التعداد القادم للسكان في العراق ومستقبل العملية السياسية في العراق الجديد(*)

الدكتور عبدالعزيز المفتي

التعداد القادم للسكان في العراق ومستقبل العملية السياسية في العراق الجديد(*)
واقع كوردستان والأكراد .. شعب بدون دولة وحكومة متسلطة والنزاع في منتصف التسعينات

التعداد العام للسكان في العراق ومستقبل العملية السياسية في العراق الجديد

ينشغل العراقيون اليوم بموضوع التعداد السكاني القادم، بدرجة لا تقل عن اهتماماتهم بمستقبل العملية السياسية في البلاد ... فالتعداد بالمفهوم العلمي هو: "حصر وتسجيل المعلومات والبيانات الديموغرافية للمجتمع (العراقي) المعني"، وقد توسع هذا المفهوم في العقود الأخيرة ليشمل "تسجيل كافة الموارد البشرية في منطقة معينة وفي وقت محدد".

لذلك، فإن مثل هذه العمليات، تعد الأساس لوضع أية برامج وخطط ذات علاقة بالتطور والتنمية القومية، وعلى كافة المستويات: المحلية، الإقليمية والقومية...
أما أهداف التعدادات السكانية، فقد كانت محصورة في الوصول إلى العديد من المؤشرات الديموغرافية ذات العلاقة المباشرة، بجمع الضرائب، أو معرفة الشباب القادرين على العمل، أو المشمولين بالتجنيد العسكري ... إلا أن أهداف التعداد قد توسعت اليوم لتشمل الكثير من الجوانب الاقتصادية، والجغرافية، ... والجوانب الاجتماعية، لاسيما ذات العلاقة باتجاهات خصوبة الأسرة، وسن الزواج والمستوى التعليمي والصحي، إلى جانب الخصائص الديموغرافية ذات العلاقة بالأسرة وفي مقدمتها: التكوين القومي واللغوي والديني للسكان.
في ضوء ذلك، تتجلى أهمية التعدادات السكانية والتي نالت اهتمامات الدول منذ القديم حيث سعى الصينيون والبابليون والمصريون وكذلك الرمان، إلى معرفة خصائص المجتمعات التي يسيطرون عليها ... ليسهل عليهم إدارتها وتنظيم شؤونها والتحكم بها..
وفي العصر الحديث كانت أمريكا وعدد من الدول الأوروبية، في مقدمة الأقطار التي اهتمت بتطوير تعدادات سكانها، ففي الولايات المتحدة الأمريكية جرى أول تعداد فيها سنة (1790)م، وفي بريطانيا وفرنسا سنة (1801)م، وفي مصر جرى أول تعداد فيها سنة (1897)م، بينما لم تجر في دول الخليج إلا في فترة متأخرة ففي دولة الإمارات المتحدة سنة 1968، وفي دولة قطر سنة 1970.
وفي العراق، فإن أول محاولة لتعداد سكانه (العراق)، كانت في سنة 1927، لمعرفة حجم السكان وتوزيعهم الجغرافي لكنه لم يكتب لها النجاح لحداثة العهد الحكومي الملكي بمثل هذه العمليات من جهة، وظروف عدم الاستقرار في البلاد من جهة أخرى، مثلما فشلت المحاولة الثانية سنة 1934. ويعد المحاولة الثالثة التعداد العام في العراق سنة 1947 هو أول تعداد يمكن الاعتماد عليه رسمياً، حيث تم توزيع (استمارة) التعداد على الأسر العراقية، وأعلن يوم التعداد عطلة رسمية، وعلى الرغم من الملاحظات الكثيرة على نتائج تعداد السكان في العراق سنة 1947 إلا أن بياناته تم نشرها في ثلاث مجلدات، واحدة عن الألوية الشمالية، والثانية بخصوص الألوية الوسطى، فيما تناول المجلد الثالث، الألوية الجنوبية. بيد أن ظروف عدم الاستقرار التي كانت المنطقة الكوردية تمر بها، بسبب تفاعلات حركات برزان بين 1943-1947، انعكست سلباً على نتائجه، وكانت بعيدة عن الواقع الديموغرافي لسكان المنطقة الكوردية.
ولما كان العراق، يجري تعداداته كل عشر سنوات، فقد كان عام 1957، موعداً لتعداد سكانه المحاولة الرابعة، وذلك في شهر تشرين الأول 1957، حيث أصبح قاعدة لكل التعدادات، لملائمته من حيث المناخ، واستقرار السكان، واستفادة الدولة من الطلبة والكادر التدريبي في شؤون التعداد، إضافة إلى مبررات ديموغرافية خاصة.
ويعد تعداد السكان لسنة 1957 هو الأفضل بين جميع تعدادات السكان في العراق ولاسيما في المنطقة الكوردية حيث كانت تنعم بالأمن والاستقرار. كما ساهمت الأمم المتحدة في نجاحه. وتم نشر بياناته في (18) مجلداً بين سنتي (1961-1963).
وبينما كان مقرراً إجراء التعداد القادم سنة 1967، إلا أن سعي العراق للوحدة مع سوريا ومصر، دفع بالحكومة العراقية تقديمه إلى سنة 1965 المحاولة الخامسة، على الرغم من أن المنطقة الكوردية كانت ساحة لحركات عسكرية منذ ثورة 11 أيلول سنة 1961، لذلك فشل التعداد في الوصول إلى نتائج واقعية ولاسيما في تلك المنطقة (كوردستان العراق)، وقد نشرت نتائجه في مجلد واحد فقط سنة 1973.
وفي ضوء اتفاقية 11 آذار سنة 1970 بين القيادة الكوردية والحكومة العراقية تقرر إجراء تعداد لسكان العراق في نفس السنة 1970 لترسيم الحدود الإدارية لـ (منطقة كوردستان العراق)، وكانت الظروف مهيأة تماماً لذلك، إلا أن الحكومة العراقية قررت تأجيله إلى إشعار آخر! للحيلولة دون الكشف عن الوزن الديموغرافي للكورد في العراق من جهة، أو تحديد منطقة كوردستان من جهة أخرى.
وفي سنة 1977، جرى تعداد آخر الحالة السادسة لسكان العراق، وجندت له الحكومة العراقية كل الإمكانات اللازمة لنجاحه ... إلا أن الظروف التي كانت تمر بها المنطقة الكوردية، لم تكن مشجعة لنجاحه، حيث كانت لانتكاسة ثورة 11 أيلول الكوردية 1961 وتنفيذ اتفاقية الجزائر 6 آذار لسنة 1975، انعكاساتها في عمليات الترحيل والتهجير الواسعة التي تعرض لها السكان الكورد (العائدون) والذين هجروا من مناطق سكناهم الكوردية والذين هجروا إلى محافظات وسط وجنوب العراق، مثلما تم تجميع الآلاف من سكان القرى الكوردية المرحلة، في (معسكرات) خاصة بالقرب من المدن الكبيرة أو على امتداد الطرق العامة، لذلك جاءت نتائج التعداد المذكور، بعيدة عن الواقع الديموغرافي للسكان.
ومع تصاعد حدة الحرب العراقية - الإيرانية، التي اندلعت منذ سنة 1980، كان الموعد المقرر لتعداد السكان سنة 1987 الحالة السابعة، والذي شمل لهيبها كافة المحافظات المجاورة لإيران، ولاسيما منطقة كوردستان العراق، حيث تم حرق وتدمير المئات من القرى والقصبات الكوردية الحدودية، واستعملت الحكومة العراقية كل أنواع الأسلحة بما في ذلك المحرمة دولياً بهدف إبادة السكان الكورد في المنطقة الكوردية الحدودية، الأمر الذي انعكست نتائجه على مجريات التعداد المذكور.
وبات غير عملي في الاستفادة منه بأي حال من الأحوال، ومع ذلك فقد تم نشر نتائجه على أساس مجلد واحد لكل محافظة مثلما حصل بالنسبة لنتائج تعداد السكان لسنة 1977 أيضا.
وكان عام 1997، موعداً لآخر لتعداد سكاني جرى في العراق المحاولة الثامنة، ولم تشارك محافظات الكوردية، دهوك، أربيل، السليمانية، وأجزاء من محافظتي ديالى وكركوك في ذلك التعداد، لأنها كانت خارج إدارة الحكومة العراقية.
وتأسيساً على ذلك، فإن التعداد القادم لسكان العراق، يمثل أملاً يراود شعب
كوردستان لإثبات وجوده، وحجمه، ودوره في بناء وتكوين الدولة العراقية الجديدة ... مثلما ستكون نتائجه الحجر الأساس لكافة البرامج والخطط باتجاه عمليات التنمية التي تجري اليوم في الإقليم، فضلاً عن أن نتائج التعداد القادم سيمهد الطريق لحل الكثير من المشكلات القائمة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية. وفي المقدمة منها، مشكلة المناطق الكوردية المتنازع عليها.
ومن المتوقع، أن تسعى الحكومات العراقية، للحيلولة دون إجراء مثل هذه التعدادات، في الوقت الذي ينعم شعب كوردستان بالأمن والاستقرار، للحيلولة دون الوصول إلى معرفة حقيقة الوزن الديموغرافي للكورد في كوردستان العراق أو تحديد للمنطقة الجغرافية الكوردية. ولقد فعلتها حكومة حزب البعث حينما أجلت التعداد الذي كان مقرراً سنة 1970 إلى إشعار آخر، وها هي الحكومات العراقية الجديدة، تسعى إلى تأجيل (مستمر) للتعداد القادم للسكان في العراق الذي كان مقرراً له قانوناً ودستوراً سنة 2007 متذرعة بحجج، لا ترتقي إلى مستوى أهمية وضرورة مثل هذه التعدادات.
ولا شك في أن (ورقة العمل) التي قدمتها الكتل الكوردستانية في البرلمان العراقي، مؤخراً إلى الكتل الفائزة في انتخابات الربيع عام 2014 متضمنة بنداً يتعلق بضرورة إجراء التعداد السكاني في موعده ... إنما تعكس أهمية هذا التعداد لشعب كوردستان وللعملية السياسية في العراق. وربما سيكون التعداد القادم (محراراً) يحدد العلاقات المستقبلية بين حكومة الإقليم (كوردستان)، والحكومة الاتحادية (بغداد).

* كوردستان الواقع
وإذا كانت حدة المواجهات الكوردية تراجعت في تركيا منذ 1996 وخصوصا بعد انسحاب قوات حزب العمال الكوردستاني نحو إيران وشمال العراق في كانون الأول/ديسمبر 2001، فإن الأوضاع لم تستقر بعد. لكنه توقف الكفاح المسلح وتحول حزب العمال الكوردستاني إلى "المؤتمر من أجل الحرية والديمقراطية في كوردستان" واستتبعه في آب/أغسطس 2000 أول اختراق من البرلمان التركي الذي سمح للأكراد بتعلم لغتهم الكوردية. وفي نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2000 رفعت حال الطوارئ في مقاطعتي ديار بكر وسيناق. في المقابل لا تزال حال الطوارئ هذه مفروضة عمليا أو قانونيا على شمال غرب إيران وشمال شرق سوريا.

 

 * الأكراد، شعب بدون دولة

في غياب جنسية كوردية معترف بها دوليا فإن أي إحصاء جدي للأكراد يبدو مستحيلا حيث تراوح التقديرات بين 35 و45 مليون نسمة. مع ذلك فإن الأكراد يشكلون أحد "الشعوب التاريخية" في الشرق الأوسط، ينكر وجوده باستمرار ويختلف مصيره بين الدول التي تتقاسم كوردستان: تركيا (أكثر من 50 في المئة من الأكراد)، إيران (حوالي 25 في المئة)، العراق (أكثر من 20 في المئة) وسوريا (10 في المئة).
لم تر الدولة الكوردية التي نصت عليها معاهدة سيفر عام 1920 النور. ولا يمارس الشعب الكوردي سيادته على أية قطعة أرض في كوردستان. ويبقى الأكراد مبعثرين في منطقة حدودية واسعة مسلحة إلى أقصى حد تحتشد فيها جيوش دول المنطقة، باستثناء كوردستان العراق الذي كان تحت حماية الطيران الأنكلو - أمريكي.

 

 * حكومات عراقية متسلطة

وباستثناء "الدولة الفيدرالية الكوردية" التي تمثل أمرا واقعا في كوردستان العراق منذ تشرين الأول/أكتوبر 1992، يبدو أن قدر الأكراد هو العيش في ظل حكومات تتنكر لحقوقهم الخاصة (لغتهم معترف بها رسميا في إيران وليس في تركيا) كما تتنكر كذلك للحقوق الأساسية لسائر بقية مواطنيها. وبالرغم من وجود مقاطعة إدارية في إيران تحمل اسم كوردستان فإنها لا تضم كل مناطق سكن الأكراد هناك.
إن مشاركة الأكراد في الحياة السياسية للبلدان ذات الحكومات المتسلطة أشبه بالتحدي الدائم ولا يمكن فصلها عن التوجه العام نحو الديمقراطية لهذه البلدان. ففي إيران هناك نواب أكراد يقدمون أنفسهم بهذه الصفة لكن السجون الإيرانية كما التركية والسورية تعج بالسجناء السياسيين من الأكراد. وبالرغم من كونها مفترقاً استراتيجياً ورغم مخزونها الزراعي والمنجمي الكبير، فإن اقتصاد المناطق الكوردية كوردستان يعاني من إهمال حكومات الدول ومن الصعوبات البيروقراطية والبوليسية وضعف الاستثمارات وحجم التهريب (النفط والأسلحة والسجائر والمخدرات والعمال غير الشرعيين) ودور الميليشيات.
ويتميز الأكراد بدينامية ديموغرافية متواصلة وقد أطلقت خطط للتنظيم الأسري من أجل مكافحة ما تسميه قيادة الأركان التركية "قنبلة موقوتة ديمغرافية". وتؤدي هذه الدينامية إلى إعادة تحديد التوازنات المحلية والإقليمية كما بين السريان والأكراد في جنوب شرق تركيا. بيد أن نسبة وفيات الأطفال لا تزال مرتفعة. إن الأكراد هم اليوم شعب مبعثر و"متحرك" حيث الهجرات الموسمية التقليدية مستمرة فوق مساحات شاسعة في اتجاه المناطق الزراعية وورش العمل في المدن الكبرى. إضافة إلى أن النزوح من الريف يتزايد قسرا أو اختيارا نحو مدن كوردستان وأكثر فأكثر إلى خارج كوردستان في اتجاه اسطنبول ودمشق وطهران أو بغداد وحتى إلى خارج الشرق الأوسط.

* النزاع في منتصف التسعينات

وكبرت ظاهرة "أكراد المنفى" وتنوعت منذ الثمانينات. فإضافة إلى الهجرة الداخلية وحتى إلى بلدان الانتماء برزت منذ 1990 هجرة كثيفة نحو الخارج البعيد (هناك اليوم أكثر من مليوني كوردي في أوروبا، كما تدل ظاهرة "مراكب المهاجرين غير الشرعيين" على تنامي هذه الظاهرة). في تركيا والعراق تم تنظيم "العودة إلى القرى المهجورة" بعد نزيف الأعوام 1985 - 1995. لكن الشروط لا تتوافر من أجل نجاح إعادة استثمار المساحات الزراعية المتداعية. وهكذا يتحول الأكراد أكثر فأكثر إلى أهل مدن دائمين أو مؤقتين وباتت غالبيتهم تعيش خارج كوردستان.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2917 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع