خالد الدوري
في نشوء النظرية السياسية في الإسلام: ج١١: شرعيّة ألألقاب:
أنّ كثرة الحديث في نظرية الحُكم، الصادر عن المتكلمين والفقهاء والإصوليين، قد منحها مساحة اكبر في تفكير الناس. ولهم في ذلك الحق فمسألة الحُكم هي:
1- الخطوة الأولى التي واجهت المسلمين كفتنة، ومصدر خطر كبير، وقلق يُفضي الى اوخم العواقب، في ساعة ضَعف وارتجاج برحيل الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك يوم السقيفة. حيث كثُر اللغط، بعد ان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الفيصل الحاسم للمنازعات والفتن، وما نتج عن هذا اللغط من تخلف البعض عن البيعة.
2- ان قضية الحُكم موضوع متجدد. ويثار بين الفَينة والأخرى، كلّما نُصِّب خليفة وإمام للمسلمين، وكلّما أبحر مُبحر في ثنايا التاريخ بحثًا عن حقيقة، لإصلاح راعٍ أو رَعيّة، أو لإقامة نزاع سياسي إنتصارًا لمذهب أو هوى.
هل الألقاب عَفويّة أم مَقصودة؟:
من المُرجّح انّ الألقاب التي اطلقها المسلمون الأوائل على رئيس الدولة وجرت بها السنتهم قد جاءت وفق الإتجاه الإسلامي، في أنها تحمل عندهم معنى خاصًا مقصودًا لذاته كمثل "المعنى الخاص" الموحى به إضافه (رسول الله) الى لقب خليفة، في إضفاء ضرب من معاني الجلال والرهبة والقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم كما يُفهم في الوقت الحاضر. ولرُبّما تقصّدوا أو لم يتقصدوا انتقاء الفاظ دينية مستعملة في نصوص قرانية او نبوية، لتكون ذات مدلول عميق في دعوة الحاكم. الا ان المقطوع به أنّ الشريعة نفسها لم تخلع هذه الالقاب على شخص ابي بكر الصديق (رضي الله عنه) "خليفه رسول الله" يوم ذاك.
هنالك إدعاء مفاده: انّ اللقب ما كان يحمل سوى معنى (واليًا او اميرًا عليهم بعد ان اصبحوا بغير امير أو وال بعد الرسول الذي كانوا تحت امرته وولايته... فهو خليفة رسول الله بهذا المعنى وحده.. أي انه راس هذا المجتمع او اميره، اشبه بما كان للرسول من امراء على البعوث التي يبعث بها الى القبائل ، لدعوتها الى الاسلام او لتفقيهها في الدين)(1)، كما يذهب الى ذلك الدكتور عبد الكريم الخطيب. ونرى أن هذا من الوهم والخطا في ترشيد وتوجيه هذه الألفاظ بهذا الشكل. ولبيان ذلك إقتضى التعقيب:
تعقيب على الخطيب:
تعقيبًا على رأي الخطيب (رحمه الله) فإن رأيه هذا غير مُسلَّم به. بإعتبار أنّ كلمة والٍ وأمير كانت من المفاهيم المتعارف عليها، ليس بين المسلمين وحدهم، وانما حتى بين اولئك الذين لم يُسلموا بعد. إذ ان إبن خلدون يشير الى أن أهل الجاهلية كانوا يَدعُون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمير مكة وامير الحجاز(2) يوم ان كانوا اهل وثنية لم يتسربلوا بالاسلام بعد. ولكننا لا نعلم انها سِيغَ اطلاقها على ابي بكر الصديق (رضي الله عنه) مع انها تؤدي الغرض المطلوب منها في تسميه القائم بشؤون الدولة. بيد اننا وجدنا ابا بكر الصديق (رضي الله عنه) يرفض ان يقال له: يا خليفة الله، فيقول لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) وذلك لانه ادرك بثاقب فكره، أنّ التسمية ربما توحي للبعض بالتقديس والعصمة والإجلال، لارتباطها بكلمة "الله"، وانه نائب عن الله في ادارة شؤون خلقه، واقامة العدل بينهم. او ربما رفضها لعلّة لغوية مؤدّاها: إنما يستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالى لا يغيب ولا يموت. فهو قد رد ما يمكن ان يكون مدعاة فتنة وسوء فهم في حاضره ومستقبل الأيام. مع العلم ان بعض الفقهاء قد اجازوا إطلاق تسمية "خليفة الله" على رئيس الدولة. وعلى أي حال فهذه الإنتباهة من ابي بكر الصديق (رضي الله عنه) هي التي تجعلنا نعتقد ان مدلول الكلمة كان مدلولاً دقيقًا في تصوره، مرتبطا بالمنظور الشرعي لها. وأن اختيارها ما كان وليد العبث أو الإعتباط، وانما لما تؤديه من معنى شرعي. وهو ذات المعنى والمدلول الذي نفهمه حاليًا.
وعليه كان الأصوب بالدكتور عبد الكريم الخطيب (رحمه الله) ان يقول ان الصحابة ما كانوا ينظرون الى مدلولها الحَرْفيّ المنقطع عن مقتضاه. فهي امارة المؤمنين، ونيابة عن صاحب الشريعة في التنفيذ، وخلافة للنبوة في الحراسة والسياسة. فالصحابة هم اعلم الناس بالفاظ القرآن الكريم والسّنة النبوية واللغة العربية.
ولو صح الاستدلال على ان الالفاظ التي استخدموها هي الفاظ مجردة منقطعة عن صاحبها، وانه لا مدخل للتوجيه الاسلامي فيها، فسيكون من نتيجه ذلك، إضاعة معظم الآثار التي وصلتنا عن الأجيال الأولى، ولغدت اقوال الصحابة عبارات لا قيمة لها وفق هذا التخريج.
يتضح من كل ما تقدم ان القاب السلطة مثل: "الخلافة والإمامة وإمارة المؤمنين..." هي الفاظ انبثقت في خَلَد المسلمين وفق التصورات الإسلامية. فإذا ما قلنا انها ليست من الكلمات الشرعية، فانما نقصد انها ليست مما اوصت بها الشريعة او خلعتها على رئيس الدولة. وانما هي وليدة الحاجة والظرف في زمن معين.
إختيارات البعض: إمامة أم خلافة:
هنالك إتجاه لدى بعض الكتاب المتاخرين، في تفضيل لفظ على سواه في ابحاثهم العقدية والكلامية في موضوع نظام الحكم. فالدكتور صبحي الصالح مثلاً: يُرَجّح استخدام كلمة "امام وإمامة" في هذه الأبحاث بإعتبار تصريح الحديث النبوي بها، كمثل حديث: (الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته) وحديث: (عليك بجماعة المسلمين وإمامهم)، وورودها في القرآن الكريم أكثر من غيرها بأدق معانيها في القيادة والزعامة، بصيغتها المفردة والجمع. ويستدل الدكتور صبحي الصالح: (ان اشتقاق الإمامة بمعنى الذي يؤتم به، ويُقتَدى بعمله في نظام معين هو اقرب شيء الى روح الشرع الاسلامي فيما تطور من نظمه السياسية. لأن كل ما في الاسلام من التشريع السياسي وغيره خاضع لنظام النبوة، اقتداء به لا ارثا له)(4). وكذلك هو راي الدكتور توفيق سلطان اليوزبكي.(5) كما ان الدكتور ضياء الدين الرّيّس (6) يميل هو الآخر الى ترجيح هذا التعبير على غيره. ويزيد الدكتور قحطان عبد الرحمن الدوري (7) في اسباب ترجيحه لهذا اللقب في أنَّه: يوضح محافظة الخلفاء على إمامة المسلمين في الصلاة ووجوب الاقتداء بهم.
ولعلنا نستشهد لتوكيد ما ذهب اليه المفكرون الافاضل الآنف ذكرهم - وآخرون- ... في تفضيل استخدام لقب "إمام وإمامة"، بما ورد عن بعض السلف كالإمام احمد - رحمه الله- كراهتهم لإطلاق لقب خليفة على من تولى رئاسة الدولة الاسلامية بعد الحسن بن علي (رضي الله عنهما)(8) حيث قالوا بانقطاع الخلافة. ومن ثمّ فهي (امامة وملك) الى يوم الدين، محتجين لذلك بما يروى من حديث سَفينة مولى رسول الله، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة في امتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك)(9)، وإن كنّا لا نجزم ان هذا يصلح دليلاً على إختيارنا ما اختاروه، بإعتبار تضعيف أئمة فضلاء للاستدلال بهذا الحديث... إلّا أنّنا اوردناه للإستئناس. والله اعلم.
المصادر والمراجع:
(1) الخلافة والإمامة للدكتور عبد الكريم محمود يونس الخطيب، المولود في سوهاج من صعيد مصر سنة 1920م/ ص 340 دار المعرفة للطباعة والنشر/ بيروت 1395هـ - 1975م.
(2) المقدمة لابن خلدون/ ص 179 طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
(3) الأحكام السلطانية لابي يعلى الفرّاء/ ص 27 تحقيق وتعليق محمد حامد الفقي شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده بمصر الطبعة الثانية 1386هـ - 1966م.
(4) النظم الإسلامية للدكتور صبحي الصالح/ ص290 مطبعة نجيب/ بغداد.
(5) دراسات في النظم العربية والاسلامية للدكتور توفيق سلطان اليوزبكي/ ص 29 جامعة الموصل 1397هـ - 1977م.
(6) النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الرّيّس/ ص111 و 130 دار التراث/ القاهرة /ط7/ 1979م.
(7) الشورى بين النظرية والتطبيق للدكتورقحطان عبد الرحمن الدوري/ ص 8 مطبعه الأمّة/ الطبعة الاولى 1394 هـ - 1974م.
(8) مآثر الأنافة في معالم الخلافة للقلقشندي 1/ 12 تحقيق عبد الستار فراج/ سلسلة رقم 11 صادرة عن وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت/ 1964م.
(9) سُنَن أبي داوود 2/171 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد/ دار الفكر. والحديث كذلك في سنن الترمذي 9 /71 تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان/ دار الفكر / ط2/ 1394هـ - 1974م.
1079 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع