نافذة على الروما (النَّوَر أو الغَجَر)

ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

نافذة على الروما (النَّوَر أو الغَجَر)

لا يخفى على أيّ ناطق بالعربيّة بأن للأسمين العربيّين المذكورين دلائلَ سلبية مثل التسوّل والهمجيّة والطبع الحادّ. وفي الواقع، "النَّوَر" لفظة دخيلةٌ في اللغة العربيّة وأصلها من الفارسيّة "نورده" ومعناها "الرحّالة"، وهناك من يزعم أن "النَّوَر" مشتق من "النور" لأنهم مُثّلوا بالشمس، وتأثيل (etymology) كهذا ليس بعيدًا عن الأقوال الاعتباطيّة. إلا أنّها اكتسبت مدلولًا سلبيًّا في اللهجات العربيّة المختلفة. والنَّوَر منذ البدء خليط من فئات عرقيّة مختلفة تجمّعت عندالهجرة الأولى من الهند. تكوّن النََّوَرُ وتبلوروا خارج الهند ولا توجد مجموعة غجريّة حقيقيّة. قد يكون أصل الغجر إمّا من شمال غرب الهند أي جنوب شرق الباكستان اليوم، وإمّا من وسط الهند ويُعرفون في العالم الغربيّ عادةً بالاسم Gypsies , Gipsies ومفردُه Gypsy, Gipsy, Gipsey, Gipsie وأفراد منهم في الوقت الراهن متواجدون في شتّى أنحاء العالم ويدعون بأسماء مختلفة: ففي ألمانيا Sinti، وفي النرويج Wandriar، وفي نيويورك في القرن التاسع عشر Yansers، وفي الشرق الاوسط Xoraxi, Domari، وفي هنغاريا Romungro، وفي الجزر البريطانيّة Romanichal، وفي فرنسا Gitans, Manouches، وفي إسبانيا Hungarus, Zingaros، وفي أرمينيا Lom، وفي اليونان Rom، وفي السويد Tartar وفي سوريا وفلسطين والأردن ولبنان هم "غجر" أو "نَوَر" وفي السودان هم "الحلب" وفي العراق "كاولية" وتنمّ هذه اللفظة المتحدّرة، على ما يبدو، من اسم ملك لهم قديم "كاول" عن الونسة أي اللذة والغناء والبغاء والرقص. وقد حصل الغجريّون على الجنسيّة العراقيّة في مستهلّ الثمانينيّات من القرن الماضي ويطلق على النور بالعربيّة أيضا الاسم "الكرج". وثمّة أسماء ونُعوت أخرى ”للغجر“ في التراث العربيّ مثل: زنوج الهند، الدوم، الزط، الصلبيّ، المطاربة، أولاد الطرقات، السبابجة، أبناء الرياح، شهود الزمان، الشعب المختار، القرباط، الغجار، أولاد قابيل ابن آدم.

وهنا في فنلندا يُعرَف أفرادُ هذا الشعب بالاسم الرسميّ romaani, romaanit أما الكلمتان mustalainen, mustalaiset اللتان تعنيان حرفيًّا "أسْودُ، سودٌ" والشائعتان على ألسنة الأكثريّة من الفنلنديّين ففيهما قدر من الانتقاص والازدراء مثل اللفظتين "نَوَر وغجر". يبلُغ تعدادُهم في فنلندا ما بين ٨٠٠٠-١٠٠٠٠ نسمة. يعامِل معظمُ الفنلنديّين النَّور وكأنهم دخلاءُ غرباء يعيشون على هامش المجتمع الفنلنديّ. ويذكر أنّ المستوى المعيشيّ والتعليميّ للنوريّ أدنى بكثير من المعدّل الفنلنديّ. تفضّل غالبيّة الروما ارتداءَ زيِّها الوطنيّ، البذلات السوداء للرجال واللباس الفضفاض المزركش (شبيه باللباس الفلّاحي الفلسطينيّ، مثلاً في منطقتي بيت لحم ورام الله) للنساء. وتنتمي هذه الغالبيّة إلى الكنيسة اللوثريّة وتتكلّم الفنلنديّة كلغة أم. أُسِّست الجمعيّةُ الغجريّة في فنلندا عام ١٩٦٧.

يُقدّر عددُ الروما خارحَ الهند اليومَ بأكثرَ من ١٢ مليونا مشتّتين في أكثرَ من ٤٠ دولة في القارّات الخمس، إذ لا دولة خاصّة بهم فالترحال نهج مستحبّ لديهم والربابة والبزق موجودان في كلّ خيمة غجريّة. من شعاراتهم الأساسية: اليوم نلهو وغدا نفكّر بالرغيف. وبالرغم من ذلك فلهم علمُهم ونشيدهم الوطنيّ چيلِم چيلِم. منهم حوالي المليون نسمة في أمريكا الشمالية إلا أن العديدَ من النَّور لا يعترفون بأصلهم وهويتهم لاعتبارات اقتصادية واجتماعية. والجدير بالذكر أنّ هذه التسمية الأجنبيّة التي تعود إلى القرن الخامس عشر، مرتكزةٌ على الاعتقاد الخاطئ القائل بأن أصلَ هذا الشعب المتنقل، من مصرَ- (Egipcien > Gypcien, Egyptian) وهكذا تحوّر الاسم من هذه الألفاظ حتى وصل في نهاية المطاف إلى Gypsy.

والحقُّ يقال إنّ كلَّ الروما من النَّوَر ولكن ليس كلُّ النَّوَر من الروما. وفي العربيّة كغيرها من اللغات الطبيعيّة أمثلةٌ عديدة لما يُدعى في عِلم اللغة بالمصطلح Folk Etymology أي "التأثيل الشعبي" وهو بمثابة ردّ أصل كلمة ما دون انتهاج التفكير العلميّ إلى مصدر معيّن بمجرّد وجود بعض الشبه اللفظيّ (الفونيطيقيّ) بينهما. ولإيضاح هذا المصطلح اللغويّ نورد ثلاثةَ أمثلة: الادّعاء الطريف بأنّ الأديب الإنجليزيّ الشهير شكسبير (١٥٦٤-١٦١٦) يتحدّر من أرومة عربيّة فهو "الشيخ زُبَير"! يرجع اشتقاقُ اسم مرض "الزُّكام" المعروف باللغات الأوروبية بـ influenza, grippe, flu، أبْعدَ اللهُ شرَّه عنّا جميعًا إذا كان زكام بشر أو حيوان أو طير، إلى الكلمتين العربيّتين الفصيحتين "أنْفُ العنزة"!، Erde الألمانيّة أصلها الكلمة العربيّة "الأرض"!

هذا الشعب المتشرّد والمتشتّت يُطلِق على نفسه اليومَ الاسمَ R(r)om, R(r)oma, Romani ومعناه "رَجُل، متزوّج، ناس" ويُطلِق على غيره الأجنبيِّ لفظةَ Gadjo وهي بمثابة "العجم" في العربيّة و"الچوي" في العبريّة. كان النَّوَرُ في الهند الذين عُرفوا آنذاك باسم Dom طبقةً منطوية على نفسها وغير محترمة امتهنت الغناءَ والرقصَ للحصول على لقمة العيش. بدأ "الدوم" بالهجرة من الهند متوجّهين إلى بلاد فارس في القرن التاسع الميلادي] كمغّنين ومطربين ومن ثمّ إلى أقطار الشرق الأوسط. وقد أطلق الفُرس على هؤلاء النازحين اسم "نورده" المذكور أعلاه ومن هناك دخل اللغة العربيّة. أما هجراتُهم الأولى إلى أوروبا فكانت من جنوب غرب آسيا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ووصلوا إلى فنلندا في القرن السادس عشر وزاولوا مِهناً عديدة مثل: الشعوذة والتهريج، قراءة الكفّ، الحِدادة، التبييض، صناعة السلاسل، تنجيد المفروشات، الاتجار بالخُرْدوات والسيّارات، تنظيف المداخن، جمع محاصيل زراعيّة، ألعاب بَهْلوانيّة (السيرك)، التداوي بالأعشاب، بيع الخيول. لم يعمل النّورُ بالزراعة أو مزاولة أيّة حرفة فيها تنافسٌ مع السكّان المحيطين بهم. وصلت طلائع النَّور إلى أمريكا الشماليّة من أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر إثرَ إلغاء الاسترقاق في أوروبا بين ١٨٥٦-١٨٦٤. ومن موروث الدوما الشعبيّ هذه الطرفة: عندما سُئل الغجر عن أصل السرقة عندهم أجابوا: عند صلب يسوعَ المسيح كنّا حاضرين وكان جدُّنا الأكبر قد سرق أحد المسامير التي كان من المفروض أن تغرز في جسد المسيح وهكذا خفّف الألم ومن يومها ونحن نمارس الاختلاس.

هناك أربعُ قبائلَ رئيسة للنَّوَر وهي: Kalderash, Machavaya, Lovari, Churari بالإضافة إلى مجموعات كثيرة أخرى. بدأ النَّوَرُ بالانفصال والتشرذم عند دخولهم لأوروبا في القرن الرابع عشر. ومن العسير جدًّا تحديدُ هُويّة النوريّ فأمامَنا خليط من مجموعات كثيرة ذاتِ عاداتٍ وتقاليدَ متفاوتة. هل النوريّ أُوروبيّ أم آسيويّ أو كلاهما؟ لا أرض ولا جيش ولا سياسة ولا اقتصاد ولا لغة مكتوبة مشتركة لهم. وممّا يجدُر التنويهُ به أنّ العنصرَ الهنديّ هو الموحِّد بينهم في حين أنّ العنصرَ الأوروبيَّ هو المفرِّق بينهم. على الرغم من هذا فهناك بعض السِّمات المشتركة مثل الترابط العائليّ، الإيمان بالإله Del، الإيمان بوجود الشيطان Beng، الإيمان بالقضاء والقدر، التكيّف وَفق الظروف المتجدّدة، أعراف وتقاليد شفويّة تتناقل عبرَ الأجيال. لا تماثيل لهذا الإله ولا رجالَ دين بين ظهرانيهم ولا مكانَ ثابت للصلاة والعبادة. إنّهم يلتزمون بقوانينَ صارمة في الطهارة ولا يتزوّجون من خارج طائفتهم. وكانت إنديرا غاندي (Indira Gandhi 1917-1984)، رئيسةُ وزراءِ الهند سابقًا، قدِ اعترفت بالنَّوَر بأنّهم هنودٌ يعيشون خارج الهند. كما تؤيّد حكومةُ الهندِ الحاليّةُ مطالبةَ النَّوَر باسترجاع الذهب وممتلكات أُخرى سُلبت منهم في الحرب العالميّة الثانية وهي محفوظة في البنوك السويسريّة. لاقى مئات الآلاف من الغجريّين حتفَهم خلال تلك الحرب وقد حاول هتلر القضاء عليهم كليّة بتجميعهم في سفن وإغراقها في البحر.

هنالك عادات وتقاليدُ فولكلوريّة غجريّة راسخة وغنيّة وكذلك أساطيرُ وغناءٌ وهذه الخلفيّة كانت مصدرَ إيحاء للكثير من الفنّانين والكتّاب في إنتاجهم. ويبدو أنّ أصول رقصة الفلامينكو الإسبانيّة المعروفة هي هنديّة نقلها الغجر الذين وصلوا أوروبا في القرن الرابع عشر قادمين من إيران والباكستان. بل هناك من يعتقد أنّهم رافقوا الجيوش العربيّة التي عبرت شمال إفريقيا واحتلّت إسبانيا في العام ٧١١ م. وقد أثّرت الموسيقى الغجريّة على ألوان موسيقيّة متنوّعة ومن ضمنها الشرق أوسطيّة وعلى موسيقارييّن أمثال Brahms, Verdi, Rachmaninov, Bartok. ومن الفنّانين الغجريّين المشهورين Yul Brynner وهو ممثّل سينمائيّ ومسرحيّ. وهناك من يدّعي بأنّ الممثلَ الهزليّ العالمي تشارلي تشپلن (Sir Charles) Spencer Chaplin, 1889-1977) يتحدّر من أصل غجريّ وهناك الشاعر الغجريّ المغربيّ المعروف، محمّد علي الرباوي. ويعُرف عن النَّوَر في أقطار كثيرة بأنّهم مُغنّون، بهلوانيّون، مروِّضو دِببة وخيول، موسيقيّون، رقّاصون ومرفِّهون. يعيش النَّوَر ويعملون في أمريكا الشماليّة وأوروبا ضمن مجموعات من العائلات تُدعى Kumpania. وكلّ مجموعة لها زعيم وراثيّ Rom Baro يحاول الحِفاظَ على الأعراف والتقاليد. هناك مَهْر كبير عند الزواج يدفعه أهلُ العريس لأهل العروس. من الفنّانات الغجريّات العراقيّات يمكن الإشارة إلى هذه الأسماء: سورية حسين وحمدية صالح وصبيحة ذياب وهند طالب.
تُدعى لغة الروما Romany, Romanes وأصلها هنديّ آريّ وتضمّ لهجاتٍ كثيرةً إلّا أنّ اللغة الأمّ هي الپنْجابيّة القديمة (لغة الپنجاب في الهند) أو الهندية. يقسّم النَّوَرُ لغويا إلى ثلاث مجموعات سكانية:
١) الدومري أو الدوم (Domari, The Dom) في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقيّة.
٢) اللومَرِْڤِن أو اللوم (Lomarven, Lom) في اوروبا المركزيّة.
٣) الروماني أو الروما (R(r)ormani, R(r)om) في اوروبا الغربيّة.

تفتقر شعوبُ الروما، كما نوّهنا، إلى لغة مكتوبة مشتركة للجميع. هناك نيّةٌ لتبنّي لهجةٍ غجريّة لتكونَ لغةَ الأدب المشتركة للجميع. لا شكَّ أنّ مثلَ هذا الأمر شرعيٌّ إلّا أنه ما زال بعيدَ المنال رغم وجود بعض بوادر الكتابة بهذه اللغة مثل صدور الكتاب الأوّل لقواعد اللغة الغجريّة سنة ١٩٨٠ والموسوعة سنة ١٩٩٠. تنمّ لهجاتُهم عن تَرْحالهم وأصلهم الهنديّ على حدٍّ سواء. وقد أدّت مخالطة الشعوب والأمم الأخرى إلى اقتراض مفردات جمّة من لغاتهم، السلاڤيّة، الفارسيّة، الأرمنيّة، اليونانيّة، الألمانيّة، الفرنسيّة إلخ. عُقدت أربعةُ مؤتمرات عالميّة ترمي إلى خلق لغة مشتركة، إلى تحسين مستوى التربية والتعليم، إلى الدفاع عن الحقوق، إلى الاعتراف بالروما كأقليّة قوميّة من أصل هنديّ علمها أخضرُ وأزرقُ ودائرةٌ (chacra) حمراءُ في الوسط. في لهجات النَّوَر البلقانيّة ثماني حالات إعرابية (cases) وللفعل خمسُ صِيغ. ولغة الروما هي لغة هندو آريّة جديدة وهي فونيطيقيّة، أي أنّها تُكتب كما تُلفظ وفيها تذكير وتأنيث.

وها بعض الكلمات من هذه اللهجات التي تأثرت بلغات كثيرة كالفارسيّة والأرمنيّة واليونانيّة واللغات السلاڤيّة الخ.:

ambrol = إجاص
baxt = حظّ سعيد
bewer = امرأة
bov = فرن
churi = سِكّين
cushty = جيّد
darro = مَهْر
divano = اجتماع، مداولة
grast = حصان
jougal = كلْب
kalo = أسْود
kher = بيت
klidi = مِفتاح
lil/a = كتاب/كُتب
lon = مِلح
manus = رجُل
parni = ماء
phral = أخ
radge = سيّء، غضبان
rukh = شجرة
shiv = سكّين
sastimos = بصحّتك
zor = قوّة
zumi =حساء

domari = ناطق بلهجة الروما الشرقيّة الموجود في الشرق الاوسط.
ويبدو لنا أنّ الكلمة "دومري" بمعنى "شخص" في اللهجة الفلسطينيّة دخيلة من لغة الروما.

ماذا يُتوقّع لشعب متشرّد لا وطنَ له ولا لغة مشتركة، قتل النازيّون منه أكثر من مائتي ألف شخص في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين؟ إن عدمَ رغبة النَّوَر في انتهاج أسلوب السكَن الدائم والانخراط في المجتمع واعتناق المسيحيّة قد أدّت إلى ممارسات تعسفيّة ضدهم. ففي بعض الأقطار الأوروبيّة أصبحوا عبيداً وذاقوا الأمرّيْن من ألمانيا النازيّة. ما زال الروما أكثرَ الشعوب تعرّضًا للظلم والاضطهاد في أوروبا عامّة وبعد انهيار الشيوعيّة بخاصّة، أمّا في مِنطقة الشرق الأوسط فالسرّ مفضوح على مصراعيه للداني والقاصي على حدّ سواء.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1188 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع