خالد الدوري
في نشوء النظرية السياسية في الإسلام: ج١٠/ ألنُّظم والنَّظرية:
تحدّث المتكلمون في مصنفاتهم طويلاً عن الإمامة وتفصيلاتها والمناقشات التي دارت حولها، إلّا انهم يكاد أن يُجمعوا على انها من فروع الدين وليست من اصوله، فالجرجاني ينص على ذلك مقررًا رأي الإيجي في انها: (ليس من اصول الديانات والعقائد خلافًا للشيعة بل هي عندنا من الفروع المتعلقة بافعال المكلفين)(1). كما ينصّ عليها الجويني كذلك بقوله: (الإمامة ليست من العقائد، ولو غفل عنها المرء لم تضرّه، ولكن جرى الرسم بإختتام علم التوحيد بها)(2). ومثل هذا قول الآمدي:( ان الكلام في الإمامة ليس من اصول الديانات ولا من اللابُدّيات بحيث لا يَسع المُكَلّف الإعراض عنها) (3). ويقرر عبد الكريم الشهرستاني هذا المعنى بقوله: (الإمامة ليست من اصول الاعتقاد بحيث يفضي النظر فيها الى قطع ويقين بالتعيين) (4). وكذلك يقرر الجلال الدواني (5)، على ان الإمامة عند أهل السُنّة والجماعة ليست من الاصول التي يجب على كل مكلف معرفتها. كما ويُصرّح إبن خلدون (6). كذلك بانها ليست من اركان الدين وانّما هي من المصالح العامة المُفوّضة الى نظر الخلق.
وبناءً على ما تقدم إستلزم أن نَطرح الأسئلة التالية: ما دامت ليست من الاصول فهل يعني الاعلان عنها بانها من الفروع يُهوّن من شأنها ويُقلّل من قيمتها؟. وهل إعتبارها من الفروع مانع من الخوض فيها وبيان تفاصيلها؟. وكيف نوفق بين هذا الرأي القائل انها من الفروع، وما يفهم من اقوال العلماء بان موضوع الإمامة من اخطر مواضيع الفقه ألإسلامي؟، ليس فقط في كل من المجال النظري والفكري والإعتقادي البحت فحسب!، وإنما خطورته تنسحب على واقع الجماعة المسلمة ووحدة صفها ووجودها؟!.
أمّا ما يؤكد خطورتها فهو ذات ما عَبّر عنه العلّامة الشهرستاني في قوله: (واعظم خلاف بين الامّة خلاف الإمامة ، إذ ما سُلّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان)(7). كما يحدد ابو الحسن الاشعري مبتدا الخلافات بقوله: (وأول ما حدث من إختلاف بين المسلمين بعد نبيهم "عليه السلام" اختلافهم في الإمامة)(8). ويُحذّر الإمام الغزالي من مَغبّة الخوض في موضوع الإمامة بلا هدى. ويعزو ذلك الى: (أنَّها مثار للتعصبات، والمُعرِض عن الخوض فيها اسلم من الخائض فيها، بل وإن أصاب فكيف إذا أخطا)(9). والى قريبٍ من هذا التوجيه يذهب الجويني (10). كما وينبه الآمدي الى خطورة البحث فيها فيقول: (لَعَمري إنّ المُعرِض عنها لأرجى حالاً من الواغل فيها، فإنها قلّما تنفك عن التعصب والأهواء، وإثارة الفتن والشحناء، والرجم في حق الأئمّة والسلف بالإزدراء)(11). "والمقصود بالأئمة علماء الأمّة الكبار الذين تَصَدّوا للبحث فيها". ويلفت الشهرستاني النظر الى المزالق في الخوض فيها بلا موضوعية، فيقول: (لكن الخطر على من يخطئ فيها يزيد على الخطر على من يجهل أصلها، والتعسف الصادر عن الأهواء المُضلَّه مانع من الإنصاف فيها) (12).
الخلافة مصلحة عامّة:
إستدراكًا على ألأقوال السابقة لعلماء الأمة السلف أقول: إن هنالك ما يُسَوّغ البحث في "الخلافة والإمامة". لأنّ لها أهمية بالغة نابعة من مهمتها، وما تمثله في أنها منفّذة لفريضة من فرائض الإسلام، وهو الحكم بما انزل الله. والذي يُعَبّر عنه شيخ الإسلام إبن تيمية في: (إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلّا بها (13). ويعبر عنه الإيجي: (بان مقصود الشارع فيها شرع من المعاملات، والمناكحات، والجهاد، والحدود، والمقاصات، وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات، إنما هو مصالح عائدة الى الخلق معاشًا ومعادًا. وذلك لا يتم إلّا بإمام يكون من قبل الشارع، يرجعون اليه فيما يعنُّ لهم، فإنهم - مع اختلاف الأهواء، وتشتت الآراء، وما بينهم من الشحناء- قلّما ينقاد بعضهم الى بعض، فيفضي ذلك الى التنازع والتواثب، وربما أدى الى هلاكهم جميعًا. ويشهد له التجربة والفتن القائمة عند موت الولاة الى نصب آخر، حيث لو تمادى لعُطّلت المعايش، وصار كل أحد مشغول بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه، وذلك يؤدي الى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين)(14).
النُظم والنظرية:
الواقع اننا يجب ان نميّز بين أمرين عند بحثنا للإمامة طالما كانا مصدر إرتباك عنيف لمن لم يحسن التمييز بينهما، فهنالك فرق بين النُظم والنظرية (15). ونحن هنا لا ندرس النُظم أي اصول واسس الحكم بمعنى ما تقوم عليه الدولة من منهج الحكم دستورية او ملكية او استبدادية او غير ذلك... وانما نتصدى في هذا البحث للنظرية السياسية (نظرية الحُكم) وفق المنطلق العقدي لتلك المقررات التي نَسّقها فقهاء هذه الاُمّة ومفكروها، لتحديد القواعد والاحكام التي تتعلق بالحاكم وتبين كيفية إختياره ومركزه القانوني وعلاقة الامة به. وتبحث النظرية في اُطر الحكم التي اُقيمت فعلاً، إو بيان الأهداف المرجوة منها، ولإضفاء صفة مشروعة عليها، إن لم يكن لها نَصّ من اصول التشريع الأصلية المُعَبّر عنها بـ (الكتاب والسُنّة). أو بذل الوسع لإصلاح ما إجتهد فيه البعض من شارات وتقاليد الخلافة، ويمكن على سبيل المثال، ان نعتبر منع الصحابه لأبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بعد توليه الخلافة من الجمع بين مهنته الأصلية والامارة، ما يمثل هذا الإجتهاد الإصلاحي.(16)
فهذه النظرية في الواقع قد نشات متاخرة على قيام الخلافة كمؤسسة دينية لرعاية شؤون ومصالح المسلمين، وهي على قدر كبير من الأهمية سواء في ذلك ذاتها كحقيقة عملية تأريخية، او البحث فيها من الناحية النظريّة والفكريّة.
وتكتسب جانب من اهميتها بذاتها، كونها تكليف شرعي، ولذا عَدّها بعض السلف من الفرائض كالصوم والصلاة، لا من الفقهيات والفروع. وصرح بفرضيتها عدد من العلماء المعاصرين (17)...وكل ذلك يخلق إشكالية جوهرية في الرؤى والطرح. فكيف لنا أن نوفق بين كل هذه الاراء المتقاطعة؟.
الذي نعتقده ان الإمامة لا تعتبر من الأمور التعبدية البحتة كالصوم والصلاة وباقي اصول وأركان الدين الاسلامي. حيث لم يرد من الشارع الحكيم تفصيل لصيغتها واساليبها واحكامها. وإنّما الأمر متروك لإجتهاد جماعة المسلمين، فيما يكفل تحقيق مصلحتهم، وفق منظور التطور الحضاري. اذ ان معظم تفصيلاتها من الامور الظنية الإجتهادية، مما لا يمكن القطع فيها بيقين(18)، وهذا يعني ان انكارها لا يترتب عليه ما يترتب على إنكار فرضية الصلاة او الصوم او الزكاة وباقي الامور الشرعية المُسَلّم بها قطعاً. وهذا الاختلاف هو الذي نراه قد برّر للفقهاء إعتبارها من الفروع.
اُصول أَم فُروع؟.
والواقع ان لكلمة (الفروع) فيما سبق معنى خاص الاستعمال، فالشهرستاني يحدد المراد (بالفروع) (والاصول) فيقول: (الاصول معرفة الباري تعالى بوحدانيتهِ وصفاتهِ، ومعرفة الرسل بآياتهم وبيّناتهم، وبالجملة كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الاصول، ومن المعلوم ان الدين اذا كان منقسما الى معرفة وطاعة، والمعرفة اصل والطاعة فرع، فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان اُصوليا، ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعيًا.
والاصول هي موضوع علم الكلام، والفروع هي موضوع علم الفقه) (19) لذا فالمقصود من (الفروع) المواضيع التي تُبحَث في علم الفقه، وهو ما يُتوصّل اليه بالاجتهاد والقياس وغيره. وليس المقصود (بالفروع) المسائل الثانوية، والهامشية وما لا قيمة له - كما تدل عليه الكلمة في وقتنا الحاضر-.
وعلى هذا فلا نرى هنالك من تناقض بين هذا القول، وبين من يقول ان الإمامة معدودة من الفروض والاصول لأنها تؤول في النهاية الى كونها جزءًا من التكاليف والأوامر الشرعية الواجب تنفيذها. لأنه ليس من طبيعة ديننا الاسلامي ان تنفصل الدنيا بعيدًا عنه،. وهو دين لا ينحصر في المعتقدات الإلهية والمشاعر الوجدانية والشعائر التعبدية فقط، انما هو يستوفي كل شؤون وأركان الحياة البشرية. وكون الإمامة من الامور التعاملية في الحياة، لا يبعدها عن توجيهات وهيمنة هذا الدين، لأنه ليس من طبيعته (ان يشرع طريقًا للاخرة، لايمر بالحياة الدنيا، طريقًا ينتظر الناس في نهايتهِ فردوس الآخرة عن غير طريق العمل في الأرض، أو عمارتها، والخلافة فيها عن الله، وفق المنهج الذي إرتضاه)(20).
إنّ اعتبارها من الفروع لم يُضعِف أثرها وسط الجماعة المسلمة. فقد خاض فيها كل من الشيعة والمعتزلة والنجدات من الخوارج وغيرهم من الفرق الاسلامية الاُخرى، لبيان فقهها واحكامها وتفاصيلها. الأمر الذي حدا بالمتكلمين نيابة عن اهل السُنَّة التصدي والرد على تقولات وآراء بقية الفرق، وفي هذا يقول العلامة الخيالي: (لما شاع بين الناس في باب الإمامة اعتقادات فاسدة ومالت فرق أهل البدع والأهواء الى تعصبات باردة تكاد تفضي الى رفض كثير من قواعد الاسلام ونقض عقائد المسلمين والقدح في الخلفاء الراشدين، اأَلحَقت تلك المباحث بالكلام وأدرَجَتهُ في تعريفه )(21)
اذا فقد حدث إنعطاف كبير بمداخلات الفِرَق في توسيع الحديث عن الإمامة، حتى شاع واصبح هنالك العديد من ألآراء المتناقضة والمتعارضة، مطروحة على ساحة المتناظرين والباحثين، تمس معتقد كل مسلم، ومن العسير جدًا توحيدها وتهذيبها. وقد اصّل أبو العز الحنفي أمثال هذا الاختلاف الحادث في فروع الدين او في اصوله بقوله : (والأمور التي تتنازع فيها الأمّة في الاصول والفروع، اذا لم تُرَد الى الله والرسول، لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بيّنة من امرهم. فإن رحمهم الله اقرّ بعضهم بعضا، ولم يبغِ بعضهم على بعض... وان لم يُرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إمّا بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، واما بالفعل، مثل حبسه وضربه وقتله.)(22
ضبابية الألفاظ:
لابد من التنويه الى انّ هذه الالفاظ العريقه كلفظ: (الفروع ،الاصول، الإمامة، والخلافة... وغيرها) قد بَهُتَت صورتها في افكارنا. فاصبحت وكأنها مكسوّة بطبقة خفيفة من الضباب الحاجب لبريقها ومدلولها الاصلي. ومن ثم فقدت - في اذهاننا على الأقل - معانيها العميقة التي وضعت من أجلها في مُبتدا الأمر، فغدت على ضوء هذه الإنعزالية الفاظًا مبهمة او ربما سطحية المعنى.
ولا نبعد ان يكون ذلك نتيجة منطقية لآثار الغزو الفكري الاستعماري وزخمه في محاربة العديد من الالفاظ الشرعية، بالتركيز على البدائل. او بإثارة معان هامشية لها. او محاوله بث التحفّظ بين المسلمين في استعمالها. الى الحد الذي يخجل معه المسلم من التلفظ بها... والى غير ذلك من الأساليب. وقد ساعد على هذا كله الروح السلبية التي عايشتها الأجيال المتأخرة، والجمود الفكري، وترك الإجتهاد، وتبرير احكام السلاطين، وتغاضيهم عن الانتهاكات الصريحة في مخالفتها للاسلام.
المصادر والمراجع:
(1) المواقف بشرحه للجرجاني 8 /344 مطبعة السعادة بمصر/ ط1/ 1325 هـ - 1907 م.
(2) العقيدة النظّامية في الأركان الإسلامية، لإمام الحرمين ابي المعالي عبد الملك الجويني/ ص 19 بتحقيق احمد حجازي السقا/ ط 1/ مطبعة دار الشباب بالعباسية 1399هـ - 1979م. وانظر كذلك غياث الامم له ايضًا ص 61 تحقيق دكتور عبد العظيم الديب/ الشؤون الدينية بمصر/ط 1/ 1400هـ. وكذلك الارشاد ص 410 تحقيق محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم/ مطبعة السعادة بمصر 1369هـ - 1950م.
(3) غاية المرام/ ص 363 تحقيق حسن محمود عبد اللطيف/ اصدار لجنة احياء التراث الاسلامي بالقاهرة/ 1391هـ - 1971م.
(4) نهاية الأقدام في علم الكلام للإمام ابو الفتح تاج الدين عبد الكريم الشهرستاني/ ص474 حرره وصححه الفرد جيوم/ مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة/ ط1/ 1430هـ - 2009م.
(5) شرح الجلال الدواني على العقائد العضدية/ ص 204 المطبعة الخيرية/ ط1/ 1322هـ.
(6) المقدمة إبن خلدون ص 155 طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
(7) الملل والنحل 1/ 16 دار المعرفة للطباعة والنشر 1395هـ - 1975م/ منشور بها مش كتاب الفصل لإبن حزم.
(8) مقالات الاسلاميين 29 تحقيق محمد محيي الدين/ ط2/ 1389هـ - 1969م.
(9) الاقتصاد في الإعتقاد للامام ابي حامد محمد بن محمد الغزالي/ ص 290 /عُني به انس محمد عدنان الشرفاوي/ دار المنهاج.
(10) الارشاد ص 204 تحقيق محمد يوسف موسى/ و علي عبد المنعم/ مطبعة السعادة بمصر/ 1369هـ - 1950م.
(11) غاية المرام ص 363 تحقيق حسن محمود عبد اللطيف/ إصدار لجنة إحياء التراث الإسلامي بالقاهرة/ 1391هـ - 1971م.
(12) نهاية الاقدام ص 478 حرره وصححه الفرد جيوم.
(13) السياسة الشرعية 169 تقديم الاستاذ محمد المبارك دار الكتب العربية/ بيروت
(14) المواقف 396 عالم الكتب بيروت/ توزيع مكتبة المتنبي بالقاهرة، ومكتبة سعد الدين بدمشق
(15) النظم الاسلامية لعبد العزيز الدوري ص3 مطبعة نجيب/ بغداد.
(16) لإستقصاء الحادثة يراجع الطبقات الكبرى لإبن سعد 3/184 دار بيروت ودار صادر للطباعة بيروت 1377هـ - 1957م.
(17) انظر اصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، ص 195 مكتبة المنار الاسلامي/ ط 3/ 1976م. والحل الاسلامي فريضة وضرورة للدكتور القرضاوي ص 89/ مؤسسة الرسالة - بيروت/ 1394هـ - 1974م. ورسالة المؤتمر الخامس لحسن البنا، ص 38 مطابع عويدات بيروت. والاسلام واوضاعنا السياسية لعبد القادر عوده، ص 124 مؤسسة الرسالة.
(18) انظر غياث الامم للجويني 61 . ونهاية الاقدام للشهرستاني 478 . ومقدمة إبن خلدون 155
(19) الملل والنحل 1/51 دار المعرفة للطباعة والنشر/ 1395هـ - 1975م.
(20) المستقبل لهذا الدين لسيد قطب 27 دار القران الكريم سلسلة رقم (4) صادرة عن الاتحاد الاسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، 1398هـ/ 1978م.
(21) حاشيه الخيالي على شرح العقائد النسفية للتفتازاني / ص 146مطبعة دار إحياء الكتب العربية/ مصر (طبعة قديمة).
(22) شرح العقيده الطحاوية 580 حققها جماعة من العلماء/ المكتب الاسلامي بيروت/ ط 4/1391هـ
1210 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع