الخاط بين القومية والطائفية والدين

 الدكتور عبدالعزيز المفتي

الخاط بين القومية والطائفية والدين

* لماذا الخلط بين المسألة القومية الكوردية وبين الدعوات الطائفية والدينية؟!

من المفاهيم الخاطئة التي أفرزتها الدعاية الاستعمارية، وزرعتها الثقافة السائدة، خلق بعض المواقف في أذهان قسم من الناس العاديين تجاه الشعب الكوردي، وخاصة في الساحتين السورية والعراقية، تنم عن الشك والحذر، وإلصاق "التهمة الجاهزة" بالأكراد، بسبب أو بدون سبب. ولا شك أن مثل هذه المفاهيم الخاطئة، ترجع بالأساس إلى الإستراتيجية الاستعمارية المعروفة - فرق تسد!، والتي ما زالت قائمة في تعاملها مع الشعوب والهدف من ورائها هو توسيع وتعميق الشرخ بين الشعوب، ودب الانقسام وروح العداء فيما بينها، وصرف الطاقات في غير محلها، بدل صرفها على البناء الداخلي نحو التقدم، وصيانة الاستقلال الوطني، ومواجهة المستعمر بالذات، والاستعمار الحديث. وفي الحالة الخاصة بالشعب الكوردي، تهدف هذه الإستراتيجية إلى الإبقاء على مسألته القومية دون حل، وتشجيع الأنظمة على المضي في المواقف اللاديموقراطية وخلق مناخ عام لا مبالي تجاه معالجة المسألة، ووضع الحلول السلمية الديمقراطية لها.

 

إن النظرة التاريخية للمسألة القومية الكوردية، تقودنا إلى اكتشاف الصراع بين إرادتين هي:
1. إرادة البحث عن الحلول الصائبة ووضع المسألة الكوردية في مسارها الحقيقي، وإعطائها حجمها المناسب، ووضع قاعدة صلبة للمعالجة المبدئية الصحيحة، مبنية على روح التآخي، والاعتراف بالحق الأساسي، والقومي للشعب الكوردي، وهذا يقود لا محالة إلى تعزيز الوحدة والإخاء، ويدفع إلى التلاحم الطبيعي، والاختياري، وزج الطاقات باتجاه القضايا الأساسية والمصيرية من قومية، واقتصادية، واجتماعية، وربط الخاص بالعام، حسب نظرة صيانة مصلحة البلاد العليا، وتعزيز الحركة الثورية العامة، والمواجهة الموحدة للعدو المشترك، الإمبريالية والصهيونية والرجعية.
2. إرادة استبعاد الشعب الكوردي، واستغلاله وكبت أنفاسه، وعدم الاستعداد للاعتراف، الرسمي والقانوني، بوجوده (الشعب/الامة الكوردية)، وممارسة شتى أساليب القهر، والاضطهاد، ووضع المخططات العنصرية بهدف تشتيته، والتخلي عن حضارته، وثقافته، ولغته ... ثم عرقلة أية محاولة لإعادة النظر في الموقف، أو التفكير في وضع القواعد السليمة للتعامل مع مسألته القومية، وحسب المبادئ الإنسانية والديمقراطية.
ويقف وراء هذه الإرادة الإمبريالية العالمية، والاستعمار والدوائر الصهيونية، والقوى الرجعية المحلية المستغلة، لقد أفرز أصحاب هذه الإرادة عدداً من المفاهيم الضارة والخاطئة، تخدم ما يصبون إليه. فقبل عقدين من الزمن، أطلق غلاة القوميين العرب تسمية "إسرائيل ثانية" على الشعب الكوردي، ضاربين عرض الحائط بكل التاريخ المشترك بين الشعب العربي والكوردي، ومستهترين بالتراث الناصع القديم في العلاقة بينهما، التي دشنها صلاح الدين الأيوبي، والتي استمرت، وتعاظمت حتى يومنا هذا بفضل تضحيات المناضلين من أبناء الشعبين، وإنجازات الحركتين الثوريتين العربية والكوردية على درب النضال المشترك والمصير الواحد.
أما في هذه المرحلة، التي شهدت تطـورات هامة وإيجابيـة على صعيد ازدياد الوعي المنفتح، وتبلور القوى التقدمية والثوريـة، لدى الشعبين، وازدياد تأثيرها على الحياة السياسية، فإن الأمر يختلف، من حيـث الشكل على الأقـل. فالتيارات القومية الشوفينية اليمينية لا تستطيع - بفضل الوعي الجماهيري - إطلاق النعوت والتسميات "القديمة" على الأكراد. ولكننا نرى بأنها ما زالت تؤثر إلى حد ملحوظ في تكوين مفاهيم جديدة، بنفس اتجاه المفاهيم الخاطئة السابقة، وأن لم تكن في نفس درجة "حدتها". وعلى سبيل المثال، هناك مقولة تطرح دائماً بمناسبة الحديث عن المخططات الإمبريالية، والصهيونية، ومفادها "أن هناك مخططاً لتفتيت المنطقة العربية الإسلامية، وإقامة كيانات مختلفة فيها، على أنها ليست على حساب تقسيم الدول العربية، وإنشاء دول كوردية، درزية، علوية، مارونية، شيعية، الخ".
لا شك بأن أي وطني عاقل يعلم - بالحس العفوي - بأن هناك مخططات من جانب أعداء الشعوب، لتقسيم وتفتيت المنطقة. لصالح الإمبريالية والاستعمار تستند بالأساس إلى هذا المبدأ، وكذلك الصهيونية. والعلة ليست هنا. كما أنه مما لا شك فيه أيضاً، بأن العدو يرغب ويعمل من أجل تعميق الهوة بين الأديان، والطوائف، في الشرق الأوسط كله، وليس في المنطقة العربية فحسب، وسيحاول أيضاً ضرب تلك الديانات الطوائف ببعضها، حتى "يضيع" النضال ضد الاستعمار ومصالحه في المنطقة، وحتى "ينسى" الناس إسرائيل والصهيونية. وهذا ما شرع بتنفيذه في لبنان، وأفرزته التطورات الإيرانية، وظهرت آثاره في بعض الدول والمناطق. وهذا أيضاً أمر واضح للعيان. ولكن مأخذنا الأساسي هو على وضع الأكراد إلى جانب دعاة الصراع الديني، والطائفي، وهو خلط ينم أولاً عن الجهل في مسألة التفريق بين القومية، والدين، والمذهب، كما وينم أيضاً عن "الخبث" الشوفيني القومي، والاستهانة بحركة التحرر الوطني الكوردية ونضالاتها، وتضحياتها، وأهدافها الوطنية، والديمقراطية، فالخلط هنا لا يجوز إطلاقاً، لسبب بسيط هو أن الأكراد شعب تربطه الرابطة القومية، المستندة إلى دعائم اللغة، والأرض، والتقاليد، والتكوين النفسي. كما أن الطوائف الأخرى التي يأتي ذكرها هي طوائف تنتمي إلى قومية واحدة هي القومية العربية. وبالمناسبة، فإن بين الأكراد أيضاً أدياناً وطوائف. فهناك مسلمون (وهم الأغلبية الساحقة)، وهناك أكراد مسيحيون، وأكراد يزيدون (بقايا الزرادشتية)، وهناك أيضاً شيعة، وعلويون وسنة، حسب المذاهب.
فالأكراد كقومية لهم حركتهم الوطنية التحريرية، التي تناضل من أجل حق تقرير المصير، والاتحاد الاختياري مع الشعب العربي، وكذلك مع الشعبين الإيراني والتركي، وتواجه الإمبريالية والاستعمار، وأعوانها، وكافة أشكال الظلم القومي، والاجتماعي، وهي تشكل جزءاً من الحركة الثورية في المنطقة. إن القوانين التي تحكم مسيرة الحركة التحررية الكوردية، منذ ظهورها في القرن التاسع عشر، وتطورها، ومواجهتها لمراحل الصعود والهبوط، هي نفسها القوانين التي تحكم نشأة القومية العربية، والحركة الثورية العربية. إذاً فإن نشوء وتطور الحركة التحررية الكوردية قد جاءاً بشكل "طبيعي"، وحسب ما أفرزه المجتمع الكوردي، بطبقاته، وفئاته، وتناقضاته. وهي ظهرت كتطور لا بد منه في حياة الشعب الكوردي، وكحاجة موضوعية ملحة، وكمرحلة تاريخية، تنسجم مع منطق التاريخ، وسير الأحداث، ومصلحة العملية الثورية. وهذه الحركة الكوردية تجمع في صفوفها الطبقات والفئات الوطنية، والديمقراطية، لدى الشعب الكوردي، بغض النظر عن الدين، والمذهب، والموقع.
أما الأديان والطوائف، فهي كما ذكرنا تعود إلى الشعب المعني، وأبناء القومية المعنية، وما أطروحاتها "الانعزالية" ودعواتها الانقسامية، إلا تعبير عن مصالح فئات طبقية معينة. وهي تخدم بالأساس فكرة تقسيم الشعوب، وصيانة مصالح القوى المعادية، وبشكل خاص الاستعمار، والصهيونية. إن معرفة الحدود والانتماءات الدينية والطائفية كواقع موضوعي شيء، والتنظير لأطروحاتها شيء آخر. إن الدعوات الدينية والطائفية، وخاصة في هذه المرحلة، تشكل أمراً غير واقعي، وطارئ، وهي تسير وتسبح بعكس التيار، وبعكس حركة التاريخ، ولهذا فإن أجلها قصير، وتأثيرها ليس إلا هبة وقتية، وموجة لا بد أن تنحسر. ومهما تكن فلا بد لقوى الثورة من توجيه طاقات التيارات الدينية - إذا أمكن - نحو معاداة الإمبريالية، والظلم الاجتماعي.
إن ما يلفت النظر، ويحز في النفس كثيراً، هو عملية الخلط بين الحركة التحررية الكوردية، والدعوات الدينية والطائفية، ليس عن غلاة القوميين اليمينيين فحسب، بل وعن قوى ورموز محسوبة على اليسار، وعلى القوى التقدمية بالذات. ففي حين نفهم ما يصبو إليه اليمين الشوفيني، ونفهم دوافعه الطبقية والمصلحية، فإننا نقف حائرين أمام تصرف المحسوبين على قوى التقدم واليسار. إن الأولى بهؤلاء، إذا ما تناولوا هذا الموضوع، أن لا يطرحوه بالشكل الذي ذكرناه، كمفهوم خاطئ وضار، بل من الصائب والموضوعي طرحه كالتالي: التوجه نحو ضرورة حل المسالة القومية الكوردية على أسس ومبادئ سليمة وديمقراطية، وعلى أساس مبدأ حق تقرير المصير، والاتحاد الاختياري، والتلاحم. والتوجه إلى الأنظمة التي تضطهد الشعب الكوردي، وإدانتها، لأنها تعرقل مثل ذلك الحل، ولأن موقفها الشوفيني المتجاهل، سيؤدي بالنهاية إلى تحرك القوى المعادية، لاستغلال تلك المسالة (والمسؤولية طبعاً تقع على عاتق الأنظمة) وإلى تقوية التيارات الرجعية الكوردية، ونزعة الانفصال، كرد فعل على مواقف الأنظمة، وإضعاف القوى التقدمية والثورية الكوردية، المؤمنة بوحدة النضال، وتآخي الشعوب.
إن طرح الموقف بهذا الشكل هو مقبول، وموضوعي، ومسؤول. وبهذا يمكن الابتعاد عن المفاهيم الخاطئة، التي زرعها الأعداء والأنظمة الشوفينية، على مر السنوات.
إن عملية الخلط تلك تدعو بشكل غير مباشر إلى نفي حق تقرير المصير للشعب الكوردي، وطمس قضيته الوطنية، والإساءة إلى نضاله عبر عشرات السنين. وهذا ما يتناقض مع مبادئ وبرامج قوى التقدم واليسار، ويلحق ضرراً بالغاً بالحركة الثورية، والكفاح الموحد ضد الإمبريالية، كما ويصب في مجرى محاولات القوى الرجعية، الرامية إلى تعميق الصراعات القومية، وتدمير الإمكانيات الذاتية للشعوب، ووقف تطورها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والارتهان بالنهاية إلى إرادة المستعمر عدو الشعوب.
من جهة أخرى، فإذا كانت الإمبريالية الصهيونية تعملان على تفكيك الشعوب، وتعميق التناقضات بين الطوائف والأديان، وتدعوان سراً وعلانية إلى تقسيم لبنان، على سبيل المثال، إلى "كانتونات" طائفية، وإلى مناطق لا مركزية إدارية أو اتحاد فيدرالي ... الخ، وكذلك الأمر بالنسبة لبلدان عربية وغير عربية، خاصة التي تتضمن التعدد الطائفي والديني، فإننا - وحسب معرفتنا بتاريخ شعبنا الكوردي، وتفاصيل التطورات في الحركة التحررية الكوردية، منذ بزوغها في القرن التاسع عشر وحتى الآن - لم نعثر على أي دليل أو أثر يشيران إلى رغبة الدول الاستعمارية والإمبريالية في إنشاء كيان كوردي مستقل، أو إعلان دولة كوردية مستقلة، لسبب بسيط جداً وهـو تعارض ذلك مـع مصالحها. وبالعكس من ذلك، فإنها عملت على تقسيم الشعب الكوردي بين الإمبراطوريتين العثمانية، والصفويـة، ثم تقسيمه مرة أخرى بموجب معاهــدة سايكس - بيكو 16 مايس عام 1916، ثم التآمر عليه بوضع وإبرام المعاهدات والأحلاف، ضد الحركة التحررية الكوردية، "معاهدة لوزان" 24 تموز 1923، و"ميثاق سعد آباد" في 1937، و"حلف بغداد" أو "حلف المعاهدة المركزية" في 1955، و"اتفاقية الجزائر" في 6 اذار 1975. أما في عصرنا الراهن، عصر اندماج المسالة القومية الكوردية بمسالة النضال الوطني، والاجتماعي، وتعميق طابعها الطبقي، وتشكيلها جزءاً من الحركة الثورية في الشرق الأوسط، فإننا نعتقد في الحالة هذه، بأن الإمبريالية أو الصهيونية لا ترغب في "إنشاء دولة كوردية مستقلة". إنها ترغب فقط في الإبقاء على المسألة دون حل. واحتياطها الإستراتيجي في هذا المجال هو الأنظمة الشوفينية، والدكتاتورية، والعسكرية، وكذلك الرجعية الكوردية.
لذا فإن إدراج المسألة القومية الكوردية، كمسألة وطنية تحررية، تجد مكانها اللائق والمؤثر في خندق الثورة والتقدم، إلى جانب الدعوات الدينية، والطائفية، المعادية لوحدة الشعوب ونضالها، ولكافة قوى التحرر، وهو عمل يناقض الوقائع الموضوعية الصارخة، ولا يعبر عن النظرة الواعية السليمة للأمور، كما ويساهم في عملية خلط الصالح بالطالح، وعدم التميز بين النضال الوطني المعادي للإمبريالية، والأعمال المشبوهة الصادرة عن أعوان الاستعمار، وامتداداته في المنطقة. وقسم من أصحاب تلك المفاهيم ومروجيها، يقوم بذلك في سبيل إرضاء الأنظمة، والمزايدة على التيارات القومية الشوفينية، لأسباب مصلحية ذاتية، دون أي اعتبار للمبادئ، والأسس الفكرية.
إن إزالة مثل تلك المفاهيم الخاطئة، تحتاج إلى وقت ومثابرة من جانب القوى التقدمية والوطنية الكوردية، والعربية. وهي تدخل في عداد النضال على الجبهة الفكرية، والنظرية، باتجاه طرح الحقائق الموضوعية عن الشعب الكوردي المتآخي مع الشعب العربي، وتعايشه الطويل عبر التاريخ معه، ومشاركته المستقبل والمصير.
والقوى الوطنية والتقدمية الكوردية تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية، في شرح مبادئ، وأسس، وقواعد التآخي القومي بين الشعبين، والتأكيد على التمسك بالعيش المشترك، والتضامن، والتلاحم، في ظل الدولة الموحدة الديمقراطية، وكذلك الالتزام ببرامج تعالج الوضع الديمقراطي العام في البلاد، وليس الوضع الكردي فحسب، والانطلاق دوماً من كون المسالة القومية الكوردية، هي جزء لا يتجزأ من المسألة الوطنية الديمقراطية العامة في البلاد. كما يجب التركيز من جانب الوطنيين والتقدميين الأكراد، وبشكل دائم، على الجوانب المشرفة والتاريخية في العلاقة بين الشعبين.
ومن جهة أخرى فإن القوى التقدمية والديمقراطية العربية، ملزمة من حيث المبدأ، بوضع الحل الصائب لهذه المسألة، وطرح البرنامج الديمقراطي لمعالجة المسالة القومية الكوردية. ومهمتها لا تنتهي بطرح البرنامج، بل بالمثابرة والنضال في شرحه بين أوساط الجماهير العربية، وإفهامها أحقية وشرعية، وعدالة، مبدأ حق تقرير المصير للشعب الكوردي، وضرورة رفع الاضطهاد القومي، والإجراءات الاستثنائية والقوانين والمخططات الشوفينية، عن كاهل أبناء هذا الشعب الصديق للشعب العربي، وشرح طبيعة الاضطهاد القومي، الذي ينبع بالأساس من الاستغلال الطبقي، والظلم الاجتماعي، والذي يصدر عن الطبقات الاستغلالية، والرجعية، والتيارات اليمينية، المعادية جميعها لمصالح الجماهير العربية، وطبقاتها الشعبية والكادحة.
من هنا، على الحركتين الثوريتين الكوردية والعربية، توثيق تعاونها وتعزيز نضالهما المشترك، على الأسس السليمة الواضحة، وفي إطار برنامج موحد، من أجل بناء القاعدة الثابتة الصلدة، للتآخي القومي بين الشعبين، التي توفر الحقوق وتصونها، وترسم الواجبات القومية، والوطنية، والمصيرية، على طريق الديمقراطية والحرية وحق تقرير المصير.



  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2978 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع