أحمد العبداللّه
القضية الكردية.. دروسٌ وعِبر
(حرب الشَمال)؛كما كانت تُسمّى, واحدة من أصعب الحروب وأقساها التي خاضها الجيش العراقي عبر تاريخه الطويل, لمجموعة أسباب, منها؛ جغرافية الأرض الشديدة التعقيد ومناخها القاسي شتاءًا, وإنها حرب عصابات وليست حربًا نظامية بين جيشين, وامتدادها الزمني لنصف قرن تقريبا. والأهم من كل ذلك؛ دور العامل الخارجي؛(الإيراني- الإسرائيلي- الأمريكي)في تأجيجها وإدامتها لأطول مدة زمنية لاستنزاف الجميع, ثم التخلّي عنهم. وكان الكُرد هم الطرف الذي دفع ضريبة ثقيلة في سوق مساومات ومصالح القوى الطامعة التي لا ترحم, وكما حصل عامي 1975و2017, حتى قيل إن؛(لا صديق للأكراد إلّا الجبال)!!. فهذه المنطقة مُقدّر لها عدم الاستقرار, من قبل الغرب بشكل خاص*.
يقول(باتريك سيل)في كتابه؛الصراع على الشرق الأوسط؛إن كيسنجر كان مصمّمًا على منع دعم العراق عسكريا لسوريا والذي تجسد بقوة خلال حرب تشرين 1973. فتواطأ لتحقيق هذا الهدف مع شاه إيران ومع الإسرائليين في ربيع عام 1974 للـ(نفخ في الجمرات التي ما زال الدخان يتصاعد منها بسبب النزاع الطويل الأمد بين الأكراد العراقيين وبين حكومة بغداد, لإبقاء الجيش العراقي مشغولا في الداخل. وكان تحريك الأكراد مشهدا محفوظا جيدا من قَبْل, وقد أجرت عليه إسرائيل(بروفات)). وساعدت الأكراد العراقيين بشكل متقطع من منتصف الخمسينات حتى منتصف السبعينات, لاعتقادها بأن زعزعة استقرار الأقطار العربية, حتى تلك البعيدة عنها, هو شيء يخدم مصلحتها دائما.
ويضيف(سيل)؛إن تلك(القضية الموحلة), حققت بها لجنة تابعة للكونغرس الأمريكي عقب فضيحة(ووترغيت), وعند اكتمال التحقيق عام 1976, اعتُبرِت محتوياته(شديدة الحساسية بحيث لا يمكن نشرها)!!. ولكن مما تسرّب منه ونشرته مؤسسة(برتراند رسل)للسلام عام 1977؛(أن كيسنجر قد أوضح بأن تسليح وتمويل الأكراد كان وسيلة لردع العراق عن أي(مغامرات دولية),أي تقديم العون لسوريا. ولم يكن الهدف المقصود هو أن يربح الأكراد, بل أن يستنزفوا قوة العراق. وإن عملاءنا الأكراد الذين شجعناهم على القتال, لم نخبرهم بهذه السياسة)!!.
لقد ظلت القضية الكردية لفترة طويلة من الزمن, جُرحًا نازفًا في جسد العراق, فكم من الأرواح؛عربًا وكُردًا على حدٍ سواء, قد أزهقت, ومن الأحقاد قد زُرعت, ومن أعمال الانتقام والانتقام المقابل, من عقالها انفلتت, ومن الأموال والثروات بُدّدت, ومن الجهود استُنزفت, ومن الفرص الثمينة أهدرت. فلماذا كلُّ ذلك؟.. أليس فينا رجل رشيد؟!.
لقد خسر الجميع؛العرب والأكراد, رغم إن خسارة الشعب الكردي أشدّ وأقسى, باعتبار إن مطحنة الحرب قد جرت فوق رأسه وعلى أرضه التاريخية. والحروب عندما تندلع بين طرفين أو أكثر, لابد أن يحصل فيها الكثير من الانتهاكات والتي يقع أذاها المباشر على المدنيّين العُزّل, وذلك الأمر خلّف جروحًا غائرة حتى يومنا هذا في نفوس الشعبين الشقيقين العرب والكُرد. فمهما كانت الجيوش منضبطة, فلا يمكن الحؤول دونه, وحتى في زمن المسلمين الأوائل, كان يحصل شئ من ذلك. وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(رضي الله عنه), يكتب في معاهدات الصلح مع الأقوام الأخرى, فقرة تنصّ على البراءة من(معرّة الجيوش). ومعرّة الجيوش, هي؛ انتهاكات حقوق الإنسان في لغة اليوم.
لقد كان العهد الملكي, أبعد نظرًا في تعامله مع المشكلة الكردية, سياسيا وحتى عسكريا. أما العهود الجمهورية المتعاقبة فكانت نظرتها لهذه القضية, أقرب للارتجال منه للعمل الممنهج, وكان تناقضها ظاهرًا ما بين التساهل الزائد أو القسوة المفرطة, فيأتي حاكم يمنح الأكراد اللا مركزية الإدارية, ليأتي بعده آخر ويمنحهم حكمًا ذاتيا, وقد يصل الأمر إلى التفكير بمنحهم الاستقلال التام. ففي اجتماع للقيادة العراقية في آب 1988, تم نشره مؤخرا, يتحدث فيه الرئيس صدّام حسين بصراحة ووضوح عن منح الأكراد دولة مستقلة كاملة الصلاحيات.
وكانت واحدة من أكبر الخطايا التي ارتكبتها الحكومة العراقية خلال عقدي السبعينات والثمانينات, هو ما عُرف بـ(تعريب كركوك), حيث تم جلب عوائل عربية من جنوب العراق بشكل خاص بإغراءات مادية ووظيفية, وترافق معها تهجير قسم من أكراد كركوك باتجاه السليمانية وأربيل وجنوب العراق ووسطه, لتغيير التركيبة السكانية وجعل الأكثرية للعرب داخل المدينة, وهو قرار خاطئ, بجانب إنه جريمة ضد الإنسانية, وقد اعترض عليه حتى عرب كركوك الأصليّين أنفسهم!!. وبعد الاحتلال في 2003, تكرّر الفعل الخاطئ ذاته, ولكنه معكوسًا هذه المرة!!.
كما إن محاولات حُكم البعث تعميم اللغة العربية قسرًا, وإجبار الكُرد على الانتماء لحزب البعث(العربي)الاشتراكي, أو تغيير قوميتهم, كان خطأَ آخر, دفع الأكراد للتمسّك الشديد بها, وفق قاعدة(لكل فعل رد فعل). وكان بإمكان حكومة بغداد نشر اللغة العربية في صفوف الأكراد بجانب تعلّم لغتهم الأم, وتحبيبهم باتقانها بالحثّ والتشجيع وليس بالقسر والإجبار, وكذلك من خلال مدارس تحفيظ القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة, خصوصا وإن الأغلبية الساحقة من الكُرد هم من المسلمين المتمسّكين بدينهم وعقيدتهم, وليس من خلال تنظيمات الحزب الحاكم الذي ليس له قبول لدى أغلبية الشعب الكردي.
ورغم كل ما قيل عمّا تعرّض له أكراد العراق من ظلم خلال فترات تاريخية مختلفة, ولكن لا يمكن مقارنته بالظلم الذي تعرّضوا له في إيران وتركيا**. وقد كان بيان 11 آذار 1970, خطوة سبّاقة ومتقدمة للأمام, لو أعطيت الفرصة المناسبة لتطبيقه من كلا الطرفين, وعلى أساس من حسن النوايا. ومما يُؤسف له هو قيام بعض الأحزاب والحركات الكردية بالاستقواء بقوى إقليمية ودولية تضمر الشر للعراق وأهله, والارتماء في أحضانها ووضع كل بيضها في سلالها, مما يدفع الجانب الحكومي لعقد صفقة سياسية مع بعض تلك القوى, تكون على حساب الوطن, وكأن الفريقين في مزاد مفتوح!!. ولو اتّبعت القيادات الكردية أسلوب التدرّج في نيل المطالب, وفق مبدأ(خذ وطالب), ولو تنازل كل طرف للآخر بدل التنازل للأجنبي الذي لا يهمه سوى مصالحه, لكان ذلك أجدى وأنفع بكثير.
ففي كتابه(تقييم مسيرة الثورة الكردية وانهيارها), يتحدث محمود عثمان عن اجتماع مفصلي كان حاضرًا فيه مع الشاه الإيراني في طهران بعد أسبوع فقط من اتفاقية الجزائر, وفيه يخاطب الملا مصطفى البرزاني شاه إيران, بعد أن أوقف الأخير دعمه للحركة الكردية, قائلا, وبالنصّ؛[نحن شعبك ومادمت راضيا عن اتفاقية الجزائر التي تؤمّن مصالح ايران التي هي وطننا الام فلا يوجد لدينا شيء ضدها ونحن رهن اوامرك اذا قلت لنا موتوا نموت او عيشوا نعيش, لقد كنا مخلصين لك ولا نزال وسنبقى هكذا في المستقبل أيضا]!!. ولو كان هذا(الكرم الحاتمي)قد حصل مع الحكومة العراقية في بغداد, لتجنبنا سيول الدماء التي سالت بلا طائل, على ثرى العراق بين الأشقاء في الوطن الواحد على مدى السنوات 1961-1991.
وفي الختام؛ ينتابني حزن شديد وألم كبير, كلما مرّت على خاطري هذه الصفحة السوداء الملطّخة بالدماء من تاريخنا المعاصر, والتي كنتُ شخصيًّا مراقِبًا لها من بعيد, ولمستُ جانبًا منها خلال رحلة التهجير إلى أربيل في 2014 وما بعدها. وأتمنىّ من كل قلبي, أن تُطوى إلى غير رجعة. ولكن علينا الاستفادة من دروسها وعِبرها. والله المستعان.
..........................................
* يذكر الوزير؛صبحي عبد الحميد في مذكراته(العراق في سنوات الستينات 1960-1968), ما يلي؛(لا مصلحة للغرب في تشجيع الثورة الكردية وإسنادها واستمرارها أو خلق المشاكل للعراق. وإضافة إلى غلق الحدود أرسلت إيران ضابط ارتباط إلى كركوك وأرسلت تركيا ضباط ارتباط إلى الموصل يخبران القيادة العسكرية العراقية بتحركات الأكراد على حدودهما. كما أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية(1000)ألف قنبلة نابالم مع كمية من الأعتدة لحرق المناطق والقرى التي يتجمع فيها المتمردون. كما تعاقدنا معها على شراء خمسين ألف قنبلة مدفعية لمدافع ٧٥ ملم الجبلية التي وصلت بسرعة)!!.
** حرَم شاه إيران الأكراد من أبسط حقوقهم. وشنَّ عليهم نظام خميني الدجال حرب إبادة مستمرة منذ سنة 1979. أما في تركيا فكان القمع شديدا, لدرجة إنه تم إنكار وجود القومية الكردية من أساسه, وأطلقوا عليهم تسمية؛(أتراك الجبال)!!.
2815 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع