الفريق الركن
الدكتور عبد العزيز المفتي
محاضرة-النظام الفيدرالي، تعايش التنوع والوحدة على سطح واحد
النظام الفيدرالي، تعايش التنوع والوحدة على سطح واحد()
لا يقتصر الجدل الدائر بشأن النظام الفيدرالي في العراق على العراقيين، بل تتدخل فيه الأوساط الحاكمة في دول الجوار الجغرافي للعراق، محاولة توجيهه وجهة تقلل من آثاره (السلبية!) على أمنها القومي. وتقف هذه الأوساط (دول الجوار) لأسباب معروفة ضد هذا التوجه لما يمثله ذلك من تهديد على أنظمتها الشمولية والدكتاتورية الجائرة (في دول الجوار للعراق). فدول المنطقة تئن تحت وطأة أنظمة بوليسية، قمعية، شوفينية وطائفية تنتهك حقوق الأفراد والجماعات، وتفرض مركزية قاتلة على شعوبها، وتهدر الثروات الوطنية بحجة الحفاظ على وحدة الوطن ومحاربة الإستعمار والصهيونية وغيرها من الشعارات المعروفة.
ينحاز الإعلام العربي الرسمي وغير الرسمي كليا إلى جانب المناهضين لقيام النظام الفيدرالي، ويكتفي بعرض وجهات نظرهم في الغالب، ويعمل على تعبئة الرأي العام العراقي والعربي ضد قيام النظام الفدرالي في العراق مهولا من مخاطره على وحدة البلاد، هذا إذا تركنا جانبا إتهام هذا الإعلام للداعين إليه بمسايرة مخططات ومؤامرات أعداء الأمتين العربية والإسلامية.
ويقف أكثر العرب، ومعهم الأتراك والفرس (وليس الإيرانيين كما يشاع، فكرد إيران وآذرييها وعربها وتركمانها وبلوجها والذين يشكلون مجتمعين حوالي أكثر من (70%) من سكان إيران، يتطلعون جميعا إلى قيام نظام فيدرالي ديموقراطي يحررهم من هيمنة الأقلية الفارسية وعصبة رجال الدين المتزمتين)، ضد تبني النظام الفيدرالي في العراق ويعتبرونه بداية لتفتيت العراق أو فصله عن ما يسمونه بمحيطه العربي والإسلامي.
في الوقت الذي يمكن فهم المواقف الرسمية لتركيا وإيران وسوريا والعديد من الدول العربية من تبني النظام الفيدرالي، الذي يشكل تهديدا لأنظمتها الشمولية القروسطية، وتفسير مواقف الإسلاميين المتطرفيين والأوساط الفاشية والشوفينية التي يعميها الحقد القومي والديني والمذهبي عن التعامل مع الحقائق بصورة عقلانية، إذ تنكر هذه الجهات على القوميات والأقليات القومية والدينية والمذهبية التمتع بأبسط حقوقها الثقافية والسياسية والإقتصادية، ولكنها مجبرة على تغليف مواقفها الغريبة عن روح العصر بشعارات دينية أو وطنية معادية للإحتلال والتبعية، ولكن الذي يصعب فهمه هو أن تقف أوساط من العراقيين من الذين أذاقتهم المركزية المتسلطة الويل والدمار وتسببت في إلحاق الكوارث بهم، ضد نظام سياسي، يمكن أن يوفر لهم فرصا كبيرة لإدارة شؤونهم وإزالة الحيف الإقتصادي والسياسي والثقافي والإجتماعي الذي لحق بهم وبمناطقهم.
ولكن متابعة بسيطة لما يعرض ويكتب عن موضوعة الفيدرالية في الإعلام العربي المرئي والمكتوب تظهر حقيقة مؤلمة وهي أن جمهرة كبيرة من المناهضين لتبنّيها لا تعرف عنها وعن مزاياها وتطبيقاتها في دول العالم المختلفة شيئا بالمرة. فهم يرددون في العادة مقولات بعض الزعماء الدينيين والسياسيين المغامرين والإعلاميين الباحثين عن الشهرة من خلال شاشات القنوات الفضائية العربية.
من المؤسف أن الإعلام العربي يمارس دورا سلبيا في تضليل الناس وإخفاء الحقائق وتصوير الأمور لهم بطريقة لا تخدم في المحصلة النهائية إلا القوى الظلامية والفاشية في المنطقة.
مع الأسف لا يعرف معظم هؤلاء المناهضين للفيدرالية أن سكان أربعين دولة في قارات العالم المختلفة أي ما يساوي نصف لا البشرية تقريبا يعيشون في ظل أنظمة فدرالية، فقائمة الدول الفيدرالية تضم دولا تنتمي إلى قارات العالم المختلفة بثقافاتها ودياناتها ومستويات تطورها المتباينة، وتضم دولا عملاقة وأخرى صغيرة، غنيّة متطورة وأخرى نامية. فالقائمة الفيدرالية تضم كلا من: (الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا الأتحادية، الهند، كندا، أستراليا، ألمانيا، المكسيك، النمسا، سويسرا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا، الأرجنتين، البرازيل، صربيا والجبل الأسود، نايجيريا، ماليزيا، باكستان، تنزانيا، فنزويلا والإمارات العربية المتحدة). وهناك دول أخرى عديدة تتجه نحو تبني النظام الفيدرالي لعل من أهمها في اللحظة الراهنة كل من( قبرص، السودان وأخيرا العراق) وغيرها.
هناك نزوع واضح للبشرية نحو تبني النظام الفيدرالي والنظم اللامركزية خلال العقود الأخيرة. فهذه الأنظمة تتجاوب مع رغبات وتطلعات المواطنين والجماعات والأقاليم في البلدان المختلفة. وهناك إعتقاد سائد بين الباحثين في هذا الباب بأن هذا النمط من النظام الفيدرالي سيكون النظام الأكثر إنتشارا وشعبية في العالم خلال العقود القادمة.
لا يدخل الوقوف مطولا عند التعريفات والتطبيقات المختلفة وتاريخ النظام الفيدرالي في إطار هذه الورقة، لوجود كم هائل من المصادر والدراسات وبمختلف لغات العالم حول الموضوع. ولكن الذي أود الإشارة إليه بعجالة هو أن بدايات هذا النظام تعود إلى أيام إقرار الدستور الأمريكي في أشهر مايس - أيلول من عام 1787، حين اجتمع ممثلو إثنتي عشر من مجموع ثلاث عشرة ولاية من الولايات الأمريكية في فيلادلفيا. وكانت إعادة النظر في بنود الإتفاقية التي لعبت منذ عام 1781 دور القانون الأساسي للاتحاد الكونفيدرالي الذي شكلته المستعمرات البريطانية السابقة آنذاك، من بين الواجبات الرئيسية لهذا التجمع.
تمكن المجتمعون خلال فترة ليست بالطويلة من وضع دستور جديد للأتحاد وشكّلوا على أساسه دولة جديدة تماما. ودخل الدستور الجديد حيز التنفيذ في 21 حزيران 1788 حين صادقت حكومة (نيوهامبشاير)، وكانت التاسعة في تسلسلها، على الدستور.
لقد إختلف الدستور الجديد كليا عن البنود والترتيبات التي كانت سائدة في (الولايات الأمريكية أو في إتحاد الكانتونات السويسرية أو في إتحاد أوتريخت) كونه أفرز نمطا جديدا للدولة لم تعرفها البشرية من قبل. لم تأت الدولة الجديدة لتحل محل القديمة، بل كانت بمثابة إسدال ستار نهائي عليها. ولم يكن الهدف من الاتفاقية التنازل عن سيادة الولايات الكاملة لصالح الدولة الإتحادية، بل التنازل عن بعضها ومنحها للأخيرة. ومن هنا ترسخ مبدأ مهم في النظام الفيدرالي وهو أن السلطات والصلاحيات في الدولة الفدرالية تتركز في أيدي الأقاليم الفدرالية التي تمنح بعضها إلى الدولة الفدرالية وليس العكس كما هو الحال في نظام الحكم الذاتي أو الأنظمة اللامركزية.
لقد رفض مشرعو الدستور الأمريكي الأخذ بنماذج العالم القديم، (الهولندي أو السويسري) على سبيل المثال، فقد أكّدوا بأنها لا يمكن أن تشكل مثالا جيدا للعالم الجديد. فثورات العالم القديم المنتصرة لم تجلب برأيهم الحرية الكاملة لشعوبه، بل تحولت مع الزمن إلى ملكيات مستبدة أو جمهوريات (أوليكارشية) جرى في ظلها تدمير الطبقات الإجتماعية والأقاليم. وهكذا لا تشكل الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1788 إتحاد حكومات بل حكومة متحدة. ومن هنا تسمى الدولة الفدرالية بالدولة الإتحادية أيضا.
تعرف الدولة الفيدرالية بأنها تضم على أراضيها ترتيبات أو أشكال حكومية أو كيانات دستورية متعددة، لكل منها نظامها القانوني الخاص وإستقلالها الذاتي، وتخضع في مجموعها للدستور الفدرالي، بإعتباره المنشئ لها والمنظم لبنائها القانوني والسياسي. ومن هنا فإن النظام الفيدرالي هو نظام قانوني سياسي وإداري في نفس الوقت.
ويتميّز الدستور الفيدرالي عن غيره من الدساتير بأنه يشكل القانون الأساسي للدولة الفيدرالية من ناحية وهو من ناحية أخرى يمثل عقدا سياسيا بين الأقاليم الفيدرالية.
وتسمى الحكومة الجامعة للأقاليم المختلفة عادة بالحكومة الفيدرالية أو الإتحادية. في حين تحمل الأجزاء المشكلة لها مسميات مختلفة من دولة إلى أخرى فهي (لاند) وتعني مقاطعة في كل من (ألمانيا والنمسا)، مقاطعة أو إقليم في (كندا)، كانتون في (سويسرا) أو جمهورية في (الاتحاد السوفيتي) السابق.
إذا إنطلقنا من التعريف الكلاسيكي للدولة والذي يتلخص بتعايش مجموعة معينة من السكان في جغرافيا ثابتة في ظل سيادة داخلية وخارجية (بنظرية العناصر الثلاثة للدولة) ندرك مباشرة بأن الدولة الفيدرالية مركبة ومعقدة ويفرض هذا الشكل المركب والمعقد تقسيما دقيقا للسلطات على شكل صلاحيات ومسؤوليات دستورية بين الأقاليم وبين الدولة الفيدرالية تجنبا للاحتكاكات والمشاكل الكبرى. ومن مزايا النظام الفيدرالي إنتاجه للآليات الخاصة التي تضمن حل المشاكل بين الأقاليم وبينها وبين الدولة الإتحادية.
هكذا بدأت الفدرالية تترسخ منذ أواخر القرن الثامن عشر وقدمت نماذج عديدة لا نكران نجاحاتها، حتى أوروبا العريقة بأنظمتها السياسية الديمقراطية إضطرت إلى الأخذ بها لمعالجة قضاياها سواء في علاقاتها مع مستعمراتها، أو داخل دولها كما هو الحال في كل من بلجيكا، إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا والمملكة المتحدة وغيرها من دول الأتحاد الأوروبي، بل أن الأتحاد نفسه يسير على هدى مبادئ فيدرالية.
بطبيعة الحال لم يكن تأريخ الفيدرالية سجلا للنجاحات المتحققة فقط، فقد كانت هناك نماذج فاشلة تماما. ولكن أسباب الفشل لم تكمن في النظام نفسه بل في التعسف في تطبيقاته. فقد كانت تجربة أوروبا الشرقية في تطبيقات النظام الفيدرالي سلبية بسبب أنظمتها الشمولية والمركزية الشديدة. وبما أن الفيدرالية تجسد درجة عالية من الديمقراطية، لذا فإنها لا تستطيع التعايش أبدا مع الدكتاتورية والشمولية والمركزية على أرض واحدة.
تظهر تجربة تبني النظام الفيدرالي في البلدان المختلفة بأن المناقشات التي تدور حول شكل الدولة لا بد أن تتطرق أساسا إلى طريقة توزيع الصلاحيات والمسؤوليات. ويبقى السؤال الذي يحوز على اهتمام الجميع هو إلى أي مدى يساعد شكل الدولة في تحسين نوعية الحكومة. ولا يعني هذا بطبيعة الحال التنظيم الإداري للدولة فقط، بل يجري التركيز على تحسن نوعية تلك الإدارة من وجهة نظر مواطنيها. كما تركز المناقشات على السعي الدائم للتوازن بين التنظيم الإداري والنظام الإجتماعي الذي من شأنه تنفيذ مهمات إجتماعية في إطار التنظيم الإداري. ومما له حقا أننا لا نرى نقاشاً جدياً في هذا المجال في الكثير مما يقال عن النظام الفيدرالي في العراق.
كما يركز النقاش الذي يرافق عادة تبنّي النظام الفيدرالي على قانونية السياسات الحكومية، والحقوق الأساسية للمواطنين وحمايتها، فصل السلطات، سيادة القانون وضرورة الإنصياع إلى رغبات الناس مواطنين وجماعات في القضايا المتعلقة بشكل الدولة ووظائفها. هناك تخوف غير مبرر تبديه أوساط من السياسيين والمثقفين العراقيين إزاء الدعوات التي تطالب بتبني النظام الفيدرالي. وقد يفسر مفهوم الشرق الراسخ عن الدولة هذا الموقف إلى حد كبير. فالمجتمعات الشرقية خضعت خلال عقود طويلة للدولة ورغباتها، والتي أستلبت من أفرادها إرادتهم وحولتهم دون أن يرغبوا في ذلك إلى معارضين يقفون بوجه المحاولات الهادفة إلى بناء مجتمعات مدنية تستطيع تقليص صلاحيات الجهاز الحكومي وإخضاع الدولة لأهدافها ومصالحها هي. فالدولة الحديثة هي تلك التي تستطيع خدمة شعوبها وتوظف قدراتها لتأسيس المجتمع بشكل يؤهله للإستغناء لاحقا وبالتدريج عن كثير من صلاحيات تلك الدولة. وهذا ما تعنيه بالضبط عبارة التربية المدنية.
من المؤسف أن الذي جرى في بلداننا هو العكس تماما سواء خلال السيطرة الإستعمارية أو خلال ما سمى بالحكم الوطني. فقد جرى تعزيز جهاز الدولة على الدوام. وبعد زوال الإستعمار وصل الجيش إلى الحكم ولم يفارقه إلا في حالات محدودة مخلفا الدمار والكوارث وراءه. لقد شهدت هذه البلدان على مدى عقود طويلة تسلط الفرد على الدولة لأن الدولة كانت قد تسلطت منذ قرون على المجتمع، إن صح إطلاق هذا الإسم على مجموعة غير متجانسة من الأفراد والأسر والعشائر. وفي ظل مثل هذه الأوضاع يصبح من العبث الحديث عن سيادة القانون. فمن شروط تسلط الفرد أن يحتل موقع الحكم ويشخص هو (العدالة والرحمة). لذلك كله ولأسباب أخرى لا مجال لذكرها هنا، لم يحصل في البلدان الشرقية أي تطور يهدف إلى تقليص صلاحيات الدولة وتأهيل المجتمع للإعتماد على نفسه في الكثير من الأمور. لم يحدث هذا على مستوى السلوك اليومي والقرار الجماعي بل على مستوى الشعارات والأماني. وكثيرا ما يبرر هذا الواقع بسيادة الأغراض والأطماع وبإنتشار الجهل والفقر والخوف. الأنظار تتجه دائما إلى العامة في هذه الحالات ونعرض عن النخب الفكرية والقيادات السياسية. الغريب أن لدى أفراد هذه النخب نمطاً من التفكير يرفض بإستمرار كل مشروع يرمي إلى تقوية المجتمع وإضعاف السلطة. وإستهوى هذا الجانب بالذات مثقفو الشرق من كل المشارب في الماركسية والقومية والإسلام السياسي. ويوجد هذا الرفض العنيد لتحجيم الدولة حتى عند أولئك الذين لا يشاركون في إدارتها وينتقدون سياساتها بمرارة.
تقف الأحزاب الكوردستانية الرئيسية وقوى علمانية وديمقراطية، لا تمتلك في الوقت الحاضر قاعدة شعبية واسعة، وقوى شيعية إلى جانب تبني النظام الفيدرالي، رغم تباين مفهومها لهذا النظام وصلاحياته. ويؤكد هذا الفريق بأن هذا النظام يشكل الضمانة الوحيدة لبقاء العراق ككيان موحد. من الواضح أن القوى الكوردستانية ترى في تبني هذا النظام إلى جانب مزاياه الاقتصادية والإدارية والسياسية، طريقا لحل القضية القومية الكوردية في العراق.
في حين تقف على الجبهة المضادة قوى إسلامية وبعثية وقومية متطرفة، فضلا عن كتل بشرية لا تفهم من الفيدرالية شيئا ولا تحركها سوى الدعوات والفتاوى الدينية والقومية.
من الملاحظ أن النقاش الدائر بين العراقيين حول الفيدرالية، حتى من قبل أولئك الذين يتبنونها، لا يستند على فهم صحيح لهذا النظام وتطبيقاته وتعقيداته وإيجابياته. ومن هنا لا فإن الذي يتابع هذه المناقشات يدرك بإن القوى التي تطالب بالفيدرالية لم تتمكن من توضيح وتسويق المفاهيم المتعلقة بها ومزاياها وتطبيقاتها بصورة ناجحة للرأي العام العراقي والعربي والشرق أوسطي.
الفيدرالية نتاج تاريخي وليس أيديولوجي، لذلك فهي على أشكالها وتطبيقاتها متنوعة نابعة من الأوضاع القائمة في البلدان التي تبنّت هذا النظام. لا يوجد نموذج جاهز محدد المعالم للنظام الفيدرالي يفترض تطبيقه من قبل كل من يتبنّاه، بل هناك نماذج مختلفة في دول العالم وقاراته المختلفة، تنسجم مع الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية السائدة في هذه البلدان. ويمكن لكل بلد أن يبدع نموذجه الخاص. ومن هنا فإن العراقيين يستطيعون أيضا أن يبنوا نموذجهم الخاص بهم من خلال الإستفادة من تجارب البلدان التي سبقتهم وحققت نجاحات كبيرة في ظل هذا النظام.
ولكن ذلك لا يعني بطبيعة الحال غياب المشتركات في تطبيقات النظام الفيدرالي. فكل التجارب الفدرالية تشترك في شيء أساسي وهو تقسيم واضح ومحدد للسلطات بين المركز والأطراف. فالفيدرالية نظام قانوني وسياسي يهدف في النهاية إلى توفير إدارة ناجحة ومقبولة لدى أكثرية السكان. كما انه نظام واقعي يستند إلى فكرة ضرورة حل القضايا في أطرها الجغرافية والوظيفية وتوفير الآليات المناسبة لذلك. وهو نظام يهدف في خياراته إلى التقرب من الأدنى أي المواطن العادي والإستماع إلى رغباته وتطلعاته وليس الوقوف إلى جانب المؤسسات العليا للدولة أو توسيع صلاحياتها. ونظام يعترف بالتطلعات المختلفة ويكرس مبدأ التوافق والحوار والإلتقاء في وسط الطريق. وأخيرا وليس آخرا نظام ديموقراطي وإجتماعي يعمل على إزالة الفروق الإقتصادية والثقافية والاجتماعية بين المناطق المختلفة للدولة. ولكن التعريف الأشمل للنظام الفيدرالي هو تعايش لمفهومي الوحدة والتنوع على أرض واحدة جنبا إلى جنب بصورة هارمونية ودون أزمات كبرى. أي أنه في الوقت الذي يهدف إلى تحقيق وحدة البلاد على أساس الخيارات الحرة للمواطنين، يعترف دون مواربة بالخصوصيات المحلية أثنية كانت أم دينية، ثقافية كانت أم إجتماعية. المواطن في ظل النظام الفدرالي يعيش في ظل منظومتين قانونيتين وينتمي في آن واحد إلى مجتمعين، يجب أن يميزا عن بعضهما بوضوح ويمتلكا هيكليتهما الخاصة بهما.
من هنا فإن الدعوات الكوردية التي تنطلق من ضرورة إقرار الحقوق القومية الكوردية والحفاظ في الوقت نفسه على الدولة العراقية موحدا وتأكيداتها المستمرة على أن قيام النظام الفيدرالي الحر في العراق هو الضمانة الوحيدة لبقاء العراق كدولة موحدة، وتنبيهها الدائم إلى أن عدم التوافق بشأن ذلك يعني التفريط بوحدة البلاد، تحمل معاني واضحة. فالدولة الفيدرالية تجمع في بنيتها الوحدة والتنوع، إذ يمكن جمع مختلف الطوائف والمجموعات القومية والدينية والمذهبية والثقافية العراقية في إطار دولة عراقية فيدرالية موحدة شرط أن تعترف بحقوق هذه الجماعات كلها على قدم المساواة وعلى أساس المواطنة الحرة.
يبدو أن القوى المناهضة للفيدرالية لا تعير الإهتمام بهذه التوضيحات والتحذيرات، بل تصر على مواقفها المتعنتة إما من منطلقات شوفينية أو شمولية، أو عبر الإتكاء على مواقف الدول الإقليمية المناهضة لتبني النظام الفيدرالي في العراق. يبدو أن هذه القوى لازالت لا تريد إدراك حجم التطورات الكبيرة التي تشهدها المنطقة ولا تتخلى عن قراءاتها الخاطِئة للأوضاع السياسية والدولية والتي اودت بنظام البعث في العراق. تعتقد هذه الأوساط مخطئةً بأن مواقف تركيا وإيران وسوريا والدول العربية المناهضة للنظام الفيدرالي كفيلة بقبر الدعوات إليه، لذلك ليس عليها إلا الإصرار على مواقفها حتى لو أدى ذلك إلى تعريض وحدة العراق إلى خطر التمزق وحتى الحرب الأهلية، لكي تعود وتبكي على الأطلال ولكن بعد فوات الأوان. لقد إشتهرت هذه القوى على مدى القرن الماضي بهذه المسيرة الحافلة بالهزائم وترديد الشعارات الجوفاء وتسببت في كوارث كبرى حلت بشعوب المنطقة. من هنا يبدو أن الذين يتهمون القيادات الكوردية بتعريض وحدة العراق الى الخطر يقومون بأنفسهم بذلك على أحسن وجه.
في ظل النظام الفيدرالي يكتسب المجتمع القوة والحصانة إزاء الدولة ومحاولاتها المستمرة لفرض هيمنتها ومركزيتها. وفي ظله يحتل الإنسان مركز الإهتمام ولا يثير التنوع والخصوصيات المحلية المخاوف، بل يعمل النظام على رعايتها ووضعها في أطرها الطبيعية والمؤسساتية.
فالفيدرالية تهدف بهذا المعنى إلى تحقيق إندماج الأجزاء وإستقلالها في آن واحد، ليس من خلال الأساليب القسرية، بل عبر الإقرار بهذه الخصوصيات وتوفير الأرضية المناسبة للمصالح الإقتصادية والسياسية والإجتماعية المشتركة التي تؤدي بدورها إلى تسهيل عملية الإندماج بين الأقاليم والمناطق بإنسيابية تامة مع الحفاظ على الخصوصيات. ففي ظل النظام الفيدرالي تشكل هذه الخصوصيات وهذا التنوع غنى وثراء للمجتمع وليس عنصر تهديد كما هو الحال في ظل الأنظمة المركزية والشمولية والدكتاتورية.
إذا تحدثنا بصراحة أكبر يجب أن نقر بأن هناك الشيء الكثير من التخوف وعدم الثقة بين المكونات العراقية المختلفة إزاء بعضها البعض وإزاء السلطة المركزية. لقد فشلت الدولة العراقية عل مدى ثمانية عقود من عمرها فشلا كاملا في مهمة إزالة المخاوف وخلق أجواء الثقة بين المواطنين العراقيين بمختلف قومياتهم وطوائفهم، وهي وظيفة الدولة المدنية الحديثة. الأنكى من ذلك أنها، أي الدولة العراقية، عمقت نتيجة لسياساتها الجهوية والطائفية والعنصرية الهوجاء من حجم المخاوف والهواجس التي وصلت حدا يتساءل معه كثيرون عن حسن نيّة عن إمكانية تعايش هذه الفئات مع بعضها الآن وفي المستقبل.
من المؤسف حقا أنه وبعد كل تلك التجارب المريرة التي لم تثمر سوى عن كوارث وفواجع إنسانية نرى أطرافاً سياسية لا زالت تعمل وفق نفس المنهج، إذ تفضح المواقف من قضية كركوك هذه التوجهات الخطيرة بصورة لا لبس فيها، فأكثر القوى السياسية والدينية العربية تلجأ بدلا من إدانة سياسات التطهير العرقي التي قام بها صدام حسين دون مواربة والعمل على إزالة آثارها بسرعة حفاظا على الوحدة الوطنية، إلى تشويه الحقائق المتعلقة بهذه القضية وتجعل من الوافدين أصحاباً للدار، بينما تضع ضحايا التهجير والتعريب والتطهير العرقي وبكل وقاحة في خانة الغرباء عن المدينة والذين يخططون برأيها لتغيير تركيبتها الأثنية!. لا أعتقد أن هناك قضية أخرى تعرضت إلى هذا القدر من التشويه المقصود مثل مشكلة كركوك.
الأنكى من كل ذلك هو لجوء قوى سياسية وحكومية مهمة إلى نفس اللعبة السابقة التي أثبتت التجارب فشلها الذريع، ونقصد بها محاولة إتخاذ المواطنين التركمان رهينة وأداة للمساعدة في فرض توازنات معينة في كركوك بدلا من تشجيعهم للعيش بسلام مع إخوتهم الكورد في تلك المحافظة. لقد جربت الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية هذه السياسية التي لم تثمر عن نتيجة تذكر لصالح الأوساط الحاكمة في بغداد ولكنها أدت بالمقابل إلى تسميم العلاقات بين أبناء المدينة الواحدة بل والى عمليات قتل عشوائية ذهب ضحيتها مواطنون بسطاء وأبرياء من السكان الكورد والتركمان.
من هنا يجب النظر إلى ما يطالب به الكورد من الضمانات التي تقطع الطريق على العودة إلى الأوضاع السابقة. فالقوى السياسية الكوردية تؤكد بصورة مستمرة بأن النظام الفيدرالي لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل نظام ديموقراطي يقطع الطريق على القوى الشمولية والفاشية، وما أكثرها في عراق اليوم، للقفز إلى السلطة وفرض هيمنتها بالقوة الغاشمة بإسم الدين أو القومية أو محاربة الإستعمار والصهيونية والإحتلال أو أية شعارات أخرى.
يولي الكورد أهمية كبيرة للدستور الفيدرالي وهم محقون في ذلك. فإذا كانت الدولة الكونفيدرالية تقوم على أساس معاهدة أو إتفاقية بين دول وأقاليم يعترف بها القانون الدولي، فإن الدولة الفيدرالية تتشكل من خلال سن دستور من قبل الأطراف المكونة لهذا الكيان. ويجري تثبيت النظام الفيدرالي وصلاحيات أجهزته ومؤسساته المختلفة وآليات حل المشاكل بين وحداته وغيرها من الأمور الهامة في الدستور، الذي يشكل القاعدة التي يعتمد عليها الجميع، ويشكل عقدا بين الأقاليم الفيدرالية.
الدستور مهم لأنه الضمانة الوحيدة لشكل النظام الفيدرالي، وهو بالنسبة للأقاليم المؤتلفة في الكيان الفدرالي بنفس أهمية الدستور بالنسبة لمواطني الدولة الموحدة. لا يمكن تغيير الدستور الفيدرالي عادة بالضد من رغبة سكان أحد الأقاليم المشاركة في الدولة الفيدرالية. ويجري تغيير الدستور عادة من قبل البرلمان الأتحادي بالأكثرية المطلقة. ويجب أن تترشح موافقة الأقاليم من خلال رغبات الأكثرية من السكان (الأستفتاء في كل من سويسرا وأستراليا) أو من خلال التصويت في البرلمان الإتحادي (الولايات المتحدة، المكسيك وفنزويلا). بينما لم تكن الجمهوريات في الإتحاد السوفيتي السابق ولا الأقاليم في البرازيل والأرجنتين تشارك بصورة مباشرة في التغيير، بل بصورة غير مباشرة من خلال مجلسي البرلمان.
على هذا الأساس يحاول الكورد المشاركون في العملية السياسية والدستورية ومعهم بعض القوى الديمقراطية والعلمانية وضع بنود تجعل من تغيير الدستور عملية صعبة، إن لم تكن مستحيلة في بنوده الأساسية المهمة. وتحتاج هذه المواضيع وغيرها دراسات معمقة مع متابعة تطور العملية الدستورية في العراق في السنوات القادمة.
هناك موضوع آخر يثير جدلا كبيرا وهو ما يتعلق بحق تقرير المصير الذي يطالب به الجانب الكوردي ويصر على ضرورة تثبيته في بنود الدستور. يتمتع جميع شعوب العالم بهذا الحق وفق ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، كما أنه حق أزلي لا يمكن لجيل واحد أن يمارسه نيابة عن الأجيال القادمة. ومن هنا جاءت الدعوات الأخيرة الى حق الكورد في إجراء إستفتاء بعد ثمان سنوات لتقرير مصيرهم بالنسبة للدولة الأتحادية. فلكي يبقى الإتحاد إختياريا وقابلا للعيش والديمومة يجب أن يكون للأجيال القادمة ليس من الكورد فقط، بل من القوميات العراقية الأخرى أيضا، رأيهم في تقرير مصائرهم، لا أن تقرر مجموعة من السياسيين الحاليين مصير الأجيال القادمة أيضا.
يعبر عدد من السياسيين والمثقفين العراقيين عن مخاوفهم إزاء هذه الطروحات ويعتبرونه نزوعا كرديا نحو الأستقلال. وفي الوقت الذي تتمتع فيه الأقاليم المكونة للدولة الكونفيدرالية، التي تقوم على أساس الأتفاقيات والمعاهدات الدولية، بحق الخروج الحر منها عندما تشاء، فإن الإقاليم المكونة للدولة الفيدرالية تتمتع بهذا الحق إلا إذا جرى تثبيت ذلك في الدستور. لا أعتقد بأن هذه المخاوف في محلها، لأنه اذا جرت تطبيقات النظام الفيدرالي بطريقة شفافة وديمقراطية وبعيدة عن المؤامرات ومحاولات الهيمنة فإن نتيجة أي استفتاء ستكون لصالح استمرار النظام وديمومته وإشاعة الثقة بين المكونات المختلفة وإزالة مخاوفها والتفرغ للعمل من أجل رفاهية البلاد والمواطنين .أما إذا سارت الأمور بعقلية متآمرة ووفق خطط الاستئثار بالسلطة والنيل من الآخر، فإن الكوارث ستنتظر الجميع لا محالة ولن تستطيع أية حكومة مهما كانت قوتها العسكرية غاشمة أن تفرض على العراقيين سوى شكلا من أشكال (الوحدة الوطنية التي فرضها نظام صدام حسين!)، وهي وحدة لا يمكن لها أن تدوم الا من خلال الحروب والدماء والتخريب. عموما هناك إتفاق عام بين المهتمين بدراسة النظام الفيدرالي حول إعتباره نقيضا للأنفصال والتقسيم.
من السمات الأساسية لأكثر الأنظمة الفيدرالية المعروفة في عالم اليوم وجود برلمان مؤلف من مجلسين، مجلس للنواب يجري إنتخاب أعضائه من قبل المواطنين مباشرة ومجلس آخر يمثل الأقاليم أو القوميات بصورة عادلة لكي تضمن مشاركة الأقاليم في المؤسسات التشريعية والتنفيذية للدولة الأتحادية.
يمكن أن يجري تعيين أعضاء المجلس الثاني (مجلس الحكومات أو الولايات أو القوميات) من قبل الحكومات الأقليمية (كما في ألمانيا وكندا) أو من قبل ثلثي السكان في البرلمانات الأقليمية (كما في فنزويل، النمسا والهند) أو من قبل سكان الأقاليم مباشرة (كما في الولايات المتحدة الأمريكية، المكسيك، أستراليا، الأرجنتين، يوغسلافيا السابقة وجمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق). أما في سويسرا فإن كل كانتون يقرر بصورة مستقلة طريقة إنتخاب ممثليه إلى مجلس المقاطعات.
يوفر هذا النمط حسب العديد من الكتاب ضمانات أكثر للأقاليم. يكون عدد ثلثي الأقاليم المختلفة عادة متساويا في مجلس الأقاليم (الولايات المتحدة، أستراليا، المكسيك والأرجنتين، ومجلس القوميات في الاتحاد السوفيتي السابق)، في حين يحدد بعض الدساتير عدد الممثلين (الهند وكندا)، كما يمكن تحديد الحد الأدنى على أساس عدد السكان (كما هو الحال في ألمانيا فلكل لاند - مقاطعة - ثلاثة مندوبين على الأقل، وأربعة مندوبين إذا كان عدد السكان كحد أدنى مليونان وخمسة مندوبين إذا زاد عدد سكان اللاند عن ستة ملايين نسمة).
يمتلك المجلسان في أكثر البلدان الفيدرالية قدراً مماثلاً من الصلاحيات، إذ لابد أن يحصل كل قانون على المستوى الفيدرالي على موافقة المجلسين) الولايات المتحدة، المكسيك، أرجنتين، فنزويلا، كندا، جنوب أفريقيا). بينما في سويسرا يجري إقرار القوانين في إجتماعات عامة، حيث يمتلك مجلس النواب قوة أكبر. أما في ألمانيا فيمكن لمجلس النواب أن يقر قانونا رغم معارضة مجلس الأقاليم (اللاندات).
لم نسمع في المناقشات الدائرة حول الدستور العراقي شيئا كثيرا عن تركيبة البرلمان العراقي القادم. من المفضل أن يتألف من مجلسين :مجلس للنواب يجري إنتخابهم من قبل المواطنين عموما، ومجلس آخر للأقاليم أو أية مسميات أخرى. وفي البرلمان ذي المجلسين يتجسد مبدأ تعايش مفهومي التنوع والوحدة الى حد كبير.
من الضروري أن يجري تحديد آليات ضمان العدالة والمساواة بين الأقاليم وقطع الطريق على محاولات الهيمنة التي من شأنها أن تثير المشاكل والاحتكاك بين الأقاليم أو بينها وبين الدولة الفيدرالية.
من هنا لابد أن تكون هناك آلية تستطيع النظر في هذه المشاكل. لذلك تعتبر المحكمة الدستورية أو الفدرالية أو العليا والتي تشرف على دستورية القوانين الفيدرالية وتطبيقاتها إحدى المعالم الرئيسية للنظام الفيدرالي. وحسب الكثيرين لا تقوم للفيدرالية قائمة دون وجدود مثل هذه المحكمة لحل القضايا والمشاكل التي لا بد أن تظهر بين الأقاليم الفيدرالية وبينها وبين الحكومة الفيدرالية وبخاصة فيما يتعلق بتوزيع الصلاحيات. وسبب تفضيل إناطة هذه المهام بالمحكمة الفدرالية وليس بالمحاكم الأعتيادية هو ظهور الصعوبات السياسية أمام المحاكم العاملة في ظل نظام فيدرالي في مجتمع متنوع القوميات والثقافات والعقائد والأديان. وبسبب التخوف من هيمنة المؤسسات المركزية على حكومات الأقاليم، لابد أن تمنح المحاكم الدستورية العليا صلاحيات كبيرة. تختلف عن شبيهاتها في الدول الفدرالية الأخرى. ولكن ورغم تشكيل المحكمة الفدرالية في يالعراق، الا أنها على حد علمي لم تمارس أي نشاط لها حتى الوقت الحاضر وهناك شكاوي من عدم التوازن وتمثيل العرب والكورد فيها.
وكما ذكرنا فأن الفيدرالية نظام مركب وليس بسيط ولابد أن تجلب معها العديد من الإشكالات. ولكن ميزة النظام تكمن في أنه يخلق الآليات الضرورية لحل تلك المشاكل بطريقة قانونية وحضارية بعيدا عن الصراعات والإقتتال. فإلى جانب المحكمة العليا، قد يلجأ المشرع الى حرمان الأقاليم من بعض الصلاحيات في الدستور. وهذا حل مركزي غير محبذ في الأنظمة الديمقراطية. وهناك حالات يحدد فيها الدستور أولوية قانون الدولة الفيدرالية على قوانين الأقاليم الفدرالية، وتمكن المحكمة العليا من إلغاء إجراءات قانونية فيدرالية أو حكومية محلية وهي التي تتخذ القرارات في القضايا المتعلقة بتقسيم السلطات والصلاحيات.
قد تصلح أحدى هذه الإجراءات الأخيرة في الدول الفيدرالية التي لا تعاني من مشاكل قومية، ولكن الفيدرالية التي تهدف الى حل القضايا القومية تقترح اللجوء الى أساليب التوافق والحوار بدلا من اللجوء الى الأجراءات القسرية، إلا في حالات الحروب الخارجية أو الكوارث الطبيعية الكبرى.
وقدر تعلق الأمر بصيغ تشكيل الدولة الفيدرالية، هناك كلام كثير عن أن النظام الفيدرالي يقوم عادة من إتحاد دول وأقاليم مستقلة وليس نتيجة لتفكيك دولة موحدة وبناء نظام فيدرالي فيها. ويبني العديد من أنصار المركزية في العراق والمناوئين لقيام النظام الفيدرالي مواقفهم على هذا الأساس.
لا يستند هذا الكلام في الواقع على حقائق علمية وتاريخية دقيقة. فهناك العديد من الدول التي تحولت من النظام المركزي الموحد الى النظام الفيدرالي وأحرز نظامها الجديد نجاحا باهرا. ولعل بلجيكا تمثل الدليل الواضح لهذه الحقيقة. كما أن أسبانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا تمثل نماذج تشهد على ضعف هذه الآراء.
فالدولة الفيدرالية تتكون إما من إتحاد مجموعة من الدول أو الأقاليم التي كانت مستقلة سابقا وتقرر الأتحاد من خلال معاهدة أو إتفاق سياسي أو عبر ثورة، أو تحول دولة مركزية إلى دولة فيدرالية عبر تغييرات دستورية. وما جرى في العراق أكبر من ثورة، إذ تفتتت الدولة وأصبحت أجزاء متناثرة لا يمكن توحديها إلا باللجوء الى حلول جذرية تسدل الستار على لا الماضي البغيض.
لعب عامل المساحة في الماضي دورا مهما في تبني النظام الفدرالي، إذ كانت الدول ذات المساحات الشاسعة تميل إلى النظام الفدرالي لتسهيل الإدارة (روسيا، أمريكا، كندا والهند). ولكننا نرى الآن دولا صغيرة بحجم بلجيكا (تبلغ مساحتها 32 ألف كم2) تتبنى النظام الفيدرالي، لأنها تجد فيه نظاما مثاليا لتوزيع عادل للسلطات والثروات ولإزالة الفروق بين الأقاليم ومناطق البلاد المختلفة.
كما أن حالة إنعدام الثقة بالسلطة تدفع الناس الى اللجوء الى حماية أنفسهم من خلال تبني النظام الفيدرالي. فالفيدرالية في نهاية الأمر تجسيد للبراغماتية السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية. من المهم أن يصل الناس الى قناعة بأن الأتحاد الفيدرالي أكثر نفعا من الإستقلال فيما يتعلق بالأمن والتطور الأقتصادي والرفاهية. وتشكل عوامل اللّغة والثقافة والدين والأيديولوجيا دورا كبيرا في قيام الفيدرالية، فالقومية والفيدرالية متلازمان تأريخيا فيما يتعلق بهذا النظام لأنهما يتعلقان بتأمين الديمقراطية والتقدم.
يقيم المناهضون للنظام الفيدرالي الدنيا ولا يقعدوها بسبب مطالبة الكورد وسكان الجنوب بالتوزيع العادل للثروات بين سكان العراق وأقاليمه. يصعب فهم هذه الإعتراضات لأن أساس الحكم الناجح هو توفير العدالة والمساواة بين مواطنيه والتجسيد الحي لهذا المبدأ هو توزيع السلطات والثروات بصورة عادلة بين المواطنين والأقاليم. فمن المبادئ الرئيسية للنظام الفدرالي هو أن يتضمن دستوره عدم التمييز بين الأقاليم والسكان كضمانة لبقاء الدولة الإتحادية وعلاقة السكان ببعضهم. لا أعتقد بأن الكورد طالبوا بالأستئثار بالثروات على حساب المناطق الأخرى، بل يطالبون بتوزيع عادل للسلطات والثروات بين السكان ومناطق العراق المختلفة على أسس متوازنة تراعي المساواة.
ولكي تكون الفيدرالية متوازنة يفضّل أن لا تخضع عاصمة الدولة الفيدرالية الى أية حكومة بل أن تشكل إقليما فيدراليا لوحدها. هناك إتجاه يهدف الى جعل بغداد الكبرى بملايينها الستة إقليماً فيدراليا. وسيكون هذا الأمر لصالح سكان بغداد والأقاليم الفيدرالية الأخرى أيضا.
ليس بالضرورة أن تكون جميع مناطق البلاد موزعة على أقاليم فيدرالية تضمها الدولة الإتحادية، فقد تكون هناك أراضي ومناطق تدار مباشرة من قبل الحكومة الفيدرالية كما في دلهي وأندامان وغيرها (في الهند)، أو ذات أوضاع قانونية خاصة كما هي الحال في بورتوريكو بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد تضم الدولة الفيدرالية إقليما فيدراليا واحدا كما كان الأمر في زنجيبار بتنزانيا، بينما تخضع ا:ناطق الأخرى كلها لحكم الحكومة الإتحادية مباشرة.
من هنا فإن المحافظات العراقية التي ستجد نفسها لأسباب جغرافية أو إجتماعية أو مذهبية أو قومية خارج الأقاليم الإتحادية يجب أن تحصل على آليات توفر لها التطور الحر وتمنع الإضرار بمصالح سكانها.
وفي نهاية هذا الموضوع أرى من المفيد أن نعقد مقارنة بسيطة بين الفيدرالية والكونفيدرالية. الفيدرالية تقوم على أساس إتفاق الأطراف على دستور للبلاد، بينما الكونفيدرالية على أساس القانون الدولي، أي أن كيانات دولية تقيم فيما بينها كونفيدرالية وفق إتفاقيات أو معاهدات موقعة، بينما تتفق الأقاليم على نمط وطبيعة النظام الفيدرالي فيما بينها وتدرج كل ذلك في الدستور، ومن هنا فأن أطراف الدولة الكونفيدرالية لها الحق في الأنفصال والخروج منها متى ما أرادت دون أن تنتظر موافقة الأطراف الأخرى، بينما لا تتمتع الأقاليم الفيدرالية بهذا الحق إلا إذا أدرج ذلك في الدستور. وتتمتع الأطراف المكونة للكونفيدرالية بالشخصية القانونية الدولية، بينما الدولة الفيدرالية تتمتع بهذا الحق وحدها دون الأقاليم المنضوية تحتها، ومن هنا تستطيع الدول المكونة للنظام الكونفيدرالي من إقامة تتمتع الدول المكونة للنظام الفيدرالي بهذا الحق إلا في إطار محدود العلاقات الدولية بينما لا يتعلق بالعلاقات الأقتصادية والتجارية.
الدولة الكونفيدرالية لا تستطيع ممارسة الضغط على الأطراف المكونة لها، بينما تستطيع الدولة الدولة الأتحادية فرض سلطانها على الأقاليم، وفي حالة الكونفيدرالية يحمل السكان مواطنة الدول الأعضاء فيها، بينما في الدولة الأتحادية هناك مواطنتان مواطنة إتحادية ومواطنة يعني ذلك بأنها أقليمية. لذلك إذا طالب الكورد بجواز سفر خاص بأقليم كوردستان يجب أن لا يعني ذلك بأنها محاولة للخروج على الدولة الفيدرالية. كما أن وجود أعلام خاصة بالكيانات الفيدرالية أمر لا يناقشه إثنان فإلى جانب علم الدولة هناك أعلام للأقاليم الفيدرالية المشاركة فيها.
تشير بعض التجارب الفيدرالية إلى التدخل الدائم للحكومة الإتحادية في شؤون الأقاليم وتعطينا النماذج الفدرالية في أمريكا اللاتينية تجسيدا لما يعرف بالتدخل الدائم أو التهديد الدائم بالتدخل بحجة الأخطار التي تهدد النظام الدستوري أو النظام الجمهوري، الأمر الذي يحوّل الحكومات الفيدرالية إلى مجرد جهاز إداري في خدمة الدولة الفيدرالية، أو التحديد المستمر لسلطات الحكومات الفيدرالية في الدستور الهندي بحجة حالات الطوارئ التي تحول البلاد الى دولة واحدة وتسيطر من خلالها الأجهزة المركزية طيلة فترة حالة الطوارئ على صلاحيات الأجهزة التشريعية والتنفيذية في الأقاليم. وهناك عوامل أخرى تجعلنا نتردد في تسمية بعض الكيانات بدول فيدرالية حقا. فجمهوريات الاتحاد السوفيتي حتى بالمقارنة مع فيدراليات أمريكا اللاتينية والهند وباكستان، كانت نظاما فيدراليا بالإسم فقط.
من المؤكد أن هناك مخاوف ترافق المطالبة بالفيدرالية في العراق ولكن ليس تلك التي يرددها أعداء النظام الفيدرالي في العراق. الخوف من أن تؤدي التطبيقات الفيدرالية، إذا لم تنفذ بطريقة عادلة وفي ظل ضمانات قانونية دقيقة، إلى تغييرات ديموغرافية وصراعات عرقية ومذهبية أو إقليمية أو بسبب تدخل دول الجوار في شؤون الأقاليم أو دعم بعض المناطق للعمليات الإرهابية.
وأخيرا نعتقد بأن النظام الفيدرالي بتجسيده لمفهومي الوحدة والتنوع يمكن أن يوفر فرصة أخيرة أمام العراقيين للخروج من المأزق الذي وضعهم فيه نظام صدام حسين.
------------------------
-ورقة قدمت إلى مؤتمر دعم الديمقراطية في العراق الذي عقد في لندن خلال الفترة 28-31 تموز 2005.
للمزيد من القراءات حول الأفكار الواردة في هذا الموضوع يمكن العودة إلى المصادر التالية:
1. Munneke H.F, Riezebos C, Van der Tang G.F.M, Federalizme, Zwolle 1992.
2. Boon P.J, Twee Idealen; Eenheid en verscheidenheid in het staatsrecht, Zwolle, 1991.
3. Demeyer,J, Staatsrecht, Leuven 1973.
4. De Nolf, R .Federalisme in Belgie als grondwettelijk vraagstuk, Antwerpen, 1968
5. A.Alen, Poging Tot Een Juridische Begripsomschrijving Van Unitarisme, Centralisatie, Deconcentratie, decentralisatie, regionalisme, federalisme en confederatie , ? 1975
6. عبد الله العروي، إرث النهضة وأزمة الراهن، في كتاب: عصر النهضة: مقدمات ليبرالية للحداثة، بيروت 2000.
7. د.محمد الهماوندي، الحكم الذاتي والنظم اللامركزية الإدارية والسياسية - دراسة نظرية مقارنة، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1990.
2206 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع