بقلم .. القاص والصحفي العراقي حسن العاني
الياسري والشعر ُ المرشوش ْ
بعد سبات نصف وثلاثة عقود أستنفر ذاكرتي على غرفة بحجم كنبتين ومنضدة بروليتارية في المبنى القديم لإذاعة " صوت الجماهير " ..ولا أهمية لأن يكون ذلك في أواخر العام 1973 أو أوائل العام الذي أعقبه ..وليس مهما ًأن يكون قد سبقني إلى المكان بأسبوع أو سبقته بسبعة أيام ما دام الأصل هو " عيسى حسن الياسري " .. زعيما ًبلا رتبة للقسم الثقافي في تلك الغرفة المتواضعة وأنا " معاونه " .. وتعارف سريع جمعنا من الحميمية قُدِرَ لها التواصل 35 سنة من غير أن تفتر أو تشكو الذبول .. ورجل مثل الياسري يمكن اكتشاف شريانه الأبهر قبل أن يرتد إليك الطرف .. إنه شخصية عارية الداخل ..لا تحسن المراوغة والتزويق ..ولا تجيد التخفي ولذلك لن أسعى إلى إعلاء شأنه فغيره أحوج .
أما هو " السيد " ..ذلك لقبه وعنوانه اليومي .. فيمتلك من علو الهمة والهامة ,والسمعة والمنزلة إنسانيا ً
وإبداعيا ً ما يغني عن شهادتي , وأشهد بأنني قبل ارتداد الطرف مددت يدي , وصافحت بدويا ًنقيا ً مسكونا ًبعشق النساء . أكتسح في طريقه الوعرة نخوة القرى الميسانية . فلم تلوث رذالات المدينة أذياله ,على الرغم من أن موبقات الشعر وحضارة الحروف كانت زوادة سفره الوحيدة إلى هذا العالم المتأرجح .. في العيد السنوي للإذاعة اكتشفت الياسري مجددا ً, فقد اختار من دون البدو " ابن الورد " داعية ًإلى اشتراكية بدائية تأبى التكبر على الفقراء , وتبحث لهم عن نصيب في أموال المتخمين , وكان أن أهدوه وأهدوني في ذلك العيد الأول الذي نحضره " ساعة يدوية " من تلك التي تزين معاصم " العامين من المدراء " , فيما أهدوا العامة من زملائنا ساعات لا تستحق الذكر , حتى إذا تبين الخيط الأبيض من الأسود , وأدرك تلك الفجيعة سألني إعلان الثورة أو الاحتجاج على المسئولين أو التخلص من هذا العار " الطبقي " .. يا إلهي كم تحول " السيد " في تلك اللحظة إلى سليل " عروة " وزعيم الفوضوية . ولعلنا في موقف جبن مما تؤول إليه النتائج اتفقنا على الخلاص من " عارنا " .. ففي ليلة مخمورة من ليالي الحزن الغاضب كان شهودها بضعة أحياء من رفاق الإذاعة إلى يومنا هذا تصرفنا مثل طفلين لم يفطما , وفي وقت واحد قلنا كما تقضي الخطة " واحد اثنان " وعندما وصلنا الرقم ثلاثة استقبلت أسماك " دجلة " ساعتين مما ترنو إليها عيون اللصوص . ولم نشعر في يوم من الأيام بالندم فتلك أدنى حدود المواساة والمشاركة الطبقية التي أهدتنا إليها بوصلة الجبن , ولكننا عبرنا عن موقف يستحق" وسام الرافدين " عندما هجرنا لقمة عيشنا في الإذاعة قبل أن تحتفي بعيدها الجديد.
لم نسمح للسبل أن تفرقنا , ففي العام 1976 توليت ُمسؤولية الصفحة الأخيرة في جريدة " العراق ", وباشرت ُعملي تحت خيمة رئيس التحرير " صالح الحيدري ",وكان العمل يومها غريبا ً,لأن الحيدري رحمه الله يمتلك من الكفاءة والنزاهة والعقل السياسي ما يزن جبلا ً, ولكنه لا يملك من المال ما يصرفه على كسوة امرأة متعففة , وهكذا كان عليّ إصدار الصفحة من دون أجور لأي كاتب مهما كانت نجوميته , وأدرك السيد محنتي , ولكنه ظل صامتاً إلا من عبارة بهذا المعنى
" لا تهتم استمر بالعمل ,لقد وجدنا على الأقل مكانا ً نلتقي به أفضل من المقهى "
يا لهذا القروي المتحضر كيف يفكر , ولم أستحسن الفكرة إلا في اليوم التالي عندما أتى إلى المكان الأفضل من المقهى ومعه مقالة ,ثم تتابعت مقالاته وهو يعرف بأن لا ثواب وراءها إلا حيائي مقرونا ً بالشكر العقيم
حتى العام 1979 , وهو تاريخ مغادرتي الجريدة كنا نلتقي بصورة يومية تقريبا ً,وها هي الصفحة تأخذنا إلى فضائها الرحب قبل أن يتولى الياسري مهمة الإشراف على مجلة ثقافية , وبدلا ً من أن أحمل نتاجي الأدبي إليه كان يقصدني ويأخذ كتاباتي وينشرها ويعود إليّ محملا ً بالأجور ونسخ من المجلة , غير أن ّ ظرفا ًخاصا ًدفعه إلى الاعتكاف ولزوم بيته , ومضت على انزوائه سنوات من دون أن تسأل عن غيابه مؤسسة إعلامية أو ثقافية فكتبت موضوعا ًبعنوان " هل مات عيسى الياسري ..." ترك ردة فعل عنيفة لدى وزير الثقافة والأعلام الذي سارع إلى استدعائه بتوجيه من صدام ,وعاتبه بشدة لأن " حسن العاني " أحرج الوزارة ,وكان بمقدوره أن " يشكو همه " إلى الوزير ووعده بأن " يطلب ويتمنى ما يريد " وبأن يسلمه مفاتيح الجنة , ولكن السيد القروي ما كان يوما ًمن أصحاب الأماني والأحلام الوردية , وتآكلت الأيام ولم يمسس شيء من رائحة الجنة ثيابه ولو عن بعد .
في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي تبدلت أحوال الدنيا , وصارت الدولة " ترش " أموالها على " المبدعين " حتى غرق منهم من غرق , ولم ينج إلا من رحم ربي , وكان الياسري يعيل فصيلاً ًمن العيال زغب الحوا صل وليس له من متكأ سوى "8 " آلاف دينارا ًهي راتبه التقاعدي بعد آخر تعديل ,وتأتيه الدعوة , وتتكرر , من مسئولين " كبار " يحبونه ,ويتمنون مساعدته لكن " طريق المساعدة " لها مسلك واحد هو قبول " الرش " ,وكان الرجل ينظر بعين إلى العيال يفتكون بقلبه ,وبعين إلى الملايين تفرقه وتفتك بتاريخه , وما يفصل بين الجنة والنار " قصيدة " وكان عليه أن يحسم الموقف , وحسمه من دون ضجيج ولا دوخة رأس ولا صلاة استخارة , فقد كمم أفواه " الشعر المرشوش" وألغى " غرض المدح " من أغراض قاموسه الشعري , وتوجه إلى الاعظمية ,عند محكمتها , عند واجهتها , على رصيف الشارع لا عاصم يعصمه من برد العراق ولا حره , تذكروا حرّ العراق حين تستذكرون " عيسى بن حسن الياسري " السيد أبو ياسر ,وهو يصاب شتاء بنزلة صدرية وصيفا ًبضربة شمس , وربيعا ًبنوبة بكاء على مدى ست من السنوات العجاف , وفي مكتبته يومها ستة دواوين شعرية , وتاريخ حافل بالنشاط الثقافي , وكانت بينه وبين " الشعر المرشوش " قصيدة سلطانية مما هو معروف وشائع وسائد ومتداول أبى أن تسري على شفتيه ,مكابدا ًمعاندا ًمحتملا ًفوق ما تحتمله قدرة بدوي يبلل ظمأه بالسراب الخادع , حتى إذا أعياه جلوس الشارع , ومنكدات " البلدية "وأمزجة القضاة ومتاعب العمر وشهامة الحزن الجميل وشحة المورد الذي تدره شكاوى المشتكين وجيوب طالبي كتاب العرائض ,لملم آخر استعانات الروح وأوغل في المنفى فهل " مات عيسى حسن الياسري ثانية ً ؟ أم ثمة من يقول " ما زالت الدنيا بخير " وما زال في الحياة متسع ... ؟ .
1060 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع