قاسم محمد داود
الدولةٍ الصهيونية أُقيمت على أنقاض أساطير دينية وسياسية وهمية..
تشكّل الأساطير رموزًا مخياليه، تدخل في الشّعور الوجداني العام وتتغزّل بالملامح العاطفية والمثالية للإنسان لتلهب المشاعر وتعطي الأمل في مستقبلٍ هو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، كما أنها عبارة عن شائعة أصبحت جزءاً من تراث الشعب الشفهي، ما يجعل بعض هذه الأساطير تتوغّل بعمق وتتدخّل بقوّة في ذهنية صانع القرار السياسي وتتجاوز الحقوق والقوانين والأعراف المتفق عليها في ركائز العلاقات بين الأفراد والشعوب والدول.
ومن أخطر الأساطير الدّينية في العصر الحديث خرافة قيام إسرائيل التي اختلقتها الصهيونية حول أرض إسرائيل بوصفها الحق التاريخي التي وعدهم بها الرب، كوطنٍ قومي لليهود على أرض فلسطين، عبر استخدام الديانة اليهودية بهدف اقناع اليهود بأن أرض فلسطين هي الأرض التي تركها أجدادهم اليهود عنوة قبل أكثر ألفي سنة، وبأن لهم الحق في العودة إليها، وتحريرها من الفلسطينيين، وقد احتاجت هذه الحركة العلمانية منذ بداية مشروعها الاستيطاني إلى حلة دينية للعثور على "أرض الآباء"، ولحفظ وصيانة الحدود الجغرافية للمشروع الاستعماري. وكيهودي يشرح (شلومو ساند) أستاذ التاريخ في جامعة تا ابيب ومؤلف كتاب (أرض إسرائيل)، إن أرض فلسطين كانت تسمى "أرض كنعان"، لكن الاسم تغير لاحقاً إلى أرض يهودا قبل خراب الهيكل الثاني. أما المصطلح الذي استخدمته الصهيونية فقد ظهر في الميشناه (أول مجموعة مكتوبة رئيسية من التقاليد الشفوية اليهودية والمعروفة باسم التوراة الشفوية)، لكنه لم يكن مطابقاً للبلاد التي منحها الإله لإبراهيم، ولم يكن يتضمن مناطق الخليل وبيت لحم والقدس. في الوقت ذاته استخدم التناخ ((هو اختصار (ت ن خ) (توراة- نبيئيم- كتوبيم) تمثل الكتاب المقدس اليهودي، وهو أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعاً في الأوساط العلمية))، الاسم الفرعوني للمنطقة وهو أرض كنعان.، أما مصطلح أرض إسرائيل فقد ظهر في الأدبيات اليهودية بعد أن غيرت الامبراطورية الرومانية اسم المكان من يهودا إلى فلستينا (أو سورية فلستينا) وذلك عقب التمرد اليهودي على الرومان عام 132 ميلادي. ويوضح ساند أنه هذا المصطلح ظل إلى وقت بعيد مصطلحاً دينياً يعبر عن قداسة هذا المكان في عقيدة اليهودي، لكن اليهود لم يسعوا في ذلك الوقت –خلافاً لوثيقة قيام دولة إسرائيل- إلى الهجرة إليه أو السكن بالقرب منه، بل على العكس من ذلك يبين ساند أن اليهود تمسكوا بالمنفى مكتفين بالتوق إلى الأرض المقدسة، وبذلك أسست الديانة اليهودية هوية مؤمنيها على أساس الوعي الذاتي بكونهم شعبا مختارا لا يرتبط بأي أرض محددة. في الوقت ذاته استخدم التناخ الاسم الفرعوني للمنطقة وهو أرض كنعان. ويتابع شلومو ساند" تدعيم وجهة نظره بالمعلومات التاريخية بالقول إنه بعد هدم "الهيكل" عام 70 ألغى اليهود فريضة الحج إلى القدس، وحتى بعد سيطرة الرومان على مدينة القدس عام 135 ميلادي وطمسهم معالم المدينة اليهودية وتحولها إلى مدينة مسيحية مقدسة، لم تكن هناك أية محاولات لأتباع الرابانية (اليهودية التلمودية أو الحاخامية)، للحج إلى المدينة. إن فكرة الحج إلى القدس لتكفير الذنوب لم تكن قد تبلورت بعد في الفكر اليهودي، واستمرت الحال على ذلك على مدار أكثر من ألف عام، إذ بدأت فكرة الحج بالظهور في بداية القرن الثالث عشر. وحتى حين ظهرت هذه الفكرة لم تكن لأسباب دينية ولا قومية، بل بسبب المنافسة مع المسيحية على ملكية العهد القديم والأماكن المذكورة فيه. إن هذه المعلومات التي اقتبسها ساند من كتبٍ هامة كتبت تاريخ فلسطين في تلك الفترة توضح أن المخيلة اليهودية لم تكن يوماً تدعي ملكية جماعية لهذه الأرض من قبل اليهود، ولا وجوب الحج إليها.
وفي الوقت الذي يضغط فيه الغربُ على العالم العربي للتحرّر من الماضي ويزايد عليه بالحرّية والديمقراطية والدولة المدنية؛ يتّجه الكيان الصهيوني المدعوم من الغرب نفسه إلى الغرق في الماضي والتوجّه نحو أساطير الدولة الدينية والكيان العنصري والسياسة الدموية. وقد انطلقت الصهيونية العالمية كحركةٍ سياسية إيديولوجية وثيقة الصّلة بالمشاريع الاستعمارية المعاصرة، إلاّ أنّ حُلم إيجادِ وطنٍ قوميّ لليهود في العالم لا يمكن تحقيقه ولا التعبئة له إلاّ بدغدغة العواطف الدينية لليهود لإقناعهم بالهجرة إلى هذه الأرض، ولم تجد إلاّ أسطورةً في التوراة المحرَّفة التي كُتبت في بابل أيام السبي واقتبست من اساطير بابلية وسومرية، بأنّ الله وعد بني إسرائيل بأرض الميعاد وهي فلسطين على لسان النبي إبراهيم. وتظهَر هذه الأسطورة الخطيرة من التسمية الدّينية لهذا الكيان (إسرائيل)، وهو اسمٌ النبي يعقوب أحدُ أبناء إبراهيم.
وبالتالي فأن الحركة الصهيونية قد استخدمت المصطلح الديني "أرض إسرائيل" الذي ظهر على يد المسيحية، وحولته إلى مصطلح سياسي لا تعرف إلى الآن ما هي حدوده، ولا ما هي تطلعاته المستقبلية. لقد ظهر مصطلح أرض إسرائيل عبر التاريخ، وبدأ تغلغله في أوساط اليهود، مروراً باستغلاله من قبل الحركة الصهيونية، وانتهاءً بتحوله إلى مصطلح جيو سياسي يعبر عن مساحة معينة من الأرض تعترف بها الأمم المتحدة. وقد وسّعت الصهيونية من حجم تعبئتها الإيديولوجية لصالح هذه الأسطورة بزعمها أنّ فلسطين أرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض، مع أنّ قرار الأمم المتحدة الذي قامت عليه خرافة إسرائيل سنة 1948م يعترف بوجود شعب، وأنّ قرار التقسيم للدولتين يؤكّد ذلك، وأنّ حقّ عودة اللاجئين هو حقٌّ معترفٌ به أمميًّا منذ ذلك التاريخ. لقد كان الخطابُ المفعم بالعنصرية الدينية هو ما أعلنَه بشكلٍ صارخٍ في وجه العالم بأسره أوّلُ رئيسِ وزراءٍ إسرائيليٍّ (بن غوريون) عام 1948م في الأممِ المتّحدة، مع أنه لم يكن رجلاً متديّنًا إلاّ أنه تبجّح بهذه الأسطورة القبيحة حين قال: (قد لا تكونُ فلسطينُ لنا بالحقِّ السياسيّ أو القانونيّ ولكنّها حقٌّ لنا على أساسٍ ديني، فهي الأرضُ التي وعدَنا اللهُ بها وأعطانا إيّاها من الفراتِ إلى النيلِ). وهو ما يعني نقل مركز الثّقل في التبرير لهذا الحقّ من التبرير السياسي بحقّ الشّعوب في تقرير المصير إلى التبرير الديني بخلق علاقة وهمية بين الدّين اليهودي وأرض فلسطين، أي التضحية بالمبرّر السياسي العقلاني لصالح المبرّر الدّيني الخرافي اليهودي. خطاب التعبئة الصهيوني هذا يعتمد على نصوص توراتية وخزعبلات دينية حوّلت فكرة الرب فيها إلى ما يشبه سمساراً عقارياً يعطي اليهود حصراً أرض الميعاد، أي فلسطين، وركزت في تبريرها لاحتلال فلسطين على حقوق دينية وتأويلات وتفاسير توراتية لا يؤمن بها سوى المتدين الصهيوني اليهودي، وفرضت تلك التأويلات بالقوة طرد الفلسطينيين وإرهابهم وقتلهم ومصادرة أراضيهم وبيوتهم. وبمساعدة من قوى الاستعمار الغربي بشكل رئيس، ويُعدُّ الحديث عن أرض فلسطين هو الأقدم في الأدب اليهودي قبل أن تظهر الصهيونية كفكرةٍ سياسية للدولة المزعومة إسرائيل على يد (تيودور هرتزل)، وأنّ زيارات اليهود لها والحجّ إليها والتعلّق بها للمكانة العاطفية والمقدسّة لها وليس للارتباط السياسي أو الإيديولوجي بها في البداية، إلا أنّ الصهيونية السياسية تلوّنت بالصبغة الدينية واستغلت هذه العاطفة المقدّسة ووحّدت من تياراتها للاستثمار في هذا البُعدي الدّيني للأرض، وهو ما جعلها بارعةً في توظيف الدّين لأغراضٍ سياسية، ودفْع العالم للاعتراف بيهودية الدولة لإسرائيل، وإسقاط حقّ العودة والتطهير العرقي والتمييز العنصري على أساس الدّين. ووجدت الصهيونية العلمانية في هذا البُعد الديني للأرض الفرصة في إغراء اليهود في العالم بالهجرة إلى فلسطين، واشتقاق الحقّ السياسي والتاريخي من الحقّ الديني لها بالصناعة المحكمة في السّردية الدينية للتاريخ بالنسبة إليهم.
مثل هذه الأساطير الدينية لليهودية هي نفسها الأساطير المسيحية الإنجيلية المسيطرة على أمريكا، والتي تربط السياسة الأمريكية اتجاه إسرائيل بالعقيدة الدّينية، وربط العودة الثانية للمسيح بقيام الدولة اليهودية وعاصمتها القدس الموحّدة، وقد سبق للكونغرس الأمريكي يوم 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1995م أن قرّر بأنّ القدس هي العاصمة الأبدية والموحّدة لإسرائيل، لأنها كما يقول: الوطن الرّوحي لليهودية.
إلاّ أنّ هذه الأساطير الدينية للصهيونية بأنّ فلسطين هي (أرض الميعاد)، واليهود هم (شعب الله المختار)، وأنّ القدس في أدبياتهم هي (مركز تلك الأرض)، وأنها (عاصمة الآباء والأجداد)، وأنها (مدينة يهودية بالكامل) يُبطلها بالكامل عالمُ الآثار الإسرائيلي الشهير (إسرائيل فنكلشتاين) من جامعة تل أبيب بنفيه وجود أيّ صلةٍ لليهود بالقدس، وأكّد في تقرير نُشر بتاريخ 5 آب 2011 (أنّ علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة..)، والأكثر من ذلك فإنه يشكك في قصة داوود، وهي الشخصية التوراتية الأكثر ارتباطاً بالقدس حسب معتقدات اليهود، موضحًا أنه: (لا يوجد أساسٌ أو شاهدُ إثبات تاريخي على وجود هذا الملك الذي اتخذ من القدس عاصمة له..)، مؤكداً (أنّ شخصية داوود كزعيمٍ يحظى بتكريم كبير لأنه وَحّد مملكتي يهودَا وإسرائيل هو مجرد وَهْم وخيال لم يكن له وجودٌ حقيقي.)، و(أنّ ما يتعلق بهيكل سليمان، لا يوجد أيُّ شاهدٍ أثري يدلّ على أنه كان موجودًا بالفعل.). ويقول المؤرّخ اليهودي (شلومو ساند) في كتابه (كيف اختُلق الشعب اليهودي؟) إنّ القومية اليهودية خرافة، وأنّ اليهود الذين يعيشون اليوم في (إسرائيل) ليسوا على الإطلاق أحفاد (الشّعب العتيق) الذي عاش في مملكة يهودا، وأنّ اليهود لم يُطرَدوا من الأراضي المقدسة، ومعظم يهود اليوم ليست لهم أيّ أصول عرقية في فلسطين التاريخية. ويرى المفكر اليهودي الفرنسي (جاكوب كوهين): (أنّ المحرقة ذريعة اتخذها الصهاينة لجلب اليهود إلى فلسطين، لأن الصهيونية كأيديولوجية سياسية كانت منبوذة من قبل 99% من الحاخامات المتدينين، فضلا عن وجود نصّ ديني يقول بأنه ممنوع على اليهود المتديّنين الهجرة جماعات إلى فلسطين إلاّ بعد عودة المسيح، إلاّ أنّ المحرقة اعتُبرت حدثًا مقدَّسًا أسهم في شرعنه تأسيس إسرائيل، ورفَع المنع الدّيني من هجرة المتدينين إليها.
وعن طريق قوة رأس المال والسيطرة على وسائل الإعلام بمختلف أشكالها في العالم الغربي فإن الصهيونية استطاعت وحسب قول الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي أن تجعل باستطاعة اليهودي أن "يخلق من يهوديته أكثر من مشكلة سياسية دقيقة، إنه يرفض أي نقد، فمن يجرؤ على ذم اليهود؟ إن الذي يتناول المسألة اليهودية لن يسلم من افتراس وتمزيق (كلاب الحراسة اليهودية) فاليهود معصومون من النقد، هذا هو قانون اليهود" أمّا من الناحية السياسية المعاصرة فلم تكن هناك دولةٌ تسمّى إسرائيل إلاّ في بداية ذلك الحُلم الشيطاني لمؤسّس الصهيونية (تيودور هرتزل) يوم 03 مارس/ آذار 1897م حين قال: (في مدينة بازل فكّرت في دولة اليهود، لو قلت هذه الفكرة بصوتٍ عالٍ اليوم لقُوبِلت باستهزاءٍ عالمي.. في غضون خمس سنوات، ربما خمسين سنة سيستوعب كلُّ الناس هذه الفكرة.)، وفعلاً بعد 50 سنة أي سنة 1948م تمّ الاعتراف بهذا الكيان الغريب كدولةٍ في الأمم المتحدة! فأين هو العقل الواعي والضّمير الإنساني الذي يقبل بقيام دولةٍ على أنقاض أساطير دينية وسياسية وهمية؟
863 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع