المحامي المستشار محي الدين محمد يونس
النجاة في تحكيم العقل
في شتاء عام 1978 وفي أحد أيامه الممطرة ومع بداية استلامي لواجب خفارة مديرية شرطة محافظة أربيل بعد انتهاء الدوام الرسمي لذلك اليوم وكنت برتبة نقيب، تفاجئت بدخول شرطيين إلى غرفتي يتقدمهما المرحوم (ج. ع) مديركمرك محافظة أربيل ويصاحبه شقيقه ملازم الشرطة (هـ .ع) وبعد السلام والترحيب بهما وجلوسهما سلمني أحد الشرطيين مظروفاً ولدى فتحي إياه وإخراج الكتاب الرسمي الذي كان بداخله والصادر من محكمة تحقيق أربيل ومرفقة مذكرة توقيف (ج .ع) لمدة خمسة عشر يوماً والطلب بإيداعه التوقيف وتنفيذ المذكرة بحقه.
بعد استلامي للمظروف وتوقيعي على استلام مدير كمرك أربيل الموقوف وانصراف الشرطيين، استفسرت منه عن سبب توقيفه أجابني وكان متوتر الأعصاب وبحالة يرثى لها من دلالات تقاسيم وجهه وحركات يديه من تداعيات هذا القرار عليه وعلى شخصيته ومقامه الوظيفي وهو المعروف بنزاهته وصدق تعامله وسمعته التي لا يشوبها أي مؤشر سلبي طيلة الفترة الطويلة التي قضاها في مختلف الوظائف الحكومية وفي مختلف الأماكن التي عمل فيها، وتفاجأ بهذه الإجراءات القانونية ضده وهو على أبواب أحالته على التقاعد لقرب إكماله السن القانونية للتقاعد.
نعود فنذكر ما قاله (ج .ع) مدير كمرك أربيل، حيث ذكر وبصفته مديراً لهذه الدائرة ومسؤول بشكل مباشر أمام مراجعه في تنفيذ قانون الكمارك العراقي والتعليمات الصادرة بموجبه في حدود الرقعة الجغرافية التي تقع ضمن مهام مسؤوليته وهي تمام محافظة أربيل..
أحدى مفارز شرطة الكمارك
وكان يعمل معه الموظف (س. م) بصفة معاون وهو حديث العهد في الوظيفة ومندفعاً في تحقيق طموحه الشخصي في الكسب الحرام من الوظيفة من خلال قيامه عند خروجه وبصحبة مفرزة آلية من موظفي وشرطة الكمارك في تعقيب المهربين للبضائع الإيرانية وبمختلف أنواعها بعد نصب الكمائن لهم في المناطق التي يمرون منها في تنقلاتهم وخاصة في الليل مستغلين الظلام وكانوا في كثير من الأحيان يقعون في قبضة (س .م) ومفرزته فيقوم بالاستحواذ على كل البضائع المهربة التي بحوزتهم مقابل اطلاق سراحهم وعدم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم وكانت عقوبة هذا التصرف حسب كل حالة ونوعية المواد المهربة وكميتها تتراوح بين الحبس والغرامة ومصادرة الأموال المهربة والعجلة المحملة بالمواد وكان عرض (س. م) يقبل منهم عن طيبة خاطر والقبول بأهون الشرين وبدلاً من القيام بتنظيم محظر ضبط بهذه المواد ونقلها إلى الدائرة يتم بدلاً من هذا الأجراء الأصولي كان يقوم بتحويل البضائع المهربة إلى العجلة الحكومية التي يستقلها مع جماعته وينقلها إلى محافظة الموصل ويبيعها هناك ويستحوذ على قيمة هذه البضائع لنفسه وإعطاء الأفراد الذين معه حصة صغيرة من هذه القيمة مع المواظبة في ممارسة هذا الفعل المخالف للقانون لمرات عديدة حيث انكشف أمره وأودع التوقيف والتحقيق معه عن هذه الجريمة وكان مضطراً للاعتراف بارتكابه لها بسبب وجود العديد من الشهود الذين أيدوا قيام المذكور بهذه الأعمال، وبعد يومين من تاريخ توقيفه طلب مواجهة قاضي التحقيق ليضيف إلى اعترافاته السابقة أقوال يدعي فيها علم مدير الكمرك وتشجيعه للقيام بهذا السلوك ومن انه كان يتقاسم ما يحصل عليه من مردود مالي مناصفة معه وعلى ضوء هذه المعلومات تم توقيفي من قبل قاضي محكمة تحقيق أربيل والآن ارجو أن تسدي لي خدمة لن أنساها ما حييت، وعندما استفسرت منه عن نوع الخدمة التي يطلبها مني، أجابني أن أضعه في نفس القاعة (قاووش) المودع فيه (س. م) لألقنه درساً في معاني الرجولة الحقة واحاسبه على كذبه وتوريطي في هذه الجريمة التي خطط لها ونفذها لوحده دون علم او دراية منه وموقفي منه بعد أن أنكشف أمره حيث تعاملت معه بشدة وحاسبته ولم اتساهل معه وتعاونت مع محققي الشرطة والقضاء، بكل جدية وإخلاص في كشف تصرفاته المشينة مما حدا به لإشراكي في هذه التصرفات المخالفة للقانون ولأصول الوظيفة انتقاماً مني.
طلبت منه أن يهدأ بعد تقديم واجب الضيافة المعتادة له ولشقيقه والموقف يتطلب ان يتحلى بالصبر والحلم وقلت له يا أخ (ج) أنصحك بالرغم من كوني أصغر سناً منك ان تعمل بما أقوله لك حرفياً: ... قل بالله عليك ماذا أفعل؟ قلت له سأضعك فعلاً في نفس القاعة التي يتواجد بها معاونك (س. م) وبدلاً من أن تدخل معه في صراع وشجار ابتسم له وعانقه وقبله وأسأل عن حاله وترجى منه ومن بقية المودعين في القاعة للسماح لك بوضع فراشك بجانب فراش معاونك وتقوم بالحديث معه أول الأمر في الشؤون العامة والقضايا الاجتماعية وأحوال زوجته التي لم يمض على زواجه منها إلا عدة أشهر وكانت حاملاً بطفلها البكر وتحاول تطبيع العلاقة معه بعيداً عن التوتر والغضب وأذ ذاك تدخل في حوار هادئ معه ومحاولتك أشراك بعض نزلاء القاعة من الخيرين والمقتدرين في هذا الحوار وتنصحه قائلاً: يا أخي لماذا أتهمتني بهذه التهمة الباطلة وأنت تعلم جيداً بأنني لم أكن على علم أو شريكاً لك بما كنت تقوم به، وقل له ألم تسأل نفسك من يقوم برعاية زوجتك وطفلك الذي سيرى النور قريباً ويؤمن لهما مصاريف الحياة واحتياجاتها، كما وأخبره بأنك مديره والشخص القريب منه ويقع على عاتقك التكفل برعاية عائلته والدفاع عنه في المحكمة وتأمين محامي شاطر لهذا الغرض يتكفل بمصاريفه.
أمرت المسؤولين من دائرة الموقف بعد استدعائهم بوضعه في نفس القاعة التي يتواجد فيها (س. م) وفعلاً إسطحبوه واودعوه القاعة المذكورة وربما قد يتساءل القارئ الكريم عن كيفية قيامي بهذه المغامرة أو المخاطرة دون التحسب لعواقبها، لقد قمت بذلك بدافع العطف ومحاولة مساعدة (ج. ع) بهدف تخليصه من المحنة التي هو فيها والتي لا يستحقها لسمو اخلاقه وزهده كما وأن تهديداته بالانتقام من خصمه الشاب (س. م) غير قابلة للتنفيذ لكونه بعمر لا يمكنه من تنفيذ ذلك بالإضافة لتوصيتي عدد من الموقوفين في نفس القاعة بمراقبة الوضع ومنع أي احتكاك او شجار بين الأثنين وأخباري في حالة حصول ذلك.
في صباح اليوم التالي أرسل في طلبي (ج .ع) ولدى مواجهته أخبرني عن استعداد خصمه بالتنازل عن شكواه ضده والذي أيد ذلك وبرر أن فعله جاء كرد فعل من الموقف السلبي منه وعدم مساعدته وهو الان مستعد للتنازل امام قاضي التحقيق والعدول عن أفادته السابقة و(ج .ع) بمثابة العم له وبينهما زاد وملح وفعلاً وعند مثوله أمام القاضي تنازل عن الشكوى ضده وأعطى إفادة جديدة فحواها عدم علم مديره بما كان يفعله من تصرفات خارج الأطر القانونية من اجل الكسب المادي غير المشروع. وعلى ضوء هذه الإفادة تقرر الأفراج عن المدير وإطلاق سراحه. في نفس اليوم جاءني (ج .ع) مدير كمرك أربيل وهو يحمل علبة حلويات كبيرة ومن أرقى الأنواع وأقبل نحوي يعانقني مع القبلات شاكراً لي نصيحتي له وكانت سبباً في خلاصه من ما وقع فيه من موقف لا تحمد عقباه وعند انصرافه أكدت عليه أن يبر بوعده ويساعد عائلة معاونه الموقوف (س .م) وجدد تعهده بذلك وأخيراً انتهينا من سرد هذه الحكاية الواقعية والتي ختمت بصدور الحكم عل بطلها بالسجن لمدة سبع سنوات، وندعو من الله عز وجل أن يبعد عنا شر السجون ويمكننا من استخدام عقولنا بشكل صحيح.
1167 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع