهوريون أصحاب السلطة الشرعية، لا أحد يؤيدهم ويقف معهم بدقة عدا الاتحاد السوفيتي، بالمال والسلاح والرجال. والتقدميون من أرجاء العالم هبوا لنصرة الجمهوريين. المعسكر الجمهوري كان عريضاً، ولكن الشرفاء دائما فقراء، والفقراء لا يملكون سوى سواعدهم وصدورهم.
أما المعسكر اليميني (الفلانج) فقد كان صغيرا ضئيلاً في اسبانيا لم يكن يضم سوى الأثرياء وأصحاب الأرض، وغلاة اليمين، والجنرالات المغامرون، القادمون من الحروب الاستعمارية، تسيل الدماء من أشداقهم، يبطشون بأبناء شعبهم لا رحمة. ولكن المال الذي كان يسيل كالنهر من أوربا الغربية وأميركا بأيدي الجنرالات، تمكنوا بواسطته شراء ذمم الناس، إضافة إلى ممارسة العنف والسحق بلا هوادة، بدأ يعطي ثماره.
اليمين والفاشية الاسبانية بقيادة الجنرال فرانكو القادم من المستعمرات، تمكن من التفاهم مع الفاشية الإيطالية المتمثلة بموسوليني، ومع النازية الألمانية بقيادة هتلر، الذين لم يترددوا بإرسال قوات مسلحة ضاربة إلى اسبانيا لدعم الفاشية الاسبانية، ومنحوها صلاحيات الإبادة للقوى الشعبية الاسبانية. وابتدأت الكفة تميل لصالح القوى اليمينية والفاشية، وانعكس ذلك على الموقف في الجبهات.
برشلونة التي كانت قلعة للقوى التقدمية، المدينة العمالية العريقة، التي كان اليساريون الاسبان يهيمنون عليها بالانتخابات الديمقراطية (450 ألف عامل نقابي)، ومن برشلونة أنحدر القائد العمالي التقدمي الكبير دورتي، تمكن منها الفاشيون واحتلوها، وأقاموا فيها المجازر، لا يميزون بين مسلح وأعزل وإمرأة ورجل وشاب وطفل، وكان الفلانج (اليمنيون) بقيادة الجنرال ميلان أستراي Millan Astray وهو مؤسس الفرقة الأجنبية في الجيش الاسباني. والجنرال أستراي كان من أبرز الشخصيات في جبهة الفاشست. نحيف، فظ كان قد قاتل من أجل اسبانيا في الفلبين ثم خدم في الفرقة الأجنبية الفرنسية ثم أسس مثلها في الجيش الأسباني وقاتل بفرقته بشراسة في جميع المعارك التي جرت في مراكش. وعندما حدث الانقلاب المعادي للجمهورية كان في الأرجنتين لكنه عاد على الفور إلى اسبانيا.
وهذا المحارب القديم كان قد جرح عدة مرات في الاشتباكات التي خاضها والتي فقد فيها إحدى عينيه وإحدى ذراعيه وعدد من الأصابع في الذراع المتبقية، وها هو الآن يلقي خطاباً من الشرفة على الناس وعلى جنوده مبتدأ خطابه بجملته المشهورة: Viva la Muerte " "يحيا الموت"، ثم ليقول " فليأت الحمر … الموت لهم جميعاً ".
ولكن كان هناك رجل في معسكر الفاشست، أمتلك الشجاعة وتجاسر ووقف بوجه الجنرال أستراي، وهو ميغويل دي أونا مونو(Miguel de Unamuno )، البروفسور العجوز عميد جامعة سلامانكا. والبروفسور الذي كان متعاطف أصلاً مع الانقلاب، بل وكان قد تبرع بالمال أيضاً من أجل :" نضال الحضارة ضد الظلم والتعسف" ولكنه الآت يشعر بالاشمئزاز من الإرهاب الفاشي الدموي وشعاراتهم المبتذلة البذيئة التي أحتقرها كمثقف . 1))
في 12 / تشرين الأول، احتفلت الشخصيات البارزة التي اختارت مدينة سلامانكا كمقر لقيادة التمرد الفاشستي في مبنى الجامعة بمناسبة اليوم السنوي لاكتشاف القارة الأمريكية بواسطة الاسباني كولومبوس، ومن أجل اسبانيا.
وفي هذه المناسبة القى الجنرال ميلان أستراي خطاباً وهو الذي كان يستغل كل مناسبة من أجل عرض ما تريد الفاشية عرضه. وفي خطابه أدعى أن أكثر من نصف الاسبان هم مجرمين وخونة. ووصف مقاطعة الباسك وكاتالونيا بأنها كالسرطان في جسم الأمة وإن اللحم الصحي هو الأرض واللحم المريض هو الشعب وإن الفاشية والجيش سيقومان بالإصلاح اللازم وتقديم الأرض كمنحة مقدسة.
وتعالى هتاف الحاضرين " يحيا الموت " ثم رفعوا أذرعهم بالتحية الفاشية وهم يصرخون: فرانكو ..فرانكو .. فرانكو .
وهنا نهض عميد الجامعة وساد القاعة صمت الموت عندما بدأ البروفسور الحديث:
" أريد أن أقول شيئاً بالنسبة إلى الخطاب، لنسميه هكذا، الذي ألقاه الجنرال ميلان أستراي. لندع الإهانة الشخصية جانباً وأنا الذي ولدت في بلباو الباسكية وأسقفنا كان كاتالانياً من برشلونه. ولا أدري إن كان هذا سيسمع برحابة صدر أم لا .
ها أنا أسمع صيحات مجنونة " ليحيا الموت" .. وأنا الذي أمضيت سنين أعمل في التناقضات واللامعقول، أقول لقد صدمني هذا اللامعقول. وإذ أجد نفسي بين المتـحدثين، فأنني أريد أن أوضح شيئاً إن الجنرال ميلان أستراي قد قرر بنفسه بأنه رمز للموت.. والجنرال أستراي هو من ذوي العاهات، ولسوء الحظ يوجد اليوم كثير وكثير جداً من ذوي العاهات في اسـبانيا، وقريباً سيكونون أكثر إذا لم يرحمنا الله. هنا يحاول واحداً من ذوي العاهات أن يبسط سؤالاً وجيهاً يشبكه في محيطه، الجنرال ميلان أستراي يريد أن يصنع اسبانيا جديدة على صورته هو، لذلك فهو يريد اسبانيا معوقة وهو ما أوضحه لنا بشكل لا يقبل الالتباس ".
وإلى هنا لم يستطع الجنرال أن يتحمل، فهتف مزمجراً " الموت للمثقفين" انفجرت خلفه عاصفة، وألتف أتباعه حول بطلهم الذي أهين، وآخرين وقفوا أمام منصة عميد الجامعة، البروفيسور أونامونو الذي تابع خطابه:
" هذا هو معبد للعلم والتعلم وأنتم خرقتم قدسيته، ستكسبون ولكنكم لن تنتصروا، ستكسبون( Sie werden gewinnen aber nicht siegen )لأنكم تمتلكون العنف المجرد ولكنكم سوف لن تنتصروا لأنكم ومن أجل النصر، القناعة والإيمان ضروريين. ومن أجل القناعة يجب أن يكون لديكم ما تفتقدونه، وهو التفهم والحق في هذا النضال. ومن واجبي القول، إنه أمر عديم الجدوى لفت أنظاركم أن تفكروا باسبانيا، ليس لدي ما أقول أكثر. ".
وقبل أن تهجم أيادي الكتائبيين، تمكن أحد الأساتذة من سحب البروفسور أونا مونو إلى خارج القاعة وإنقاذه. (2)
وفيما بعد، أقصي البروفسور عن وظيفته وفرضت عليه الإقامة الإجبارية في منزله. وبعد أسابيع قليلة أصيب بجلطة في قلبه. وألتحق نجله بمليشيات الجمهوريين قبيل وفاة والده، الذي كان وصف المتمردين الفاشست بنظام الإرهابيين والحمقى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. ميغويل دي أونا مونو : 1936 - 1864 : ولد في بلباو ودرس الفلسفة والآداب في جامعة مدريد، وحصل على كرسي اللغة اليونانية من جامعة سلامانكا، ثم أصبح عميداً لهذه الجامعة. كان مفكراً وجودياً له مؤلفات في الفلسفة كما كتب عدة روايات مشـهورة، وكاتباً مسرحياً وشاعراً. توفي في سلامانكا. الكاتب
2. يورد الكاتب الفرنسي أندريه مالرو في روايته عن الحرب الأهلية الأسبانية جانباً من خطاب أونومونو وأصداءه إذ قال : " إن أسبانيا بغير بسكاي وبغير كاتالونيا تصبح بلداً شبيهاً بك يا سيدي الجنرال: عوراء، كعتاء، الانتصار ليس معناه الإقناع. الكاتب
2956 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع