في نشوء النظرية السياسية في الإسلام: ج٧: الإمامة ومناهج البحث:

خالد الدوري

في نشوء النظرية السياسية في الإسلام: ج٧: الإمامة ومناهج البحث:

يحكي لنا التاريخ ان موضوع الإمامة (الخلافة) كان المشكلة الرئيسية الكبرى التي دار عليه البحث السياسي خلال العصور. وشهد الموضوع أول طرح له ضمن أبحاث الفقه البحت في مصنفات فقهاء أهل السُنّة، حيث ذكر إبن النديم (1) أنَّ الإمام الشافعي قد ضَمّنَ كتابه الفقهي الموسوم بـ (المبسوط) فصلاً لبحث الإمامة، كما ضمّن كتابه (الأُم) بحثًا حول تمييز الإمام الشرعي، وبيان لعقيدة أهل السُنّة في أحقّيّة الخلفاء الراشدين الأربعة لمنصب الإمامة. (2) ونعتقد ان بقية الفقهاء بعد الشافعي قد التزموا مجاراته في تخصيص مبحث أو باب في مصنفاتهم لمفهوم الإمامة. وكثرة الكتب الفقهية البحتة المتضمنة لهذا النسق تؤكد هذا المنحى، فهو إذًا - من ناحية المنشأ - من المواضيع الفقهية (3). فما الذي حدا بعلماء الكلام والعقائد وغيرهم لتبني موضوع الإمامة كذلك، وتناوله في مصنفاتهم وكتبهم -غير الفقهية- هم أيضا؟.
من الممكن التاكيد على أنّ الذين تحدثوا عن الإمامة وكتبوا في موضوعها، لم يتفقوا تمامًا على نوع العلم الذي ينضوي تحت مفهومه هذا الموضوع، ولا على ايّ باب علمي أسلم يجب عليهم الدخول فيه للخوض في هذه المسألة. ومن ثم فقد تباينت الآراء تباينًا واسعًا من حيث الأهمية اثناء تناولها. حيث عالجها بعض من كتب فيها من زاوية العقيدة بإعتبارها جزء من معتقدات المسلم . وبحثها تحت فن علم الكلام لكونه العلم الذي يبحث في المسائل المتعلقة بالمعتقدات الدينية، ويهدف الى الحجاج عنها بالأدلة العقلية والدينية، والرد على المبتدعة والمنحرفين (4).
وعالجها البعض الاخر ضمن مواضيع الفقه، باعتبارها فن من فنون المعاملات الفقهية الواجب القيام بها بين المسلمين، وهي صورة من صور نظام الحكم. وعدّها بعض الباحثين من المسائل الدنيوية السياسية دون إعتبارها من المسائل الأخروية. ومن الباحثين من عالجها مُركّزا فيها على مفاهيم أُصول الفقه وأدلة الأحكام. ونظر اليها آخرون بمنظار آخر، فتكلموا فيها باعتبارها من المسائل الدستورية والقانونية. وهكذا نجد عدم الإستقرار أو بالأحرى عدم الإتفاق على الحاقها تصنيفيًا إلى أحد العلوم المعروفة.
وهنا علينا مراعاة الملاحظات التالية:
1- نستطيع أن نستبين أنّ الشيعة باعتبارهم أول من طرح الموضوع بالحجج والبراهين، وأنهم من خلال المصنفات التي تركوها، كانوا أبعد حيلة ابتداءً في تحديد الباب المناسب الذي يدلفونه لبحث مسألة الإمامة. اذ انهم فيما يبدو لم يبحثوها باعتبارها من المواضيع الفقهية (5)، ولا من المسائل الدنيوية او الدستورية (6)، وإنّما نظروا إلى أصل المسألة عندهم لا إلى نتائجها. فهم يعدّون الإمامة أحد أركان الدين. اي بتعبير آخر جزءاً من الإيمان بالعقيدة، لارتباطها بمعان قدسية عندهم من الوصاية والعصمة والرجعة... ولما كانت الإمامة بارتباطها هذا الوثيق الصلة بالعقيدة، فقد عَمَدوا الى بحثها وعلاجها وفق منطق علم الكلام المُعبِّر عن مسائل العقيدة. وعلى الجانب الآخر، كان هذا هو السبب عموما الذي حدا بأغلب أهل السُنّة، والفرق الأُخرى، لينبروا للرد على المعتقدات والافكار المخالفة المطروحة. كلٌ وفق ما توافر له من الأدلة، وان يطبعوا بحوثهم بهذه الصبغة (7)، أي يتناولوا الموضوع بمباحثهم الكلامية، وفي كتب العقائد كما فعل الشيعة تمامًا.
2- انّ البحث في موضوع الإمامة له اكثر من جانب، منها ما هو عملي كصفات الإمام البدنية ومؤهلاته العلمية، ومنها ما هو اعتقادي (8)، كمثل إعتقاد أنّ الخليفة والإمام الحق بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو ابو بكر الصديق (رضي الله عنه) وأنّ الخليفة من بعده عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) (9) وهذا الاعتقاد الذي يمثل عقيدة ايمانية عند اهل السّنَة، هو في ذات الوقت منطق مناهض لاعتقاد طائفة الشيعة في أنّ الإمام الحق عندهم هو عليّ بن ابي طالب (رضي الله عنه). فإقحام بعض أهل السُنَة موضوع الإمامة في مباحثهم الكلامية، لا يعيب ولا يخل ببحثهم العلمي الموضوعي، بل لا غنى عنه، لان المسألة يقتضي معالجتها من الجانب العقدي الذي ذكرناه.
وعمومًا فالعلماء ممن لم يجارو الشيعة في إعتماد هذا النوع من العلوم للمناقشة (أي العقيدة وعلم الكلام)، رأوا ان للمسألة جوانب اُخرى قد تقترب من مباحث العقيدة وعلم الكلام وقد تبتعد. وذلك حق لا مَريّة فيه.. فهم غير ملزمين إعتماد فن علمي بعينه للنقاش ومقارعة الحُجَج. ومن ثم فلهم الحق كل الحق في كشف جوانب المسألة الأُخرى، وفق زوايا النظر المتعددة، حيث ان مسألة ألإمامة ذات شعب واوجه كثيرة. وهي تمس علم الكلام كما تمس علم الفقه. وهي قضية دستورية، كما هي قضية اصولية. ولها جوانب دنيوية حياتية، كما لها جوانب دينية اخروية.
ومن هنا نستطيع ان نقول ان بحث قضية الإمامة ينضوي تحت اكثر من علم وفن. وأن هذه الشمولية تتيح في النهاية للنظرية السياسية، والإمامة منها بوجه خاص، مرونة اكثر عند وضع ضوابطها وقواعدها لتواكب التطور الحضاري والزماني وتتخطى الظروف دون جمود.
وللحديث بَقيّة.

المصادر والمراجع:
(1) الفهرست ص 295 تحقيق رضا تجدد/ وانظر كذلك مناقب الشافعي للبيهقي ج1 ص432 - 451 ./ والشافعي لمحمد ابو زهره/ ص 140- 145 . / والنظريات السياسية الاسلامية لضياء الدين الرئيس/ ص 101 دار التراث القاهرة ط 7/ 1979.
(2) الشافعي: هو إمام الفقه أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المولود سنة 150هـ - 767م.
(3) حاشية العلامة الخيالي على شرح التفتزاني على العقائد ص 146 مطبعة دار إحياء الكتب العربية/ مصر (طبعة قديمة)./ وكتاب: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص213 المطبعة الاميرية بمصر/ ط1
(4) انظر: تعريف علم الكلام في مقدمة ابن خلدون ص 363 / دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. وكذلك في كتاب أثر التفلسف في الفكر الإسلامي للدكتور حمدي حيا الله ص 38 مطبعة الجبلاوي بمصر / ط 3 / 1395هـ - 1975 م. وقد عَرّفَ الإمام محمد عبده علم الكلام بقوله:(علم يُبحَث فيه عن وجود الله، وما يجب ان يُثبت له من الصفات، وما يجوز ان يوصف به، وما يجب ان ينفى عنه. وعن الرسل لاثبات رسالتهم، وما يجب ان يكونوا عليه، وما يجوز ان ينسب اليهم، وما يمتنع ان يلحق بهم.) انظر: رساله التوحيد ص 22 تحقيق محمد ابو رية/ ط 4 / دار المعارف بمصر.
(5) مبادئ نظام الحكم في الاسلام للدكتور عبد الحميد متولي/ ص 153 الناشر منشأة المعارف/ الاسكندرية طبعة 4 ديسمبر 1978.
(6) الدراسات الدستورية المستقلة نشأت حديثا. انظر: تدوين الدستور الإسلامي لأبي الأعلى المودودي ص 10 / طبعه دار الفكر. وراجع مقال تراث الفكر الإسلامي في النظم السياسية والادارية قطعة من التاريخ لفتحي عثمان، منشور في مجلة المسلم المعاصر صفحة 84 من العددين الأول والثاني والصادرين في الكويت ربيع الثاني1397هـ - أبريل نيسان 1975م.
(7) (مصدر سابق) مبادئ نظام الحكم في الاسلام للدكتور عبد الحميد المتولي ص153.
(8) مباحث في علم الكلام والفلسفة للدكتور علي الشابي ص 10 دار بو سلامة للطباعة والنشر والتوزيع تونس طبعة 1.
(9) المعتمد في اصول الدين لأبي يعلى الفراء ص 225- 231 تحقيق الدكتور وديع زيدان حداد/ دار الشرق/ بيروت 1974م. / وكذلك الصواعق المحرقة لإبن حجر الهيتمي ص57 كتب خانه مجيديه ملتان/ باكستان 1396هـ - 1976م.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1166 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع