كركوك الكوردية بين حقائق التاريخ ومزاعم السياسيين (كركوك، تاريخ عريق وواقع مرير)

 الدكتور عبدالعزيز المفتي

كركوك الكوردية بين حقائق التاريخ ومزاعم السياسيين(كركوك، تاريخ عريق وواقع مرير)

قد يبدو الحديث عن التاريخ البعيد في قضية معقدة ومتأزمة كقضية كركوك الكوردية التي تعاني من آثارها الكارثية مئات الآلاف من المدنيين، نوعا من الترف الفكري الذي لا طائل منه. ولكن الذي يبرر تقديم هذا الموضوع هو وجود خلاف كبير في هذه الفعالية الثقافية - السياسية حتى نقدم هذا العرض التاريخي السريع، وحقيقة أنه يصعب فهم معضلات اليوم دون معرفة خلفياتها التاريخية. لذلك أتمنى أن لا تخلو هذه اللمحات الخاطفة من تاريخ كركوك الطويل من فائدة.

شهدت سنوات العقد الأخير إهتماما لا بأس به بكركوك ونشر العديد من الكتب والدراسات والمقالات التي غطت بعض الجوانب التاريخية والسياسية والجغرافية والإقتصادية لقضية كركوك، لذا لم نجد مبررا في إيراد النصوص والمقتبسات المطولة من بطون الكتب والدراسات بل سأشير وبإختصار شديد إلى محطات تاريخية مهمة من وجهة نظري، وقد لا تكون كذلك بالنسبة للعديد من الآخرين من القراء، والاستماع إلى مداخلاتكم وتعقيباتكم وإستفساراتكم سوف تأخذ بنظر الاعتبار أيضاً.
إذا وضعنا جانبا الحكايات الكثيرة والمتضاربة في تفاصيلها والتي ترويها الفئات المختلفة من سكان كركوك عن تاريخ مدينتهم والأقوام التي شاركت في بناء هذه المستوطنة (الكوتية الحورية - الميتانية) الكوردية أو تلك التي سكنتها وسادت فيها، وهي قصص تغطي فترة تاريخية - طويلة تمتد إلى الألف الثالث قبل الميلاد وأحيانا إلى أبعد من ذلك، وتجمع هذه القصص في طياتها أخبارا عن سلسلة من الأقوام والقبائل هم من أجداد الأكراد التي سكنت تلك المنطقة مثل (اللولوبيين، السوباريين، الكوتيين، الخوريين، أو الحوريين، الكاشيين، الميتانيين، الميديين الكورد وغيرهم من الأقوام التي لعبت فيما بعد دورا أساسيا في تكوين الشعب الكوردي الحالي، فضلا عن قوى دولية كبرى أغارت عليها وحكمتها سنينا طويلة لتخلف آثارا مهمة كالآشـوريين والساسانيين الفرس والسلجوقيين الاتراك وغيرهم)، أقول إذا تجاوزنا هذه الأخبار سنرى بأن التاريخ يشير إلى أن عمر كركوك الكوردية أكثر من خمسة آلاف سنة على أقل تقدير وهي بذلك واحدة من أقدم مدن المنطقة الكوردية في كوردستان العراق وبنيت شأنها شأن العديد من المدن الأخرى في العالم القديم على شكل قلعة على تلة كبيرة وأحاطت بها الأسوار من كل الجهات لصد هجمات القبائل والجيوش المغيرة وكانت لها بوابات أربع. وتدلل الآثار التاريخية الغنية التي عُثرت عليها قرب كركوك إلى هذا التاريخ الطويل ودور المدينة والمنطقة الكوردية من كوردستان العراق في حضارة بلاد ما بين النهرين.
وكانت كركوك الكوردية خلال العصور الوسطى جزءا وفي أكثر الأحيان مركزا لإقليم شهرزور (ولاية شهرزور) الكوردية، أحد أشهر أقاليم كوردستان إلى جانب إقليمي الجزيرة الكوردية والجبال الكوردية على مر العصور الإسلامية حتى أواخر العهد العثماني.
ويهدف ممثلو الفئات المختلفة من سكان المدينة (كركوك) من وراء تلك الحكايات والقصص والبحث في بطون كتب التاريخ إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من هذه الروايات أو ما يسمونها بـ(الشواهد والإثباتات) على تاريخية تواجدهم في المنطقة الكوردية كركوك وتوظيف ذلك في الصراع السياسي الدائر بشأن الهوية التاريخية والقومية والثقافية للمدينة والمحافظة (كركوك)، متناسين في أغلب الأحوال حقيقة أن حقوق المواطنة والتمتع بالحريات الأساسية يجب أن لا تستند على القدم التاريخي للناس ولا على كثافتهم العددية، رغم أهميتهما بطبيعة الحال في تحديد هوية المناطق قوميا أو ثقافيا.
مع تفكك الدولة العباسية وسيطرة القبائل الرعوية المغولية والتركمانية تعرضت كركوك المدينة والمنطقة الكوردية كغيرها من المدن والحواضر الشرقية إلى حملات التدمير والنهب والفوضى السياسية على أيدي السلاجقة والمغول والأتابكة والقره قوينلو والآق قوينلو والصفويين والعثـمانيين إلى جانب صراعات الزعماء القبليين والإقطاعيين الكورد المحليين. نجمت عن هذه الصراعات الطويلة التي إستغرقت فترة زمنية تجاوزت ألفية كاملة، حالة جدا مريعة من الركود الإقتصادي والإجتماعي والثقافي.
وجاء الإحتلال العثماني التركي في النصف الأول من القرن السادس عشر ليكرس حالة التخلف والركود والنهب العثماني لأربعة قرون كاملة، شهدت المنطقة خلالها الويلات بسبب الصراع الطويل بين الدولتين العثمانية (الأتراك) والإيرانية (الفرس) بخاصة خلال حملات الشاه عباس الأول (الصفوي) (عام 1623) وبالأخص أثناء حملة نادر شاه واحتلاله لكركوك (عام 1743) واستعادة العثمانيين الاتراك لها في عام (1746). لم يكن بالإمكان أن تمر هذه الحملات والغزوات دون أن تترك آثاراً كبيرة على البنى الاقتصادية والإثنية والاجتماعية في كركوك الكوردية وتوابعها.
ومنذ القرن الثامن عشر تحولت كركوك الكوردية إلى ساحة لصراع باشوات بغداد وشهرزور الكوردية من أجل السيادة فيها. وهكذا يمكننا القول بأن كركوك لم تنعم على مدى قرون طويلة بالأمن والسلام. ولكنه ورغم السيطرة الشكلية العثمانية على كركوك خلال العصر الحديث، إلا أن السلطة الفعلية فيها وفي غيرها في مناطق كوردستان كانت بأيدي الزعماء القبليين والإقطاعيين الكورد المحليين وبخاصة أمراء بابان وأردلان.
لم تكن كركوك الكوردية في العصور الوسطى سوى مجموعة من البيوت المحاطة بسور كبير على ربط بين قصبة داقوق ومدينة أربيل، أي أن داقوقا التاريخية، التي أصبحت فيما بعد قضاء داقوقا تابعاً لكركوك ومن ناحية لتعود قضاءداقوقا مرة أخرى، كانت أكثر صيتاً وأهمية من كركوك نفسها، بل أن الأخيرة (كركوك) ولغاية أواخر القرن الرابع عشر الميلادي غالباً ما كانت تتبع داقوق إدارياً واقتصادياً، وكانتا على اتصال بأربيل وشهرزور الكورديتين وامتداداتهما أوثق من اتصالهما بأية بقعة أخرى في المنطقة من جميع الأوجه( ).
ورد اسم كركوك بصيغته الحالية لأول مرة في التاريخ في العهد التيموري في كتاب شرف الدين علي يزدي (ظفرنامه) الذي كتب في حدود سنة 1424/1425م.
ويبدو أن القلعة (كركوك) المحاطة بالأسوار بقيت لقرون طويلة المنطقة السكنية الوحيدة في المدينة ولم يتجاوز عدد بيوتها عند منتصف القرن السادس عشر المائة وسبعين بيتاً وفق بعض الروايات التاريخية، كانت بيوت باشوات شهرزور (الأكراد) حتى منتصف القرن التاسع من أبرز البيوتات التي كانت تضمها قلعة كركوك. وشهدت نفس الفترة التاريخية تقريباً ظهور البيوت والمحلات التجارية خارج القلعة (كركوك)، إذ لدينا بعض الإشارات تعود إلى عام 1548 عن حي إمام قاسم الكوردية الشهيرة في كركوك الذي ضم آنذاك (21) داراً سكنية وشهد جامعه المعروف (جامع إمام قاسم) عمليات الترميم في الأعوام 1614، 1691، 1894. وشهدت بداية القرن الثامن عشر بناء تكية الشيخ عبد الرحمن التي تعرف بالتكية الطالبانية، كما تشير المصادر نفسها إلى الكنيسة على تلة (حمراء) إلى الشرق من القلعة على طريق كركوك - السليمانية الحالي( ).
وكانت كركوك تدار بعد استيلاء العثمانيين الاتراك عليها بموجب نظام إقطاعي (دربكي)، حيث يتولى (متسلم) إدارتها مقابل رسوم مقطوعة، ولما ألغي نظام الحكم الإقطاعي عام 1840، أعيدت إدارة كركوك (اربخا) إلى ولاية شهرزور الكوردية وكانت كركوك (اربخا) مركزاً لها (لولاية شهرزور). وفي عام 1879 أصبحت هذه الولاية (كركوك) سنجقاً أي متصرفية ألحقت بولاية الموصل-كوردستان الجنوبية (كوردستان العراق الحالي).
من المناسب أن أشير هنا إلى حقيقة تاريخية مهمة وهي أن لواء كركوك الكوردية كانت تضم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى أقضية كركوك، أربيل، رانية، رواندوز، كويسنجق وكفري وجميع توابع هذه البلدات الكوردية. وفي عام 1918 فقط قام البريطانيون بفصل الأقضية الواقعة إلى الشمال من الزاب ليكونوا منها لواء بإسم لواء أربيل. أي أن لواء كركوك كان يضم جميع أراضي كوردستان الحالية بإستثناء الأقضية الكوردية التي كانت تتبع الموصل والتي شكلت منها عام 1969 محافظة دهوك وقضاء خانقين في ديالى وتوابعه التي ألحقت بولاية بغداد لدوافع ترتبط أساساً بأهمية موقعها الجغرافي (خانقين) في العلاقة مع إيران. وهكذا فإن إقليم شهرزور (الكوردية) يعيش اليوم من دون عاصمته التاريخية (كركوك_اربخا). وتشير حقيقة إرتباط هذه المناطق إداريا بكركوك بل وإدارتها إنطلاقا من مركز كركوك إلى الهوية التاريخية والجغرافية للمدينة والمحافظة التي يحاول الكثيرون تحريفها هذه الأيام لأغراض سياسية معروفة.
يبدو أن كركوك شهدت توسعا لابأس به في ظل حكم الإمارتين الكورديتين الأردلانية والبابانية. فقد أشار السائح الفرنسي (أوتير)، أول سائح فرنسي زار المدينة (كركوك) في نيسان من عام 1735 وعاد إليها مرة أخرى عام 1739، إلى مدينة كركوك بأنها كانت في النصف الأول من القرن الثامن عشر مدينة متوسطة الحجم وتقع في منطقة سهلية تتخللها التلال، ولها سور وقلعة حصينة ذات إنحدار حاد وعسير، وتمر بأسفلها ساقية اسمها (خاصة)، وهي كلمة كوردية متداولة في منطقة كركوك تعني العذب أو الجيد وقد أشار هذا (السائح الفرنسي أوتير) إلى ذلك بوضوح أي الماء العذب. وأشار بأن القلعة (كركوك) تعود إلى عصور قديمة جداً، وكانت المدينة كركوك عندما زارها تتكون من قسمين: القسم الأول القلعة وكان يعيش فيها عدد غير كبير من السكان، أما القسم الثاني فقد شكلته المنطقة المحيطة بالقلعة (كركوك) والتي كانت تضم المركز التجاري للمدينة. وأكد السائح الفرنسي (أوتير) أيضا حقيقة كون كركوك عاصمة لباشالق /باشوية "باشوية" شهرزور (الكوردية) والتي إعتبرها (كركوك) جزء من كوردستان، وضمت حكومة شهرزور الكوردية برأيه (32) مقاطعة، وكان يحد باشوية شهرزور الكوردية كل من أذربيجان وبلاد/امارة بابان وبلاد بغداد والموصل وعمادية وحكاري، وذكر بأن باشا شهرزور الكوردي جعل من كركوك محلا لإقامته (مركزه).
شهد القرن الأخير (العشرين) من عمر الدولة العثمانية صراعاً كبيراً للسيادة على كركوك بين باشوات بغداد وباشوات شهرزور (الكوردية). فقد كان ولاة شهرزور الكورد يعينّون من قبل الباب العالي العثماني مباشرة ويديرون شؤون الولاية (شهرزور) الكوردية من مركزها كركوك باستقلال تام عن سلطات باشوات المناطق المحيطة بها. لكن باشوات بغداد أخذوا يعيّنون رجالهم كمتسلمين في كركوك منذ منتصف القرن الثامن عشر. ولم يكن ذك ليرضي باشوات شهرزور الكورد الذين لم يتخلوا عن حقهم في استرداد عاصمة ولايتهم شهرزور في (كركوك) أبداً ومثلوا على الدوام تهديداً على سيطرة ولاة بغداد على كركوك. ربما يتساءل المرء هل للصراع الدائر حالياً على كركوك بين حكام بغداد وشهرزور الكوردية علاقة بذلك الصراع القديم أم لا؟
لم تجذب كركوك اهتمام الرحالة الأجانب كثيراً، فالرحالة القادم من عاصمة آل عثمان والمتوجه إلى بغداد عن طريق الموصل أو العكس كان بإمكانه أن يمر على مسافة عدة من الكيلومترات غرب كركوك، دون أن يمر بها أو يكتب عنها وذلك عبر طريق الموصل - قصر مشعان - تكريت - سامراء - بغداد ومن ثم الذهاب إلى إيران عن طريق خانقين أو غيرها. وهكذا فإن كركوك لم تكن خلال عصر الرحلات مدينة مركزية في ذهن الرحالة ولا مركزاً من الصعب أو الخسارة السياسية والاقتصادية أو المعلوماتية تفادي المرور به. بينما كان هناك طريق آخر يزيد حظ كركوك كمحطة رئيسية من محطات السفر، وهو الذي يمر بوسط كوردستان، أي عبر السليمانية - سنه أو سنندج - همدان ومن ثم أصفهان وطهران. إن كان المسافر قادماً من بغداد أو الموصل أو عائداً إليهما( ).
ومن هنا فإن المعلومات المتوفرة عن كركوك بالمقارنة مع المدن والحواضر الشرقية الأخرى التي مر بها الرحالة والتجار والمغامرين تبدو فقيرة ومبعثرة، لا يستطيع معها الباحثون من رسم صورة عنها خلال القرون التي أعقبت الاحتلال العثماني.
ولكن في المقابل فإن الطريق المار بكركوك قد جرى استخدامه من قبل الجيوش المحتلة والقوى المختلفة في حملاتها العسكرية وصراعاتها الطويلة على مدى القرون للسيطرة على هذه المنطقة كركوك الكوردية من كوردستان أو درء الأخطاء عن نفسها، الأمر الذي نجم عنه الخراب والدمار على مختلف الأصعدة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية التي لا تزال كركوك تعاني من آثارها المريرة.
تشكل نهاية القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر (فترة التنظيمات العثمانية) لحظة تاريخية مهمة بالنسبة لكركوك وكوردستان برمتها. ويرتبط ذلك أساساً بتخلي الدولة العثمانية عن سياستها السابقة في كوردستان، نقصد بها سياسة ترك إدارة المناطق الكوردية في كوردستان بأيدي الزعماء القبليين والإقطاعيين المحليين الكورد لقاء إرسال الأموال سنوياً إلى الباب العالي وتقديم المقاتلين أثناء الحروب والحملات العسكرية والخطبة باسم السلطان العثماني في جوامع كوردستان أثناء صلاة الجمعة، وقد اتبعت الدولة العثمانية هذه السياسة في أغلب مناطق كوردستان منذ معركة جالديران 1514 بينها وبين الدولة الصفوية. ولكن مع التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا واكتشاف الدولة العثمانية لحقيقة تخلفها عن الأولى (اوروبا) وقيامها ببعض الإصلاحات بهدف بقاء سيطرتها على المناطق المختلفة من الامبراطورية العثمانية، قررت اللجوء إلى الإدارة المباشرة للمناطق الخاضعة لسيطرتها بما فيها كوردستان. وقد تركت تلك السياسات العثمانية في كوردستان على مدى قرون ثلاثة آثاراً جدا عميقة على الأوضاع في كوردستان، فهي ساهمت من جهة على بقاء الكورد عنصراً سائداً في مواطنه (كوردستان) ومحافظاً على ثقافته المحلية ولغته الكوردية، لكنها ساهمت من جهة أخرى في ترسيخ حالة التفتت والتشرذم القبلي والإقطاعي الكوردي إلى حد كبير الأمر الذي لا يزال يعاني المجتمع الكوردي من آثاره الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية المدمرة إلى يومنا هذا.
وقدر تعلق الأمر بكركوك فإنها تحولت منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى مركز مهم للإدارة والجيش العثمانيين وتجنيد العساكر والموظفين الإداريين. ومع استقرار الإدارة العثمانية وفئة الموظفين المدنيين والعكسريين فيها، بدأت عثمنة (تتريك) في جزء من السكان المحليين (كركوك)، لتبدأ بذلك عملية التغيير الديموغرافي القسري للسكان والتي ستصبح على مدى القرن والنصف التالي سمة رئيسية تصطبغ بها الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في كركوك المدينة والمنطقة.
رغم ذلك لا نجد حتى نهاية القرن التاسع عشر مصدراً مهماً يشير إلى تغييرات كبيرة في التركيبة الأثنية للسكان. وهنا يجب التنويه مباشرة إلى أنه لا يمكن التعويل كثيراً على الأرقام الواردة في كتابات الرحالة والمصادر المختلفة لأنها تستند في أغلب الأحوال على التخمين لأناس لم يقضوا في أكثر الأحيان سوى أيام معدودة في كركوك أو في أحد توابعها، لذا فإن الاختلاف والتناقض الكبيرين ينتابان هذه الأرقام والمعطيات إلى حد كبير. ولعل (كليمان) الذي زار المدينة (كركوك) عام 1856 أول من يعطينا تخميناً لعدد وتركيبة سكان كركوك الذين يقدر عددهم بحوالي (25) ألف نسمة (من دون الجنود العثمانيين الذين كانوا يتمركزون فيها)، مؤكداً في الوقت نفسه أن الكورد يشكلون ثلاثة أرباع سكان كركوك.
من الجدير بالملاحظة أن أكثر الرحالة الذين مروا بكركوك وتحدثوا عن تركيبة سكانها لم يُدخلوا الجنود وفي أغلب الأحوال الموظفين المدنيين العثمانيين أيضا ضمن سكان المدينة (كركوك)، بل عدّوهم غرباء عنها سرعان ما يغادرونها بعد انتهاء خدمتهم فيها، باستثناء من يتخلف منهم بسبب الروابط الاجتماعية أو المصالح الاقتصادية. فقد قدّر المهندس الروسي (يوسيب تشيرنيك) الذي زار المدينة (كركوك) عام 1872-1873 بهدف دراسة إمكانية الملاحة في حوضي دجلة والفرات، قدر عدد سكان المدينة (كركوك) بين 12-15 ألف نسمة وأكد بأنهم جميعاً من الكورد باستثناء (40) عائلة مسيحية اعتبرهم خطأً من الأرمن، وهكذا نرى بأن التناقض تسود هذه المعطيات خاصة فيما يتعلق بعدد السكان وبقدر (أقل قدر) تعلق الأمر بتركيبتهم الأثنية. ويحدد (شمس الدين سامي) وهو مؤلف عثماني تركي معروف من أصول ألبانية ومن رواد الأدب التركي الحديث، في مصدر معتبر هو قاموس الإعلام العثماني عدد سكان كركوك بـ (30) ألفاً في منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر مؤكداً في الوقت نفسه بأن الكورد في كركوك يشكلون ثلاثة أرباعهم.
سيشهد القرن العشرين أكبر عملية عبث بالديموغرافيا في كركوك الكوردية على أيدي الحكومات العراقية المتعاقبة لغرض تعريب كركوك ولتصل إلى مرحلة التطهير العرقي والتهجير القسري (للكورد) بأبشع صوره على يد نظام صدام حسين وحزب البعث السابق ولتنحسر نسبة الكورد في كركوك إلى 48% في أواخر العهد الملكي وأقل من ذلك بكثير في العقود اللاحقة. لقد ساهمت ثروة كركوك النفطية في تعميق هذه التغييرات الديموغرافية، فقد تحولت المدينة إلى مركز جذب مهم للسكان بعد استخراج النفط فيها منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي وبلغت الزيادة السكانية فيها نسبا عالية جدا بسبب الهجرة المستمرة اليها من مناطق الطرد السكاني. فقد بلغ عدد سكان مركز قضاء كركوك عام 1947 (67756) شخصا، كان أكثر من (18) ألفاً منهم من مواليد الألوية الأخرى، بينما وصل هذا الرقم إلى حوالي (20) ألفاً حسب إحصاء عام 1957 بينهم عدد من مواليد الدول العربية أيضاً.
من المفيد أن نشير هنا إلى أنه وبعد انقضاء أربعة عقود كاملة في حينها من زوال الحكم العثماني التركي عن العراق كان لا يزال في مركز قضاء كركوك (1353) شخصاً من مواليد تركيا حسب إحصاء عام 1957. ويؤكد الرقم الأخير حقيقة طالما حاولت جهات عديدة أن تنكرها لأسباب غير منطقية ونقصد بها سياسة إسكان الموظفين المدنيين والعسكريين الترك في المدينة من قبل سلطات الاحتلال البريطاني بعد هزيمة الدولة العثمانية واحتلال الانجليز للمدينة (كركوك).
لقد برر البريطانيون الأمر بحاجتهم إلى أولئك الموظفين الاتراك والاستعانة بهم لإدارة أمور اللواء (كركوك) لقد استغل الانجليز هذا الأمر بطريقة كانت تهدف دوماً إلى تهميش السكان الكورد في المدينة (كركوك) وإضعاف دورهم في إدارتها وفي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية فيها بسبب مطالبة الكورد آنذاك بالدولة الكوردية المستقلة في (كوردستان). استمرت عمليات الهجرة إلى كركوك من غير الكورد خلال العقود التي أعقبت ذلك بأعداد كبيرة وتشير المصادر إلى أن عدد المهاجرين إلى كركوك خلال 1947-1957 فقط بلغ (39) ألف مهاجر.
وهناك حقيقة أخرى لا يخلو منها مصدر معتبر أو مرجع رصين وهي اعتبار كركوك ضمن أراضي كوردستان قبل وبعد قيام الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي 23 اب 1921. إذ تشير الموسوعة البريطانية إلى أن مدينة كركوك الكوردية تقع عند أقدام جبال زاكروس في كوردستان العراق. كما تشير الموسوعة الفرنسية الكبرى إلى أن كركوك الكوردية تعد من أهم المدن الكوردية في كوردستان الجنوبية (كوردستان العراق) وتتمتع بأراضٍي خصبة وتصلها المصادر المختلفة.
خلال العقود الأربعة الأخيرة ومع تنامي حملات التعريب وحملات الأنفال السيئة الصيت والتطهير العرقي والتهجير القسري والقتل الجماعي في كركوك تنامت الدعوات والمحاولات لفصل كركوك عن محيطها الجغرافي والثقافي الطبيعي (كوردستان) من خلال الإجراءات القسرية وتشويه حقائق التاريخ والجغرافيا. لقد أثبتت تجارب التاريخ فشل مثل هذه المحاولات والدعوات في كركوك وفي غير كركوك. في المقابل أظهر سكان كركوك الأصلاء كماً كبيراً من التسامح والروح الإنسانية النبيلة لقبر جميع المحاولات التي كانت تهدف إلى تحويل مدينتهم (كركوك) الحضارية إلى ساحة للصراع والعنف والبربرية.

الدكتور
عبد العزيز المفتي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2999 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع