الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
عالم الاتصالات وقصته.. الجزء الثاني
لقد كانت الوسيلة الوحيدة للاتصالات في أرجاء الدولة العثمانية هو ساعي البريد، وكان يُطلق عليه في العراق لقب (تتر البوسطة)، وهذا اللقب مأخوذ من كلمة (ططر) التركية بمعنى (موزع البريد). وكان يتم اختيار ساعي البريد من الأشخاص الموثوقين، ومن المتمتعين بقوام رشيق حتى يمكنه الذهاب والعودة بسرعة. كما كان (تتر البوسطة) يحمل معه سلاحا للدفاع عن البريد الذي يحمله معه.
لقد كانت مهنة سُعاة البريد شاقة جداً، وكانوا يقطعون المسافة من إسطنبول إلى مدينة أدرنة في يومين، ومن إسطنبول إلى الشام في (12) يوماً، ومن إسطنبول إلى بغداد التي تبعد عنها (2300) كم في (14) يوم.
وكان سُعاة البريد يتقاضون مرتبات مجزية، كما كانوا يحصلون على (عمولة) تُقدّر بنسبة مئوية محددة من خطاب خاص أو بوليصة يحملونها. وفي حال فقد شيء مما يحملون يقوم الصندوق التابع لتشكيل سُعاة البريد بتعويض قيمة المفقودات.
لقد بقي البريد بين مدينة بغداد والعاصمة إسطنبول يعتمد على ساعي البريد، كما استخدمت الحكومة الخيول في نقل البريد من مدينة بغداد إلى العاصمة إسطنبول، حيث اعتمدت بشكل كبير على رجال من قبيلة عنزة الذين يتقنون ركوب الخيل. وكان البريد يغادر مدينة بغداد كل يوم اثنين، ويمر بمدن الموصل وديار بكر حتى يصل إلى العاصمة إسطنبول.
كانت أول خدمة بريدية انطلقت في العراق سنة 1868م، وهي ليست عثمانية وإنما كانت من دائرة بريد (بريطانية - هندية) في بغداد والبصرة، بموافقة والي بغداد تقي الدين باشا. وبقيت هذه الدوائر تشتغل بانتظام من غير اعتراض رسمي عليها. وكان لهذه الخدمة موزعون وصناديق بريد منصوبة في الشوارع العامة، إضافة إلى أن هناك زوارق تقوم بنقل البريد من مكان لآخر، وإن خدماتها شملت المدن الواقعة على الأنهر والعتبات المقدسة مدة من الزمن، وقد استمر نقل البريد بواسطة الزوارق طيلة عشر سنين.
وفي العام 1878م اشتركت الدولة العثمانية في اتفاقية البريد العالمية التي عُقدت في باريس، وكانت البداية أن شرعت الحكومة العثمانية بفتح مكاتب بريد عثمانية في المدن العراقية. ثم صارت تضع العراقيل بوجه دوائر البريد البريطانية، وقامت بحملة محلية لإيقاف أعمالها في العراق. وقد ازدادت دوائر البريد العثمانية بعد توقيع الدولة العثمانية (اتفاقية البريد العالمية) في سنة 1878م.
لقد اهتم مدحت باشا بالبريد حين تحمله مسؤولية ولاية بغداد سنة 1869م، وكان مدركاً أهمية هذه الخدمات في حياة البلاد العامة. لذلك سعى لربط المدن العراقية بعضها البعض بأسلاك التلغراف، وقد انتظمت عملية نقل البريد في عهده. وفي تلك السنة صدر نظام البريد العثماني؛ وكانت أول وسيلة انتظمت لنقل البريد هي العربات والقوافل. وقد اعتمد العثمانيون في بادئ الأمر على الموظفين الأجانب في إدارة شؤون البريد، حتى تم افتتاح مدارس خاصة لتدريب الموظفين العثمانيين وسرعان ما تم الاستغناء عن الأجانب بعد سنة 1876م.
لقد كانت البصرة تمثل أهم مراكز نقل البريد في إيالة (ولاية) بغداد، حيث كان يصل إليها بريد الحكومة البريطانية من الهند، والذي يُراد نقله إلى العاصمة استانبول مروراً بمدينة بغداد. أو الذي يراد نقله إلى بريطانيا عن طريق إيالتي (ولايتي) حلب وبيروت.
وفي أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، سعت الدولة العثمانية إلى عقد معاهدة مع بريطانيا، نصت على نقل بريد الحكومة العثمانية في إيالة بغداد وموظفيها على متن البواخر البريطانية العاملة في نهر دجلة، كما تم الاتفاق على أن يكون نقل ذلك البريد مجاناً، بشرط أن يُختم الغلاف الرسمي بختم الدائرة المرسلة، وأن لا تحتوي تلك الرسائل على خطابات خاصة.
لقد أصبح وضع دوائر البريد العثمانية أفضل في العهد الدستوري قياساً بالسنوات السابقة، حيث سادها شيء من النظام. وفي بغداد كان صاحب البريد يدخل من باب المُعظم وهو راكب على جواده وبيده سوط يلوِّح به في الهواء، وأمامه عدد من الخيل راكضة تحمل ظهورها حقائب معبئة بالبريد، وصاحب البريد يصيح باللغة التركية وبأعلى صوته (بوسته كلدي) بمعنى البريد وصل. فيهرع الناس متجهين إلى مكتب دائرة البريد الواقعة في محلة الميدان فيتجمعون في ساحتها، وهناك يقف مأمور البريد فيقرأ على الناس الأسماء المكتوبة على غلاف الرسالة فيتسلمها من كان حاضراً منهم. أما الرسائل التي بقيت معه ولم يحضر أصحابها فيذهب بها إليهم كل حسب العنوان المدوَّن عليها سواء أكان عنوان دار أو متجر أو لوكندة (فندق) ويأخذ منهم مبلغ عشر (پارات) عن كل رسالة بمثابة (بخشيش).
كما كان هناك بريد آخر يُطلق عليه (بريد الخيل)، تابع أيضاً لشركة الهند الشرقية البريطانية، وقد تولى هذا الخط نقل البريد الخاص بالحكومة البريطانية من البصرة الى مدينة بغداد، ثم الى الموصل وماردين وديار بكر حتى يصل العاصمة استانبول. إلا أن الحكومة البريطانية قامت سنة 1841 بإلغاء تلك الخطوط لنقل البريد، لا سيما بعد أن جلبت باخرة خاصة لنقل البريد تعمل بين البصرة ومدينة بغداد.
لقد كان دخول التلغراف مرحلة مهمة في تاريخ الاتصالات، وقد بث حياة جديدة في العراق. وفي صيف 1861م تحقق الاتصال بالتلغراف عن طريق البر بين إسطنبول وبغداد، ثم بعدها رُبط خط بغداد بالخليج.
لقد ساعد التلغراف على سرعة وصول الرسائل عبر خطوطه التي دخلت العراق، وقد جُمع البريد مع البرق في إدارة واحدة سمّيت بدائرة (البريد والبرق). وقد عمل في دائرة البرق في الموصل عدد من الموظفين الذين ارسلتهم ( نظارة البريد والبرق والتلفون العثمانية في استانبول ) وكانت تسمى باللغة العثمانية وبالحروف العربية ( بوسته وتلغراف وتله فون نظارتي).
وفي عهد والي بغداد المصلح المتنور مدحت باشا (1869-1872)، والذي كانت له صلاحيات الاشراف على الخطة العراقية؛ أي ولايات الموصل والبصرة فضلا عن ولاية بغداد، جرت محاولات لتطوير الخدمات البرقية والبريدية، من ذلك أنه جعل بغداد مقرا رئيسيا للإدارة المركزية للبريد والبرق في العراق كله.
بعد ذلك اتسعت الخدمات البرقية والبريدية بحيث وصلت إلى الأقضية والنواحي والقصبات. فعلى سبيل المثال كان في سنة 1917 خطوط تلغراف بين الموصل وبين سنجار والعمادية، وكذلك بين الموصل والفاو، وبين الموصل وكربلاء والقرنة والفلوجة وهيت.
لقد كانت دائرة بريد الموصل تعج بالموظفين، يتقدمهم مأمور البريد ومعه عدد من الموظفين الذين صاروا معروفين لدى الناس الذين شعروا بقيمة الخدمات البرقية والبريدية وصاروا يترددون على دائرة البريد لإرسال رسائلهم وبرقياتهم. وكانت اجرة التلغراف في الموصل (15 ) قرشا لكل عشرين كلمة، وفي سنة 1915 صدر قانون (تنظيم نظارة البريد والتلغراف).
وفي الأول من شباط 1920 اُستعمل القطار لأول مرة في نقل الرسائل والطرود، وفي 30 آب سنة 1923 اُسست أول واسطة نقل عبر الصحراء بين بغداد وحيفا لنقل البريد الخارجي إلى أوربا عبر سيارات (نيرن)، حيث كان البريد يُنقل من حيفا إلى بور سعيد بمصر بالقطار ومن هناك يُنقل إلى لندن بالبواخر. وبهذا أصبحت مدة نقل البريد بين بغداد ولندن لا تستغرق أكثر من تسعة أيام، وبعدها دخل البريد الجوي سنة 1930 لتزداد سرعة نقل الرسائل البريدية.
وخلال عهد الاحتلال البريطاني للعراق (1914-1918) تطورت دائرة البريد والبرق في المدن العراقية ومنها الموصل، وفي نيسان سنة 1920 تم تأسيس إدارة البريد والبرق العراقية؛ وكان أول مدير لهذه الدائرة هو حكمت سليمان (1889 - 1964) والذي أصبح رئيسا للوزراء سنة 1936.
وتجدر الإشارة إلى أنه كانت في بريد الموصل منذ عهد والي بغداد مدحت باشا صناديق للتوفير، وبعد تأسيس الدولة العراقية فُتحت سنة 1935 صناديق جديدة باسم (صندوق توفير البريد).
https://www.youtube.com/watch?v=nIU-BS7Ry-0&t=7s
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
1377 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع