قراءة في كتاب نقاط اختلاف للدكتور سعد العبيدي

 اللواء الركن المتقاعد فؤاد حسين علي

 قراءة في كتاب نقاط اختلاف للدكتور سعد العبيدي

تعودت القراءة، ومع كثرتها وسعة الاطلاع على معالم الحياة التي اتسمت بكثر سنيها، وتعدد مجالات العمل ضابطاً ومديراً وبائع إطارات عتيقة طوال فترة قحط الحصار اللئيمة، ومتقاعداً قبل نفاذ العجز، ومتنقلاً في دروب المهجر، ومع هذه الكثرة والسعة وغزارة الخبرة، بقيتْ في ذاكرتي فراغات كثيرة، وأسئلة كذلك كثيرة عن ملابسات، وأوجه قصور وتوجهات فساد، وتجهيل وانحياز طائفي وسلوك تطرف لنظام حكم بدأ في نيسان عام (٢٠٠٣) ولم ينتهى الى الآن، قيل عنه حكماً ديمقراطياً، أو تأملته هكذا ديمقراطياً، بعد سقوط ذاك النظام الذي أضنانا نظاماً ديكتاتورياً، وبقيتُ أفتش في صفحات كتب عديدة تناولت هذه العشرين سنة المهمة من تاريخ العراق الحديث، لم يملأ تقليبها تلك الفراغات كما أريد، أو كما يجب أن يكون، على الرغم من جودة بعضها في تسليط الضوء على الأحداث والمشاكل وتحليلها، لكني وحال استلام نسختي من كتاب نقاط اختلاف (سيرة وظيفية في عراق ما بعد ٢٠٠٣) للكاتب سعد العبيدي من دار النشر في ألمانيا مباشرة، بدأت أفتش عن تلك الفراغات في فصوله الثمانية، وفي خضم التفتيش العقلي وجدت في فصله الأول (دروب السياسة المنسية) ما كنت أفتش عنه لما يتعلق بأساليب عمل المعارضة العراقية، وأعمدة سوحها السورية والإيرانية والبريطانية والأمريكية، والدور الكردي الموزع في عموم أنشطتها بين أربيل والسليمانية.
ووجدت في فصله الثاني (فلسفة انتاج الحرب وتسويقها) كيف كان السير في طريق الحرب باتجاه العراق تحصيل حاصل، وكيف كان الطريق الى بغداد ممهداً، والأهم فيما قرأته في هذا الفصل ما سطره الكاتب بوضوح وحيادية عن مؤتمر لندن للمعارضة العراقية الذي شارك فيه والذي كثر عنه الحديث بعد انعقاده في عاصمة المعارضة العراقية، وفي فترة زمنية قريبة من حصول الحرب، وكأن انعقاده جاء تمهيداً لحصولها، وعن آخر مؤتمر شارك فيه ببغداد نهاية الشهر الرابع، بعيّدَ تغيير النظام وسقوط الدولة، مؤتمر أشر مع وقائع سلوك بعض أركان الدولة بدايات الفوضى، وكأن الأمريكان أصحاب مشروع التغيير قد أساءوا فهم العراق ولم يتصرفوا بواقعيه، وكأن كبار الساسة من معارضي الأمس، وحكام اليوم لم يدركوا ابعاد الفوضى، ولم يضعوها في حساباتهم عند التوجه الى بغداد وتحمل المسؤولية.
ولاحظت في الفصل الثالث (وزارة الداخلية، النشأة والمآل) سيرة لبدايات هذه الوزارة شبهها الكاتب بقطار التيه، حدد على محطاته بدايات الهدم من بين مواقعها والانتقال منها الى باقي مؤسسات الدولة، وسبل استثمار منصب الوزير، وأشكال الفساد التي كانت حاكمة، وكيف كانت كرة الهدم تتدحرج بسهولة.
وجاء الفصل الرابع مختلفاً نسبياً، أعطاه الكاتب عنواناً مجازياً (عساكر الديمقراطية) لا يخلو من السخرية التي عرف بها الكاتب في بعض كتاباته العادية، كان العنوان يعبر عن ظروف نشأة وزارة الدفاع والجيش، وصدمة الحرب، وظروف العوز التي أثرت في قرارات عودة بعض الضباط لتأسيس الوزارة، وتلك الطوابير التي تبدأ مبكراً، وكيف كان فيها التدافع، وأثر المحاصصة على تحديدات القدرة، وكيف كان التناحر والانتفاع قد صدّع جدران الهيبة العسكرية، وكيف كانت المساءلة والعدالة سكيناً وضع على رقاب الضباط القادة وحرف مسيرة البعض ليقعوا في أحضان الساسة، وأسقط البعض الآخر في مستنقعات الفساد، حتى كوّن هذا السقوط وانتهازية البعض اتجاهاً أو سلوكاً ولائياً لم يكن جديداً في المؤسسات العسكرية والأمنية، بل وقد استبدل فيه المعنيون وببراعة فائقة ذاك الولاء المحسوم الى البعث في سابق العهد الى ولاء مطلق لأحزاب الدين السياسي الحاكمة وقادتها الكبار، سلوك فصْلَ في حيثياته الكاتب بشكل شيق، وأعطى عنه أمثلة تحت عنوان رئيسي (من البعثنة الى السيدنة).
وكان الفصل الخامس (باريس الملحقية العسكرية) خلاصة لخبرة الكاتب ملحقاً عسكرياً أعطى فيه صورة عن الدبلوماسية العسكرية العراقية في فترة زمنية كانت حرجة، وأعطى كذلك صورة واضحة لتوجهات الوزير الشخصية، ومناحي الفساد، وكيفية الاختيار والتنسيب لكوادر الملحقيات، وتصرف بعضهم الخطأ وسط أوربا المنفتحة.
أما الفصل السادس الذي أخذ عنوان (في مكتب القائد العام) كانت مادته حسب الظن جاءت معبرة وبقدر عال من الوضوح عن طبيعة المرحلة المضطربة للسنين الأولى لما بعد التغيير، وعن أساليب إدارة المجتمع والدولة الخطأ، إذ قدم الكاتب بانوراما للمشهد العسكري الذي يقوده القائد العام ومكتبه باعتباره منتسباً استشارياً اليه، وعن سياقات عمل المكتب للاستحواذ على القدرات العسكرية بديلاً لوزارة الدفاع ورئاسة الأركان المعنية، إذ دخل في شكل المساومات التي كانت تجري تحت الطاولة لاختيار القادة، ومنح الترقيات والتنقل بين المناصب والقيادات التي مهدت، وأخطاء التدخل في الوزارة والدولة التي مهدت الى سقوط هذا المكتب الذي عرف أنه الأكثر فساداً والأسوء.
وكانت مادة الفصل السابع هي المادة الأكثر تحسساً إذ تدور حول جهاز المخابرات، وتحت عنوان (في رواق المخابرات)، بصيغ بدأها مقارنة في التركيبة والأداء بينه جهازاً فتياً، وبين ذاك الجهاز السابق، وأتمها بذكر بعض تفاصيل العمل في أوقات الشدة، وخبايا تعريقه بدوافع السياسة، ومحاولات أصحابها الاستحواذ عليه ومد النفوذ الى داخله، وإغراقه بتعيينات حزبية وبعض معالم الخرق الاستخباري.
والفصل الأخير والثامن الذي أخذ عنواناً في أعمال الاستشارة، كان عبارة عن القاء الضوء على الجهود التي بذلت لتكوين جهد نفسي لخدمة السلطات العليا في الحكومة والدولة، وما رافقه من عمليات شد وجذب، ومساعي تدخل في العمل الفني من أهل السياسة، وبالتركيز على بعض المعوقات في الإدارة العليا، وموقف رؤساء الوزراء من هذه الخدمة التي تطورت في العالم كثيراً باستثناء العراق الذي تخلف في مضمارها كثيراً.
إن مادة هذا الكتاب قد دفعت الاستمرار بقراءته حتى آخر صفحة من صفحاته الخمسمائة والثلاثين، وبقدر عال من الرغبة في الاستمرار لمعرفة المزيد من المعلومات والتحاليل والقصص، الملائمة لملأ الفراغات التي تركتها العشرين سنة من نظـام حكم ما زال يقصر ويخطأ، كانت أي مادة الكتاب ملائمة ودقيقة، لأنها جاءت عن خبرة ميدانية، وتخصص نفسي وعسكري وأكاديمي أتاحت للكاتب العمل في مجالات عدة، قدم خلاصتها في هذا الكتاب ببراعة، وبأسلوب شيق جمع بين السيرة، وبين السرد القصصي، والعرض المعلوماتي، والتحليل النفسي لمواقف وشخصيات كان لها أثراً بيّناً في مجريات وأحداث العراق الحالي، كتاب تجيب مادته على كثير من الأسئلة المحيّرة، وستثير عديد من الأسئلة والآراء مع أو بالضد، وقد تثير الحرج، يستحق أن يأخذ له مكاناً متميزاً في المكتبة العربية والعراقية، ويستحق المتابعة والقراءة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1452 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع