أ.د. ضياء نافع
تولستوي وجامعة قازان
تأسست جامعة قازان ( وقازان عاصمة تتارستان ضمن روسيا الاتحادية ) عام 1804 حسب أمر اداري أصدره قيصر الامبراطورية الروسية آنذاك الكساندر الاول ( الذي يرتبط اسمه بالانتصار على نابليون في حربه ضد روسيا عام 1812 ) , وعندما كنت قبل اكثر من عشر سنوات في زيارة رسمية لجامعة قازان لاحظت لوحة كبيرة جدا لهذا القيصر تتصدّر القاعة الكبرى في تلك الجامعة , ولدى سؤالي عن ذلك , اوضحوا لي , ان هذه اللوحة كانت منسية ايام الاتحاد السوفيتي , ولكنهم اعادوها بعد ترميمها , وتبدو وكأنها مرسومة الان , وذلك احتراما لمؤسس جامعة قازان في الامبراطورية الروسية آنذاك , علما , ان هذه الجامعة تحمل اسم لينين ايضا , والذي اطلقوه عليها بالاتحاد السوفيتي في عام 1924 , عندما توفي قائد ثورة اكتوبر الاشتراكية , وذلك لان لينين كان طالبا بكليّة القانون في تلك الجامعة , وهكذا , فان جامعة قازان ترفع صورة الكساندر الاول قيصر الامبراطورية الروسية , وتحمل اسم لينين مؤسس الدولة السوفيتية في نفس الوقت التزاما بمسيرتها التاريخية واحتراما لتلك المسيرة عبر اكثر من قرنين من الزمان وبغض النظر عن النظام السياسي السائد في روسيا ( وكم يبدو ذلك الامر غريبا و مدهشا ورائعا بالنسبة لنا , نحن العراقيين , مقارنة مع واقعنا الاليم !!!) , علما ان هذه الجامعة تعدّ الان واحدة من الجامعات العشر الاولى بين الجامعات الروسية كافة , وهو موقع علمي متميّز فعلا في مسيرة التعليم العالي بدولة كبرى مثل روسيا الاتحادية , الدولة المتعددة القوميات والاعراق والثقافات والتي يوجد فيها المئات من الجامعات العامة و المتخصصة , اضافة الى مؤسسات التعليم العالي المتشعبة الاخرى من معاهد ومدارس عليا...الخ.
من جملة ما تفخر به جامعة قازان , هو ان الكاتب الروسي تولستوي كان طالبا لديها في القرن التاسع عشر ( التحق بالجامعة عام 1844), ورغم انه قضى سنتين دراسيتين فقط في صفوفها ليس الا, حيث كان في البداية طالبا يدرس اللغات الشرقية ( درس اللغتين التركية والعربية) , ثم انتقل للدراسة في كليّة القانون , و ترك تولستوي الدراسة الجامعة بعدئذ نهائيا , الا ان جامعة قازان لا زالت تحتفظ بوثائقه وتعتزّ طبعا ان تولستوي كان طالبا لديها في فترة ما , ولهذا , فان الجامعة تقيم بين حين وآخر ندوات علمية ومحاضرات وسمنارات حول هذا الاديب الروسي الشهير , باعتباره كان احد طلبتها , اضافة الى انها اطلقت اسمه على عدة مؤسسات داخل الجامعة , ونود ان نعرض للقارئ العربي في مقالتنا هذه بعض جوانب تلك الفعّاليات الثقافية في جامعة قازان حول تولستوي , اذ اننا نرى في جوهر هذه النشاطات جانبا مشرقا ورائعا للتعبير عن وفاء الجامعة تجاه طالب سابق لديها درس سنتين دراسيتين فقط , وكم يذكّرنا هذا الوفاء بواقعنا المرير عن ( عدم الوفاء , ولا اريد استخدام كلمة اخرى !!! ) لمؤسساتنا الجامعية العراقية تجاه اعلام عراقيين كبار درسوا في صفوفها ( لم نشاهد مثلا في مئوية الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة اي مشاركة حقيقية لجامعة بغداد في تلك المناسبة المهمّة , وكأن نازك الملائكة ليست خريجة تلك الجامعة , ولم نسمع بأي مبادرة حول خريج جامعة بغداد بدر شاكر السياب ايضا , وهناك الكثير الكثير من اسماء المبدعين العراقيين طبعا في هذه القائمة !!! ) . ان المؤسسات الجامعية لدينا لا تتذكر خريجيها او الذين درسوا فيها من هؤلاء المبدعين العراقيين بتاتا مع الاسف , بل ولا تشير الى ذلك نهائيا حتى في اصداراتها و ادبياتها , ولهذا لا تعرف الاجيال العراقية الجديدة الجذور و الاسس الفكرية و الحضارية لهؤلاء المبدعين . لقد اطلعت على محاضرة تم تقديمها لطلبة الكورس الاول في جامعة قازان عن دراسة تولستوي في تلك الجامعة , وتحدّث المحاضر بالتفصيل عن مسيرة (الطالب تولستوي) , وكيف انه لم يتقبّل نظام التعليم الجامعي بشكل عام , ويشير المحاضر الى تفصيلات طريفة , منها , ان تولستوي لم يكن يستسيغ المحاضرات (الجافة!) , التي كان بعض الاساتذة يلقوها على الطلبة بالطريقة الاملائية , وكان الطالب تولستوي في هذه الاثناء يجلس في الصفوف الخلفية ( ..ليقرأ الجرائد ..) , وذكر المحاضر ايضا , كيف ان تولستوي كتب في مذكراته عن تلك الفترة , حيث جاء في تلك المذكرات السبب الذي قرر على اساسه ترك الدراسة الجامعية , وقال تولستوي في تلك المذكرات , ان أحد الاساتذة طلب منه مرّة كتابة تقرير علمي , واستهوى تولستوي الموضوع فذهب الى القرية , وهناك اندمج مع قراءة مونتيسيكيو , وفتحت هذه القراءة المعمقة لتولستوي آفاقا واسعة , فانتقل لقراءة جان جاك روسو , واستمرّ في القراءة و البحث العلمي , وقرر بعد ذلك ترك الجامعة ( ...كي يتعلّم ..) , ويوضّح المحاضر للطلبة , ان هذا القرار كان يتناغم مع نفسية تولستوي ( الانسان الحر, والانسان المتمرد ) منذ ان كان في ذلك العمر اليافع , وانه استمر هكذا طوال حياته , ويشير المحاضر , الى ان روايته ( الحرب والسلم ) هي في الواقع ( .. نقاش مع علم التاريخ , الذي كان سائدا في عصره ...) , وان موقفه المعروف من الكنيسة الروسية هو تعبير آخر من مظاهر ايمانه المطلق بالحرية , وصولا الى حادثة هروبه الغريب من البيت قبيل وفاته, ويصل المحاضر الى استنتاجه المنطقي الاخير عن سبب تركه الجامعة , وهو ان تولستوي كان يجب ان يترك الجامعة , لأنه لا يمكن ان يخضع دون نقاش لقوانينها الصارمة .
تولستوي وجامعة قازان موضوع واسع جدا في الدراسات الروسية عن تولستوي , اذ توجد العديد من الكتب والبحوث حول ذلك , حيث يجد الباحثون في ثنايا التفاصيل الدقيقة لتلك المرحلة المبكرة ملامح و خصائص تولستوي الكاتب والمفكّر , والتي سوف تتبلور في مسيرته اللاحقة .
متى نرى بحوثا علمية عندنا بعناوين مثل – نازك الملائكة ودار المعلمين العالية , بدر شاكر السياب ودار المعلمين العالية , غائب طعمه فرمان وكلية الآداب ......
934 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع