فقه السلم والحرب (٣): صفحة جديدة في بناء العلاقات الدولية

الدكتور محمد صبحي العايدي


فقه السلم والحرب (٣): صفحة جديدة في بناء العلاقات الدولية

يعد تقسيم دول العالم في الفقه الإسلامي إلى "دار إسلام" و"دار كفر" أو "حرب" من المشكلات التي لابد من إعادة النظر فيها؛ لأنها تشكل أساس التصور الفقهي للعلاقات الدولية، وتؤدي إلى تأزيم العلاقة بين دول العالم العربي والإسلامي مع دول العالم الأخرى، ويفتح باباً كبيراً لاتهمام الإسلام أنه دين إقصائي عدائي، وإنه يسعى لإلغاء الآخر من الوجود بسبب الاختلاف الديني، ويعطي تصوراً لغير المسلمين أن هدف المسلمين من هذا التقسيم هو اعتبار كل الدول التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية هي دول كافرة وبالتالي هي "دار حرب" لابد من إخضاعها، ويجب الجهاد ضدها.
من الواضح أن هذا التقسيم الكلاسيكي قد شكل موقفاً سلبياً معادياً للإسلام والمسلمين عموماً، حيث عرف الفقهاء دار الاسلام بأنها: "البلاد التي يسود فيها الحكم الإسلامي تشريعاً وتنفيذاً، وتكون القوة والعزة فيها للمسلمين سواء أكانوا أكثرية أم لا، ويأمن فيها غير المسلمين"، وأما دار الحرب:" فهي التي لا سلطان للمسلمين عليها، ولا تجري فيها أحكام الإسلام، ولا يأمن فيها المسلمون".
عند البحث لا نجد في القرآن الكريم أو السنة النبوية ما يشير إلى هذا التقسيم صراحة، وإنما هي اجتهادات فقهية نشأت في واقع مختلف تماماً عن واقعنا المعاصر، فالمتعارف عليه في صدر الإسلام أن الدول كانت تقسم في الغالب على أساس الدين، كدولة الروم والفرس، مما جعل الفقهاء يذهبون إلى هذا التقسيم بناء على الحالة والعرف العام والظروف المحيطة بهم في ذلك الوقت، حيث كانت الدول غير المسلمة لا تتعامل بالسلام والرحمة والعدل مع غيرها، بل هي أنظمة دكتاتورية صرفة لا تقيم للعلاقات الدولية أي اعتبار أو احترام، ومن هنا كان المسلمون يشعرون بضرورة الحفاظ على الوجود الإسلامي في مقابل الغطرسات التي لا تؤمن بالتعددية أو التنوع، حيث كان الإسلام هو الدين الوحيد في ذلك الوقت الذي أنشأ دولة في المدينة المنورة قائمة على التعددية والتنوع، حيث لم تكن تعرف الأنظمة الحاكمة في ذلك الوقت هذا النوع من الحكم، ولذا كانت الدول المحيطة بهم هي دول معادية ليس بينها وبين المسلمين إلا الحرب، وهذا يوضح لنا كيف نشأت هذه المفاهيم الفقهية في ظل واقع مغاير لواقعنا المعاصر.
وبالنظر الى أزمات الواقعين العربي والاسلامي وإخفاقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالإضافة إلى التحامل الغربي على الإسلام والمسلمين، وانحيازه المفضوح لصالح الكيان الصهيوني على حساب حقوق الفلسطينين في إقامة دولتهم المستقلة، فقد تلقف الكثير من منظري تيارات الإسلام السياسي المتشدد التصور الفقهي المذكور، وعملوا على استثماره من أجل تسويغ العدوان ضد غير المسلمين باعتبار أن دولهم هي "دار كفر" وبالتالي يحق محاربتها والاعتداء عليها، وإخضاع الأنظمة الكافرة لسلطان الإسلام، فوجدت الحركات الاسلامية المتشددة بغيتها لتسويغ أعمال العنف والقتل على المستويين الداخلي والخارجي، حيث يعتبرون الأنظمة العربية والإسلامية بناء على هذا التقسيم أنها انقلبت من "دار إسلام" إلى "دار حرب" بناء على تصورهم لمفهوم الحاكمية الذي أسس له أبو الأعلى المودوي، وشرحه سيد قطب بعد ذلك، ثم توسعت هذه المفاهيم لتشمل البلاد غير الإسلامية، باعتبار أن دماء وأموال وأعراض أهل "دار الكفر" مهدورة، مما أسهم بشكل كبير في التأسيس لمنطق الحروب الدينية، الذي يفرض المواجهة الحتمية والمستمرة بين "دار الإسلام" و" دار الحرب" بالاستناد إلى مفهوم الحاكمية والجاهلية، وأدى إلى تشويه حقيقة الإسلام، وتكريس الصورة النمطية عنه كدين فيه الإرهاب والتطرف.
إن تقسيمنا لدول العالم على أساس الدين يوقع الأمة في حرج كبير من حيث بناء العلاقات الدولية مع الآخر، كما يؤسس لحالة عداء مستمرة معهم، ويلقي بظلاله على انتشار الدعوة الإسلامية وقبولها لديهم، ولذا كان لابد من اعتبار الحالة الراهنة وتقسيم دول العالم على أساس احترام الحقوق الإنسانية والمواثيق الدولية واعتبارها هي الأساس الذي تبني عليه العلاقات بين الدول لا غير، وضرورة مراجعة التراث الفقهي الخاص بمسألة تقسيم العالم إلى "دار اسلام" و"دار حرب" أو "كفر"، باعتبارها مصطلحات فقدت واقعيتها، وأنها جاءت كتخريج فقهي أتى به العلماء نزولاً عند الحاجة والظروف التي أحاطت بهم، فقد بات من الضروري مراجعة هذا التقسيم وتجديد النظر الفقهي لمواكبة روح العصر، ومسايرة المستجدات الطارئة في مجال العلاقات الدولية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

467 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع