أ.د. ضياء نافع
عن اول كتاب اصدره غوغول
عندما زرت معهد بوشكين للغة الروسية بموسكو قبل عدة سنوات , فوجئت بمقطع من كتابات غوغول حول بوشكين منقوشة بحروف بارزة على الجدار اليمين في مدخل المعهد , وقد وقفت طبعا وقرأت ذلك النص الغوغولي المتميّز والعميق عن بوشكين , ثم استفسرت عن تلك الظاهرة الجديدة بالنسبة لي ( اذ اني من روّاد هذا المعهد منذ تأسيسه !) , فقال لي رئيس المعهد مبتسما , انه لم يجد أفضل من تلك الكلمات لغوغول عن بوشكين واهميته للغة الروسية وآدابها , وقد اتفقت معه في الرأي , واليوم , ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين , لازال غوغول فارس الساحة الثقافية الروسية بلا منازع , فهو (الاوكراني!) العتيد والكاتب (الروسي!) الكبير في آن واحد, ومن يمكن له في اجواء الحرب الروسية – الاوكرانية ( التي بدأت في شباط ( فبراير) عام 2022 , ولازالت مستعرة لحد الان , ونحن في آب ( اغسطس) من عام 2023) ,من يمكن ان ينافس غوغول في موقعه المتميّز والخاص جدا بالساحة الثقافية الروسية المعاصرة ؟ اذ ان غوغول يجسّد اوكرانيا وروسيا معا وسويّة , ويرمز الى وحدتهما الطبيعية جغرافيا وتاريخيا وثقافيا و انسانيا ايضا منذ انطلاق بداياتهما في القرن العاشر عند تأسيس دولتهما المشتركة - ( كيفسكايا رووس! والتي يمكن ترجمتها بلغة عصرية – روسيا الاوكرانية ) , ودون امكانية الانفصام بينهما لاحقا و ابدا , فلا يمكن ( تقسيم!) غوغول الواحد ( الكاتب والمفكّر والفيلسوف ) على كاتبين ومفكرين وفيلسوفين , واحد روسي والثاني اوكراني !!! .
مؤلفات غوغول المختارة والكاملة طبعوها عشرات المرات في الامبراطورية الروسية ( منذ ان كان غوغول على قيد الحياة ) والاتحاد السوفيتي وروسيا الاتحادية ( طبعت مؤلفاته الكاملة ب 23 مجلدا , وانجزت عام 2013) , اضافة الى طبع نتاجاته الادبية من قصص ومسرحيات وروايات بكتب منفصلة بحد ذاتها كانت تلاقي الرواج آنذاك دائما , ولازالت كل هذه الكتب والمؤلفات مطلوبة من القراء لحد الان . غوغول كاتب قصص قصيرة وطويلة وكاتب مسرحي وروائي , ولكنه ابتدأ بالنشر شاعرا , واصدر كتابه الاول عام 1829 (وكان عمره 20 سنة) , والكتاب هو مجموعة شعرية باسم مستعار , ولكن غوغول شعر رأسا بالفشل الذريع لذلك الكتاب , فقرر رأسا شراء كل النسخ التي جرى طبعها وتوزيعها آنذاك من هذا الديوان , وحرقها باجمعها , وهذا يعني , ان عملية (حرق!) مؤلفاته ليست ظاهرة جديدة في مسيرته الادبية ابدا , اذ انه كررها مرّة اخرى في نهاية حياته – كما هو معروف - وأحرق كليّا الجزء الثاني من روايته ( الارواح الميتة ) , والتي كتبها لفترة طويلة جدا , ولكن , والتزاما بعنوان مقالتنا هذه , لنبتدأ بالحديث عن الكتاب الاول الذي أصدره غوغول , وهو الكتاب الذي يرتبط لحد الان بظهور نجم ساطع في دنيا الادب الروسي , والادب العالمي ايضا .
الكتاب الحقيقي الاول لغوغول صدر في بطرسبورغ , وعنوانه حسب الترجمة الحرفية هو – (امسيات في بيت ريفي منعزل قرب ديكانكا) . اصدر غوغول الجزء الاول من كتابه هذا عام 1831, وكان عمره آنذاك (22) سنة فقط , وصدر الجزء الثاني عام 1832 . نجح الكتاب بشكل ساطع و باهر جدا , اذ انه عكس خصائص غوغول الادبية التي سيتميّز بها لاحقا – العنوان الطريف ( والذي خلّد به قرية ديكانكا المجهولة , وهكذا اصبحت هذه القرية معروفة وليس فقط في اطار روسيا , وانما عالميا ايضا بفضل كتاب غوغول هذا , وقد تذكّرت رأسا قصيدة عبود الكرخي – قيّم الركاع من ديرة عفج , التي خلّد فيها الشاعر (ديرة عفج) بالنسبة لنا , نحن العراقيين !) وانعكست في الكتاب ايضا الروح الشعبية الاوكرانية والواقعية الممزوجة بالخيال الغرائبي والمرح والضحك و السخرية, وكل ذلك باسلوب جميل أخّآذ و بلغة روسية ذات مستوى رفيع جدا , وتكاد ان تكون لغته الخاصة به , فهي لغة روسية شاعرية مطعّمة بالاسماء والاماكن الاوكرانية , وقبل كل شئ بالفلكلور الاوكراني طبعا بخرافاته واساطيره وحكاياته المثيرة . لايزال كتاب غوغول هذا مطروحا وبشكل واسع بين القراء الروس صغارا وكبارا , لدرجة , ذكر فيها رئيس اتحاد الادباء الروس في مدينة بطرسبورغ ( ما معناه ) انه عاد لقراءة ذلك الكتاب في بداية الحرب الروسية – الاوكرانية , لأنه لم يجد افضل من غوغول رمزا لانهاء هذه الحرب . ومن الطريف ان نشير هنا , الى ان ناشر الكتاب في بطرسبورغ آنذاك ( اشتكى !!!) قائلا , ان عمّال المطبعة كانوا يقرأون كتاب غوغول هذا ويقهقهون , وان تلك القهقة قد عرقلت عملهم اثناء طبع الكتاب , ويا لها من شهادة رائعة وحقيقية وعفوية عن عبقرية الكاتب غوغول , شهادة أعمق كثيرا من (مقالات !!!) يكتبها بعض نقّاد الادب .
تم ترجمة هذا الكتاب الى الكثير من لغات العالم , ومن بينها طبعا لغتنا العربية , وبعناوين متعددة , منها – امسيات قرب قرية ديكانكا , الامسيات في قرية قرب ديكانكا , امسيات في قرية قرب ديكانكا ....
مؤلفات غوغول العديدة والواسعة المعالم تنتظر الباحثين العرب , فما اكثر العناصر الانسانية المشتركة بيننا..................
1217 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع