بسام شكري
اول يوم واخر يوم - قصة من الحرب المنسية
كنت قد قضيت الفترة من نهاية 1979 الى 1981 من خدمتي العسكرية في احدى الوحدات الثابتة في معسكر الرشيد في بغداد وفي منتصف سنة 1981 وبسبب استمرار الحرب العراقية الإيرانية ونقص في عدد المقاتلين في الجبهة فقد صدرت الأوامر بتقليل عدد المقاتلين في الوحدات الثابتة لنقلهم الى الجبهة فتم نقلي مع ثلاثة من المقاتلين في كتاب نقل واحد الى احدى وحدات المشاة في القاطع الأوسط من الجبهة وقد كان الجيش العراقي في ذلك الوقت داخل الأراضي الإيرانية قبل الانسحاب الى الأراضي العراقية, وفي خضم الحرب واجواء القصف المستمرة على مدينة بغداد فقد كان علي الالتحاق بالوحدة الجديدة خلال خمسة أيام, اتفقت مع زملائي المقاتلين ان نلتقي في كراج النهضة لنذهب سوية الى الجبهة وفي صبيحة اليوم الموعود وكان يوم اربعاء ركبنا اول سيارة تتجه الى خانقين وقد اخذ كل واحد منا ما يحتاجه من ملابس في حقيبة صغيرة ولا نعرف ما هي احتياجاتنا لأنها اول مرة نشارك في الجبهة, كان الطريق من بغداد الى خانقين قصيرا جدا بالنسبة لنا لأننا قضينا معظم الوقت نتحدث بأمور عديدة ولم يخطر ببالنا ان نخوض في موضوع الوحدة العسكرية التي تم نقلنا اليها لأننا لا نعرف شيئا عنها, فخلال فترة الحرب كنت اذهب الى البيت يوما وابيت في وحدتي في معسكر الرشيد يوما اخر والمسافة بين البيت في شارع فلسطين ومعسكر الرشيد لا تتجاوز النصف ساعة وكنت اعتقد وزملائي باننا سوف نرجع الى البيت حالما نصل الى الجبهة, في منطقة النفط خانة وقبل ان نصل الى مدينة خانقين نزلنا من السيارة واتجهنا سيرا على الاقدام نبحث عن وحدتنا العسكرية وقد واجهتنا في اول مسيرنا باتجاه النفط خانة سيطرة عسكرية فيها مجموعة من الانضباط العسكري وعندما سألناهم عن وحدتنا الجديدة بحثوا في جداول لديهم كافة أسماء الوحدات العسكرية في القاطع الأوسط فدلونا الى القطعات الخلفية لوحدتنا ومن حضنا لم تكن بعيدة عن الشارع العام سوى نصف ساعة بالسيارة, قام الانضباط العسكري بإيقاف اول سيارة وطلبوا من سائقها ان نركب معه لكي يوصلنا في طريقه الى هدفنا, كانت السيارة من نوع السيارات الصغيرة نوع واز وفيها مقعد امامي وثلاث مقاعد خلف السائق وباعتباري الأكبر سنا بين الثلاثة فقد صعدت السيارة وجلست بجانب السائق وكانت تلك اول تجربة لنا في الجبهة, السائق مرح ويضحك بمناسبة وبدون مناسبة وقد لبس البيرية برأسه بطريقة لم نألفها من قبل وقد ارجعها للخلف فبانت كل جبهته وقد اثار فضولي ذلك ومع مسيرنا في الطريق عرفت سبب لبس البيرية بتلك الطريقة العجيبة فقد كان السبب انه يريد ان يرى الطريق بوضوح ومع ذلك كان يقدم راسه الى الامام حتى يكاد راسه يصل الى زجاج السيارة الامامي ليستطلع الطريق بوضوح وكان يدخن طول الطريق ويتكلم معنا وكأنه يعرفنا منذ سنوات, وفجأة انتهى الطريق المبلط وظهر طريق ترابي طويل امامنا يدخل بين تلال جرداء قاحلة وبعد اكثر من كيلومتر توقف السائق وأشار بيده اليمنى الى مكان المقر الخلفي لوحدتنا, نزلنا وقد كانت عاصفة التراب التي خلفتها توقف السيارة مازالت تلف المكان ويمنع الرؤيا عنا, وصلنا الى الوحدة الخلفية لوحدتنا وكانت عبارة عن مجموعة خيام على شكل مربع ناقص ضلع وحولها ساتر ترابي بارتفاع مترين وقد استقبلنا مسؤول مشجب الأسلحة ورحب بنا احسن ترحيب وطلب منا الجلوس في زاوية خيمة كبيرة بعد ان طلب منا ان نغسل أيدينا لأننا يجب ان نشاركه طعام الغداء وفي لحظات جاء مع احد المقاتلين وهم يحملون قصعتين من الطعام وضعوها على طاولة خشبية وبدون مقدمات قال تفضلوا وقفنا حول الطاولة وكان عبارة عن رز ابيض وعليه دجاج مشوي مع مرق باذنجان وكمية كبيرة من البصل الأخضر والخبر, تناولنا الطعام بشهية غريبة لأننا لم نعتاد على هذا النوع من الطعام وبعد الانتهاء شربنا الشاي واخبرنا النائب الضابط بان هناك سيارة سوف تصل لتأخذكم الى (المتقدم) أي الى الجبهة ومن هنا علمنا ان الوحدة الخلفية التي نحن فيها تسمى الخلفي وهي عبارة عن مخزن ( مشجب) الأسلحة ومخزن الطعام والفراش والمعدات الهندسية لبناء الملاجئ , واما الجبهة فتسمى المتقدم, جاءت السيارة وركبنا فيها متجهين الى المتقدم وكان السائق اكثر هدوء من السائق السابق لكنه يلبس البيرية بنفس الطريقة , كان الطريق من الخلفي الى المتقدم متعرجا ً ويسير بين تلال عديدة على مد البصر وبعد ساعة ونصف وصلنا الى المتقدم وكان عبارة عن مساحة فضاء بحجم ملعب كرة القدم وحولها تلال طبيعية واصطناعية وقد تم حفر ملاجئ فيها بشكل نصف قوس, قال لنا السائق هذا ملجأ امر الفوج فنزلنا وقد كان المكان خاليا من المقاتلين الا القليل منهم يظهرون ويختفون فجأة, ونحن نتلفت حولنا طلب منا السائق ان ندخل الملجأ الذي امامنا لان امر الفوج بانتظارنا, دخلنا وكل واحد منا يحمل حقيبته الصغيرة وكان الملجأ عميق تحت الأرض وبعد اكثر من عشرين درجة وصلنا الى قاع الملجأ حتى راينا لأول مرة في حياتنا ملجأ في جبهة القتال, كان الملجأ مستطيل الشكل في زاويته البعيدة سرير النوم لآمر الفوج وفي المنتصف طاولة مستطيلة عليها مجموعة كبيرة من الأوراق والاغراض المختلفة يستعملها امر الفوج كذلك للكتابة وحول الملجأ رصت جلسة على طول الجدار مصنوعة من الخشب وعليها غطاء واسع وكان الجدار عبارة عن أكياس رمل للحفاظ على الجدران من الانهيار والسقف كان من الواح الزنك المرصوف تحتها قطع من الحديد والخشب, امر الفوج كان برتبة مقدم ذو اخلاق عالية من محافظة بابل ضخم الجثة مبتسم الوجه يشعرك بانه يعرفك منذ سنوات فقد رحب بنا اجمل ترحيب وطلب من مراسله ان يقدم لنا الشاي مع الكليجة التي قال انها من صنع زوجته وكان طول الوقت يتكلم معنا ويتصل بالتلفون ويعطي التوجيهات لقد كان لولب متحرك وشعلة من التفاؤل والحماس, كان الراديو في الملجأ يبث البيانات العسكرية ونحن نستمع وكلما انتهى بيان عسكري عادت الموسيقى والأناشيد الحماسية وعدنا للكلام وبعد اقل من ساعة بدأ قصف من المدفعية الإيرانية علينا وقد كانت الأرض تهتز من شدة القصف وفي موقف لن انساه ابدأ في حياتي نزل احد المقاتلين الى الملجأ واخبر امر الفوج بان امر حضيرة الدوشكا الثقيلة قد استشهد وقطعت شظية مدفعية رأسه ولم يبقى فوق الدوشكا سوى غترته الحمراء واصدر امر الفوج امرا بإخلاء الشهيد وشدد على عدم الخروج من الملاجئ عند القصف, خيم حزن كبير على المكان وكانت تلك اللحظات بالنسبة لنا مفاجأة غير سارة وبين مشاعر الحزن والخوف سادت لحظات من الصمت كنت فيها حائرا بين تشتت مشاعري وتذكرت فجأة قصيدة محمود درويش : أحن الى خبز امي وقهوة امي واعشق عمري لأني اذا مت اخجل من دمع امي .... عندها تماسكت واظهرت من الهدوء ومنذ تلك اللحظة علمت ان الشجاعة والجبن مصطلحان متناقضان نحن نخلقهما في داخلنا ونتحكم بهما.
بعد ان انتهى امر الفوج من ترتيب برنامجه المسائي ودعنا لكي نبيت في أحد الملاجئ القريبة منه على امل ان نلتقي في صباح اليوم التالي لكي يقوم بتوزيعنا على سرايا الفوج، ذهبنا الى ذلك الملجأ وقد حل الظلام وكان الملجأ كذلك تحت الأرض مثل بقية الملاجئ وفيه فراش كافي وفانوس وكمية من الأطعمة المعلبة والمياه واللبن لم نتمكن من النوم تلك الليلة وبقينا نتحدث عن رحلتنا وتوقعاتنا عما سيحدث لنا في الخطوط الامامية كل حسب معلوماته الشخصية وتحليله, وعند صلاة الفجر عادت المدفعية الإيرانية الثقيلة تقصفنا ونحن لا نعلم ماذا نفعل وكنا نسمع أصوات صراخ المقاتلين وكلامهم فيما بينهم وصوت انفجار هائل قريب علينا وقد اصابنا الفضول فكنا نريد الخروج لكننا تذكرنا قول امر الفوج بعدم الخروج من الملاجئ وقت القصف وبعد اكثر من نصف ساعة وقف القصف وقد بدأ اول الضياء فخرجنا وكانت مفاجأة لنا حيث ان القصف أدى الى استشهاد وجرح عدد من المقاتلين بين العشرة والخمسة عشر مقاتلا واحتراق سيارة نقل كبيرة وانفجار سيارة سنتانا كانت تحمل مدفع 107 ملم وعدد من قنابل المدفع والتي كانت في حوض السيارة وقد ساهمنا في نقل الجرحى والشهداء من المكان الى سيارة ثانية كانت بانتظار نقلهم الى المفرزة الطبية القريبة من مقر الفوج.
وخلال السنوات التي قضيتها في الخطوط الامامية سواء في الجبهة الامامية او الحجاب او في قوات الاستطلاع لم تمر علي احداث مثلما مرت علي في اليوم الأول لي في الجبهة, وكنت في بعض الأحيان اشعر بالحنين الى بغداد ولياليها الجميلة والى اهلي واصدقائي لكن ما كان يجري في الجبهة لم يعطيني الوقت الكافي للتفكير اكثر ولم اشعر في لحظة واحدة بالخوف ولغاية الان لم اجد تفسيرا لتلك الحالة, حتى عندما كنت ضمت قطعات عسكرية ذاهبة لصد هجوم إيراني واقصى خوف كنت اشعر به هو الخوف من الجوع وكنت كحال بقية المقاتلين قبل أي هجوم او معركة نلتهم كميات كبيرة من الاكل واي اكل ... كان الخبز واللبن والتمر والماء وهو المتوفر لدينا في تلك الأوقات , وهي حالة نفسية طبيعية يمر بها غالبية الناس سواء في هذا العصر او في العصور الغابرة.
في نهاية سنة 1985 صدر قرار مجلس قيادة الثورة لانتدابنا للعمل في هيئة التصنيع العسكري وقد قضيت اربع سنوات في الجبهة وكان قد مر علي اربع مواسم لشهر رمضان المبارك كنت اصومها في اشهر تموز واب حيث تصل الحرارة الى ستين درجة مئوية في الظل وكان افطارنا وسحورنا لتر ماء وتمرات والقليل من الطعام وقد وقعت في الاسر لدى الإيرانيين مرتين الأولى كانت عشر ساعات وتخاصلت منه حيث كنت مع خمسة مقاتلين فتمكنا من ارسال رسالة الى قطعاتنا فانقذونا بقصف المنطقة فهرب الجنود الإيرانيين وهربنا والمرة الثانية لمدة يومين حيث كنا واحدا وعشرين مقاتلا لم اذق في خلال اليومين من عذاب ومعاملة وحشية من قبل المقاتلين الإيرانيين ما يعادل عذاب كل ما مر علي طوال حياتي حيث كانوا يتصرفون معنا بهمجية و وحشية وكراهية لا تمت للإنسانية بصلة وذلك من كثيرة الشحن الديني والطائفي الذي كان يمارس لغسل عقول الإيرانيين من قبل الملالي الحاكمين لهم وقد تمكنت من الهرب مع رفاقي لتقدم قطعاتنا والالتفاف حول الإيرانيين فتركونا نهرب فمشينا يومين ونصف الى ان وصلنا قطعاتنا وقد تشرذمت فرقتنا وأصبحت أجزاء متفرقة في جبال بنجوين الشاهقة, اربع سنوات من الدوريات والكمائن والجبهة والحجاب ( وهو قوة انذار مبكر مقرها امام قطعات الجبهة الرئيسية بمواجهة العدو مباشرة ) وشاركت بأربع معارك كبيرة وشهدت انسحاب الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية الى الحدود الدولية وانتقلت اربع مرات من القاطع الأوسط الى القاطع الشمالي وبالعكس.
كنت في اجازتي الشهرية وقد علمت من احد زملاء الدراسة بان مجلس قيادة الثورة قد اصدر قرارا بانتدابنا للتصنيع العسكري فذهب الى مقر الهيئة في شارع فلسطين واخذت نسختي من القرار وسلمتها الى امر الفوج بهدف إجراءات الانتداب والانفكاك من الخدمة العسكرية, كان الجو باردا عند التحاقي بالجهة للمرة الأخير وكانت وحدتي العسكرية كذلك في القاطع الأوسط ولم يكون امر الفوح حينها موجود فانتظرت يوما كاملا حتى عاد الى مقر الفوج وقام بالموافقة فورا على قرار الانتداب ووقع كتاب ارسالي الى التصنيع العسكري, استلمت الكتاب وقد كان الوقت في بداية المغرب فرحت كثيرا بذلك ولكني لم أتمكن من اتخاذ قرار المغادرة لان هناك اخبار بتوقع هجوم إيراني كبير علينا في تلك الليلة والمفروض ان انتظر حتى الصباح للعودة الى بغداد لكني فوجئت عندما ذهبت لتوديع امر الوج يقول لي ان الفوج غير مسؤول عن ما سيحصل لي اعتبارا من استلامي كتاب الانفكاك من الخدمة العسكرية, في البداية سمعت تلك العبارة وفي غمرة تحيته وشكره على حسن معاملته واخلاقه وخرجت من غرفته وقد بدأت اسمع أصوات القصف المدفعي من بعيد على سرايا الفوج وهذا يعني ان التمهيد للهجوم قد بدأ, رأيت المقاتلين يسرعون الى اخذ الارزاق الى الملاجئ والارزاق بالمصطلح العسكري العراقي هي الأطعمة وازدحمت الحركة في مقر الفوج وبقيت لوحدي لا اعرف كيف اتصرف وليس لدي معارف في مقر الفوج الا القليل الذي انشغل عني بالتحضير لمواجهة الهجوم الإيراني وقفت في احدى الزوايا انظر الى السماء وقد كان عمر القمر عشرة أيام أي ان لدينا ما يكفي من الضياء وما هي الا لحظة ومر بي احد المقاتلين الذين سبق وتعرفت عليه فسألني ماذا تفعل هنا فأخبرته عن المأزق الذي امر به ولا اعرف كيف اتصرف فنصحني ان اغادر مقر الفوج فورا ولو ان الأوامر صدرت بعدم ارسال أي سيارة الى المواضع الخلفية ولا خيار امامي سوى الذهاب الى خانقين مشيا على الاقدام ونحن نتكلم ونناقش الموضوع توقف مقاتل لا اعرفه وقال لي انا حصلت على إجازة اضطرارية لان والدي في المستشفى وأريد العودة الى الخلفي ومن هناك الى خانقين للعودة الى بغداد فاتفقت معه مباشرة على مصاحبته وخلال اقل من عشر دقائق كنا نسير باتجاه القطعات الخلفية بدون أي سلاح وقد كانت الساعة قد تجاوزت السادسة مساء, وقبل ان ندخل في الظلام مررنا بكمية من الأنقاض الخشبية والمعدنية فشاهدت خشبة معول من النوع القصير على الأرض وتبادر الى ذهني ان احملها في يدي للدفاع عن انفسنا اذا ما صادفنا حيوانات في الطريق, زميلي لم يستوعب الفكرة لكني اخذت قطعة الخشب ووضعتها على كتفي وبدأنا نسير, كان الطريق ترابيا غير مستوي فمرة يرتفع ومرة ينخفض ونمر بمياه او تصبح الأرض طينية تحت اقدامنا لكننا لا نرى شيئا من الشارع بوضوح سوى ميسم لان ضوء القمر لم يكن بتلك القوة والوقت ما يزال مبكرا مشينا ساعة وانقطع مرور العجلات من جانبنا متجه الى الجبهة وبدأنا نسمع قصف المدفعية الإيرانية على مقر الفوج فاسرعنا الخطى وفي لحظات اصبحنا نهرول ونركض للابتعاد عن المنطقة لا نلوي على شيء سوى الابتعاد عن القصف المدفعي وبعد اقل من نصف ساعة من القصف المستمر على مقر الفوج سمعنا شهيق قذيفة مدفع تطير فوقنا فانبطحنا على الارض بشكل تلقائي فسقطت القذيفة بعدنا بحوالي 300 متر وسمعنا زخات الشظايا تطير فوقنا وتنزل على الأرض كأنها زخات مطر فحمدنا الله اننا كنا في تلك اللحظة في ارض منخفضة وبيننا وبين مكان سقوط القنبلة تلة ترابية ولم ننهض من مكاننا خوفا من سقوط قنبلة ثانية ومن شده الصمت والانفعال كنا نسمع صوت تنفسنا وكأننا نتنفس في مكبر صوت, مرت خمس دقائق ثقيلة ولم يحدث شيء فتبين لنا انها قذيفة طائشة تخطت هدفها في مقر الفوج الى مسافة ابعد, نهضنا واخذنا بالمشي السريع الذي يشبه الهرولة واصبح الشارع مستويا اكثر ومع مرور الوقت اختفت التلال واصبح ضوء القمر اكثر قوة من قبل فأخذنا نشاهد ما حولنا من تضاريس مشينا ساعتين ونحن نتحدث في صوت مرتفع وسط سكون الليل وفجأة لاحظنا ان مجموعة من الذئاب تسير بجانبنا علي يسار الطريق بدون ان تحدث أي صوت فما كان من صاحبي حتى حمل حجرا ورمى عليها فتوقفت وأخذت تزمجر فأخبرته بانها تستعد للهجوم علينا ولا سلاح لدينا سوى ان نشعل نارا ً فتهرب من النار واخذت الوح لها بالعصا الغليظة التي احملها وانتزع صاحبي الجاكيت العسكري والبلوز التي تحته واشعل النار في البلوز حيث لا يوجد لدينا شيء نحرقه ونحن في وسط الظلام ثم خلعت الجاكيت العسكري كذلك واشعلت النار في البلوزة التي كنت البسها وحملت البلوزة براس العصا واتجهت نحو الذئاب حتى ابعدها عنا لكنها لم تخاف بل وضعتنا في شبه دائرة من اجل الانقضاض علينا وما ان صار اثنان منها خلفنا حتى اصابتنا هستيريا غريبة واخذنا نصرخ بأعلى اصواتنا وهجمنا عليها انا بالعصى وصاحبي يلوح بالجاكيت العسكري فما كان من الذئاب الا وانفضت من حولنا وتركتنا فهدأ حالنا وعدنا نسير لكن على حذر خوفا من ان ترجع الذئاب تلاحقنا مرة ثانية, شعرنا بالتعب واقترحت على صاحبي ان ينام واحد منا ويصحى الثاني لحراسته فضحك علي بصوت مرتفع ازاحت منا رهبة المواقف التي مرت بنا من سقوط القنبلة الى هجوم الذئاب وقال لي كيف ننام في هذه الأرض القاحلة ؟ قلت له سأشرح لك الفكرة بهدوء لكن عليك ان تهدأ وتطيعني, أولا نمشي ونحن نضع أيدينا في ايدي بعض من الكوع للكوع وبدون ان نتكلم وانا ابدا بالنوم حيث اغمض عيني ونستمر في المشي وانت تراقب الطريق وبعد عشر دقائق تطلب مني ان افتح عيني وتنام انت والنوم يعني ان نغمض اعيننا فقط حتى ترتاح وهذا اقصى من يمكننا عمله حتى نتمكن من الاستمرار بالمشي للوصول الى القطعات الخلفية, لكنه لم يصدق الفكرة وبدأت انا بالنوم وبمجرد ان اغمضت عيني وانا امشي حتى شعرت براحة كبيرة وهدوء واستمرينا بالمشي الى ان مرت اكثر من ربع ساعة فطلب مني ان يجرب الفكرة ففتحت عيني واخذ هو دوره في النوم وتركته بما يزيد على النصف ساعة ثم طلبت منه ان يفتح عينه ما ان فتح عينه حتى قال لي ان فكرتك ليست مجنونة كما تصورت عندما سمعتها لكنها عملية وقد ارتاحت عيني كثيرا ولولا انني امش لدخلت في عالم الاحلام, بعد مضر اكثر من ساعتين على تبادلنا المشي والنوم بدأ اول الضياء واشتد القصف على مقر الفوج وشاهدنا من بعيد نيران الأسلحة الخفيفة فتأكدنا من ان الهجوم قد بدأ على الفوج وقد حمدنا الله على اننا مشينا في هذا الليل البهيم ولم يصبنا الهجوم الإيراني.
وصلنا القطعات الخلفية لفوجنا وكان الضوء يملئ المكان وبدأ الجميع بالنهوض من النوم وتعجب من التقينا به كيف قضينا الليل كله نمشي والقصف وراءنا والمكان غير امن حيث الألغام والحيوانات المفترسة فقصصنا ما مر بنا خلال تلك الليلة العجيبة وعند وصولنا الى فقرة النوم والمشيء في الطريق ضحكوا علينا ولم يصدقوا فعذرناهم لانهم لم يمروا بما مر ببنا في تلك الليلة العجيبة, جلسنا في مكان مفتوح وعلى عجل شربنا الشاي مع قليل من البسكويت وبعد قليل خرجت سيارة الى خانقين فركبنا بها وودعنا الجميع وفي كراج النقل في خانقين كانت الساعة تقارب السابعة والنصف وجدنا هناك باصات كبيرة وسيارات تكسي صغيرة فاتجهنا نحو السيارات الصغيرة فراينا سيارة تكسي نوع مرسيدس فيها راكبين وسيارات أخرى ليس فيها ركاب, فسالت السائق نحن في عجلة فهل يمكنه ان يبدأ السير نحو بغداد وندفع له اجرة الراكب الاخر ليكون عددنا خمسة ؟ فنظر الي نظرة غريبة وقال لي ننتظر راكب اخر, لم ارتاح من هذا السائق واخذت امشي باتجاه مقهى صغير في داخل الكراج لشراء شيء اكله وتبعني زميلي المقاتل وقال لي يجب ان نعود بسرعة وفي أي لحظة يمكن ان يأتي راكب فقلت له اني اشعر بالجوع ولو حصل أي شيء لا يهمني لأني لن اتحمل ودخلنا الكافتيريا وطلبنا كباب ومعلاق وشاي وخلال دقائق حضر الاكل وبدأنا ناكل وعيننا على سيارة التكسي وانتهينا من الاكل ورجعنا الى السيارة فصعدنا الى جانب السائق بانتظار الراكب الأخير فحضر ثلاثة ركاب مع بعض سلموا على السائق فاخبرنا السائق بانه يعتذر منا لانهم اقاربه وقد اتفق معهم ان يأخذهم الى بغداد فتأخروا وطلب منا النزول فنزلت مسرعا لكن زميلي أراد ان يجادل السائق فسحبته من يده وقلت له السيارة الثانية بانتظارنا ولا داعي للمجادلة, ركبنا السيارة الثانية وسارت السيارة الأولى الى بغداد وبقينا نحن ننظر بقية الركاب, لم انسى تلك اللحظات طول عمري, السائق الذي ركبنا معه قال ان سائق السيارة الأولى مستعجل دائما ويريد ان يذهب الى بغداد بسرعة فلا تهتموا بما قام به وهو دائما هكذا فلم نجيبه او نعلق على كلامة, مرت خمس دقائق اكتمل الركاب الخمسة في السيارة وبدأنا السير باتجاه بغداد, المسافة بين خانقين والنفط خانة ليست بعيدة وما ان عبرنا تقاطع مدينة النفط خانة حتى شاهدنا سيارة تكسي منقلبة وحولها جمع كبير من السيارات والناس فأشار سائق التاكسي الى الحادث وقال لو كنت لوحدي لوقفت لأرى ما يحدث لكنكم معي وقال لنا لقد اخبرتكم بان سائق السيارة التي كنتم فيها مستعجل دائما ولم نفهم ما يقصد وبعد كيلومترات قليلة سالته انت تعرفه لانه زميلك وقد اخبرتنا عندما كنا في الكراج انه مستعجل دائما لكن لماذا تعيد ما قلته فأجاب لان السيارة التي انقلبت في الطريق هي سيارته وان الله احبكم لأنكم لو ركبتم معه لكنتم الان في عداد المصابين أو القتلى, نظرنا الى وجوه بعضنا البعض ولم نصدق ما قاله السائق لكن التعب الذي اصابنا وما مررنا به منعنا من التعليق على ما قاله واكتفينا بالقول الحمد لله.
وصلت السيارة الى بغداد ونزلنا في كراج النهضة ومن هناك بتكسي اخر الى البيت وهناك كانت المفاجأة الكبيرة عندما نزعت الحذاء العسكري وقد وجدت ان الجوارب قد التصقت بقدمي وهي مليئة بالدم واخذت انزعها ببطء وكان الألم لا يوصف ولم تشفى رجلي الا بعد أسبوعين من العلاج، لقد كانت تلك اخر مرة أزور فيها الجبهة وهي لا تختلف عن اول مرة وقد لعب القدر والحظ معي لعبة مزدوجة ما زالت محفورة في ذاكرتي.
واليوم عندما استعيد تلك الذكريات وقد مر عليها تسعة وثلاثين عاما لم اصدق اني انا كنت نفس ذلك الشخص الذي مرت به تلك الظروف وقد اعتبرها اليوم لو قراتها نوعا من الفانتازيا, فقد كان اخر يوم لي في الجبهة صعبا وغريبا مثلما كان الأول يوم لي في الجبهة.
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
830 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع