الفريق الركن الدكتورعبد العزيز عبد الرحمن المفتي
محاضرة - موقف الأكراد في ولاية الموصل (كوردستان الجنوبية-العراق)
لقد كان موقف الأكراد مثل موقف العرب فقد أنكروا مطالبة تركيا (بولاية الموصل –كوردستان العراق) وأكدوا على الحفاظ عليها، وقد عبروا عن آرائهم بالمذكرات والبرقيات التي قدموها إلى لجنة التحقيق الاممية (لتقصي الحقائق) وعصبة الأمم.
ففي الأول من تشرين الأول 1924 أرسلت (الجمعية الكوردية في السليمانية) إلى (عصبة الأمم) مذكرة تعارض فيها المطالبة التركية في ولاية الموصل كوردستلن الجنوبية-العراق-ذات الاغلبية الكوردية، وأنكرت وجود أية علاقة بين الأكراد والأتراك سوى الدين الاسلامي، فلما أصبحت تركيا لا دينية (علمانية) وعليه لم تبق أية رابطة على الإطلاق بين الكورد والترك. وقد (شكت الجمعية الكوردية في السليمانية) من تتريك أكراد كوردستان تركيا وفي معاملتهم الجائرة. وقد وصفت المذكرة إعطاء (ولاية الموصل) كوردستان الجنوبية-العراق- ذات الاغلبية الكوردية إلى تركيا الحديثة تعد جريمة ضد الحقوق الإنسانية عامة وضد حقوق الأكراد خاصة، وختمت المذكرة بالالتماس من (مجلس عصبة الأمم) أن يساعد على تحسين حالة الشعب الكوردي في كوردستان المنسي والمهجور ليخدم السلم والرقي في الشرق الأدنى بالتفاهم مع مجاوريه من الأرمن والكلدان والعناصر الأخرى( ).
كما أرسلت (الجمعية الكوردية في السليمانية) مذكرة ثانية إلى مجلس عصبة الأمم جاء فيها: ترى الجمعية الكوردية من واجبها أن توصل لكم صوت الأكراد في تلك البلاد النائية ضمن المنطقة الجغرافية الكوردية (كوردستان) وإن كان هذا الصوت ضعيفا لا يسمع في العالم المتمدن لكن جمعيتنا قامت بمقاومة في وجه الأتراك، وان في بلاد الكورد (كوردستان) تحررت أخيرا من مظالمهم (العثمانية التركية) ولم تزل قائمة بوجههم فهي لكون الجمعية الكوردية في السليمانية تأسست للدفاع عن منافع القوم والشعب الكوردي تعارض بشدة مطالب حكومة التركية في أنقرة في امتلاكها ولاية الموصل كوردستان العراق لأن أكثرية سكان هذه الولاية هم من الأكراد( ).
وأرسلت برقية أخرى من (كويسنجق) إلى لجنة التحقيق (لجنة تقصي الحقائق الاممية لعصبة الامم) عند زيارتها (لأربيل) وقد جاء فيها: إن حياتنا الاقتصادية والتجارية بل الطبيعية مرتبطة بالعراق العربي الحالي وإننا جزء من العراق ومع العراق وفي العراق ولا نريد إلا المشاركة بعدالة مع حكومة وملة العراق العربية، حياتنا وحياتهم وحماتنا حماتهم وبقاؤنا بقاؤهم امتزجنا مع إخواننا العراقيين العرب امتزاج الروح بالجسد لا نتجزأ ولا ننفصل ولا ننقسم وبالله وبعون الله بعصبة الأمم نعتصم. وقد وقعها عدد من العلماء منهم (محمد توفيق ومحمد صالح والأشراف جميل واحمد ومن التجار أمين وتوفيق ومحمود وعلي ومن العشائر بسيران سوار رئيس عشيرة بشتكالي ورشيد رئيس عشيرة آكومامند)( ).
كما قامت مظاهرات كوردية وطنية في كركوك الكوردية عند زيارة اللجنة التحقيقية لعصبة الامم للمدينة (كركوك) وقد أظهر المتظاهرون تمسكهم بالوحدة العراقية والتي لا يرضون بها بديلا( ).
وقد أرسلت مدينة (راوندوز) برقية إلى لجنة التحقيق الأممية لعصبة الامم وقد جاء فيها:
لقد بايعنا الأمير فيصل الأول الذي هو من نسل نبينا محمد (ص) وربطنا مقدراتنا وحقوقنا القومية الكوردية بالعراق العربي الجديد كل الارتباط بصورة لا ترد بأية قوة قاهرة كانت، وإذا أراد الأتراك الاستيلاء على القضاء (راوندوز) فنحن مستعدون للدفاع عنها حتى آخر درجة وعند الاضطرار نحن متهيئون للهجرة إلى أبعد نقطة في العراق الجديد، وقد وقعها احمد خورشيد من آل آغا ورئيس البلدية محمد علي ومحمد سعيد ومحمد خورشيد من العلماء وشوكت رئيس دولي هروين موير من الأشراف( ).
وقد ألقى مفتي عقرة عبد الله أفندي كلمة عند مقابلته رئيس لجنة التحقيق الأممية لعصبة الامم بحضور الخبير التركي وقد جاء فيها:
"إننا أكراد عراقيون طالبون الاستظلال بعرش الملك فيصل الأول، والعيش تحت لوائه ولا نرضى سلطة ونفوذ أي احد لأننا معاشر الأكراد العراقيين منذ قرون عديدة مربوطون بولاية الموصل كوردستان الجنوبية-العراق- ذات الاغلبية الكوردية فلا نعيش منفكين عن ولاية الموصل كوردستان العراق والعراق الجديد فنرجو إثبات مطالبنا هذه وهي الوحدة العراقية والاستقلال التام العاري من كل نفوذ وسلطة ولعلكم تحققون أملنا هذا بكل عدل وإنصاف"( ).
وألقى رئيس العلماء كلمة ذكر فيها: "إن الأكراد والعرب مشتركون في كل مقصد وأنهم متحدون تحت ظل العلم العراقي الجديد، وحول عرش الملك فيصل الاول ثم قال نحن واثقون أن زملاءكم في مجلس العصبة الاممي محافظون على حقوقنا القومية وان بلادنا (كوردستان العراق) مرتبطة بالجنوب (العراق العربي) ارتباطا وثيقا ونحن ننشد الاستقلال التام لبلادنا العراقية ونرفض كل طلب ينافي ذلك"( ).
وقد أرسلت برقية ثانية من (راوندوز) والى (لجنة التحقيق الأممية) أكدوا فيها أن (ولاية الموصل كوردستان العراق) جزء لا يتجزأ من العراق الجديد ويستحيل على العراق العربي الجديد أن يعيش بدونها (كوردستان /ولاية الموصل)( ).
ونشرت جريدة |(المفيد) مقالات بعنوان "الغاية الفاسدة" نقلا عن جريدة "زيانه وه" الحياة التي تصدر في السليمانية قالت فيه:
"ربما يقول الأتراك إننا نريد حماية هذه الأمة الكوردية في كوردستان ونظامها وترتيبها ولكننا نقول لهم اذهبوا وفتشوا عن مربي يتعهد في تربيتكم وحامي يحمي بلادكم فأنتم أحق بالحماية من أية أمة أخرى فما كان التركي في مدرسة العالم الكبرى إلا تلميذا بسيطا لا يزال في آخر صف بين أبناء الشعوب المتمدنة"( ).
موقف مفتي السليمانية (مفتي كوردستان) عبد العزيز أمين المفتي طلب الإنجليز منه إعطاء فتوى بعدم مقاتلة الاحتلال (المحتل) الإنكليزي في كوردستان /ولاية الموصل، فكان موقفه الرفض التام والإفتاء بأنه لا يجوز التعاون مع الإنجليز ويجب مقاومته، مما أدى ذلك الى قصف مدينة السليمانية وقصف داره ومكتبته العامرة بتاريخ 19 أيار/مايو 1922 وفي 4 آذار/مارس 1923 ايضا.
* تقرير لجنة التحقيق الدولية لعصبة الأمم (لجنة تقصي الحقائق الاممية):
على اثر تقديم تقرير لجنة التحقيق (لجنة تقصي الحقائق الاممية) الدولية إلى عصبة الأمم ونشره استقبلته الصحافة العراقية ببعض الانتقادات.
فقد حاولت (جريدة العراق) أن ترفض رأي اللجنة (لجنة تقصي الحقائق الدولية) بأن تركيا أكثر استقراراً من العراق العربي الجديد فقالت أن تاريخ الإمبراطورية العثمانية يظهر انه كانت فيه ثورات كوردية دائمية وانقلابات كثيرة واستشهدت بالثورة الكوردية في 1925 لكي تثبت أن تركيا الحديثة لا تختلف عن الإمبراطورية العثمانية السابقة في قمع القوميات( ).
وقالت (جريدة العراق) في مقال آخر انه قبل مجيء لجنة التحقيق الدولية (لتقصي الحقائق) كان العراقيون يتوسمون في رجالها الخير والإنصاف والإطلاع الواسع ولكن سرعان ما انقلبت هذه الثقة إلى ريبة شديدة. ثم هاجمت التقرير فقالت فيه سخائف الآراء، وفواسد النظريات ومعوجات النتائج يأسف لها كل من كان يتوقع من مندوبي عصبة الأمم التي تمثل صفوة العقول المتمدنة، فيحق والحالة هذه أن ينعت التقرير الأخرق. وذكرت هذه الجريدة (جريدة العراق) التي يصدرها صحفي أن اللجنة التحقيقية الدولية لتقصي الحقائق افترت على النصارى واليهود بقولهم أنهم يفضلون الحكم التركي على الحكم العراقي الجديد من دون الانتداب وأكدت أن نصارى العراق كلهم بقلب واحد يفضلون البقاء مع إخوانهم المسلمين العرب مهما كان مصيرهم، ويفضلون أن يموتوا بين إخوانهم المسلمين العراقيين ومع العرب ولا يريدوا من أن يعودوا إلى براثن النمر التركي الضاري الذي لا يروي دم جشعه من القوميات الاخرى( ).
ووصفت (جريدة العالم العربي) التقرير بأنه مليء بالغوامض والمتناقضات والمغالطات وقد عزتها إلى (الكونت بول تلكي) ليساعد أصدقاءه الأتراك( ).
ونشرت جريدة المفيد مقالات قالت فيه لو شاءت اللجنة التحقيقية الدولية لتقصي الحقائق لعصبة الامم اختصار تحقيقها وترجيح الحق الطبيعي للعراق الجديد على كل اعتبار الى آخر لما وصلت اليه الآراء من التضارب إلى هذا الحد( ) - وقالت (جريدة العراق) انه بالرغم من احتواء التقرير للتناقضات والأغراض والسياسات المتعارضة فقد أوصى بإبقاء الأراضي المتنازعة جزءا متمما للعراق بسبب الحجج القوية المؤيدة للعراق الجديد – ولاسيما رغبات سكان (ولاية الموصل الكورد)( ). وقد ذكرت (جريدة المفيد) بأنه من غير المحتمل أن تعطى (ولاية الموصل كوردستان العراق) إلى تركيا الحديثة لأن بريطانيا ستحافظ على عهودها التي قطعتها (للعرب والأكراد والآثوريين) في ولاية الموصل ذات الاغلبية الكوردية( ).
وعقد (مجلس النواب والأعيان العراقي) جلسة مشتركة سرية بتاريخ 31 آب 1925 وقرر فيها أن يتبع نصيحة بريطانيا فعبر بالإجماع عن تصميمها على الدفاع عن ولاية الموصل كوردستان العراق ضد الأتراك ولو أدى ذلك إلى الحروب( ). وأرسلا (مجلس النواب والاعيان العراقي) برقية شكر إلى (إيمري) وزير المستعمرات البريطانية ومندوبها في مجلس العصبة (عصبة الامم) لدفاعه عن حقوق العراق الجديد.
وقد دهش الحزب العراقي (الاستقلال) وروع عندما وجد أن بعض الصحف البريطانية تعارض في تحديد (التحالف بين بريطانيا والعراق الجديد) وقد فسر بعضهم موقف تلك الصحف أنها تتسلم مخصصات من الحكومة التركية الحديثة( ).
ولقد أرسل (رؤساء المسيحيين) في ولاية الموصل الكوردية برقيات إلى الملك فيصل الأول والى المندوب السامي البريطاني في العراق والى رئيس الوزارة العراقية وإلى عصبة الأمم يكررون الاعتراف بعروبتهم وكورديتهم ويحتجون وينكرون ما نشر عنهم في تقرير اللجنة (تقصي الحقائق) عن رغبتهم في الرجوع إلى تركيا الحديثة ويصرحون بأنهم عرب وأكراد ويريدون أن يعيشوا تحت العلم العراقي مع إخوانهم المسلمين ولهذا فإنهم يرجون من (عصبة الأمم) أن هذه هي رغباتهم الوطنية الحقيقية ومصلحتهم الوطنية. وقد وقع على هذه البرقيات (مطران السريان الكاثوليك ومطران السريان اليعاقبة ومطران الكلدان ونائب البطريرك وقس الأرمن وحاخام اليهود) وغيرهم من الأطباء والمحامين والقسس من المسيحيين واليهود( ).
* التعليق على قرار لجنة تقصي الحقائق لمجلس العصبة (عصبة الأمم)
استقبل الشعب العراقي قرار مجلس عصبة الامم المؤرخ في 16 كانون الأول 1925 الذي أعطى (ولاية الموصل-كوردستان العراق) إلى العراق العربي الجديد بسرور وابتهاج عظيمين فأقام الولائم والأفراح وعطل الأشغال العامة. ولكن بعض العراقيين استنكر التدابير الموصى باتخاذها في بقية فقرات القرار ولاسيما الثانية الموصى فيها بتحديد أجل الانتداب على العراق لمدة خمسة وعشرين سنة( ).
فقد أرسل الملك فيصل الأول برقية إلى الملك جورج الخامس ملك بريطانيا معربا عن شكره وامتنانه من جهود بريطانيا في (إنهاء قضية الحدود العراقية التركية- ولاية الموصل كوردستان العراق). وأبرق عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء إلى كل من المستر بولدوين رئيس الوزراء البريطانية والى السكرتير العام لمجلس عصبة الأمم والمستر إيمري زير المستعمرات البريطاني يشكرهم على الجهود التي بذلها كل منهم في (إنهاء قضية الحدود العراقية التركية) ولاية الموصل كوردستان العراق حسب رغبات الشعب العراقي( ).
وأبرق (حزب الاستقلال) و(جمعية الدفاع الوطني) إلى الملك فيصل الأول ورئيس الوزارة العراقية عبد المحسن السعدون والى عصبة الأمم يشكرونهم على مساعيهم المجيدة التي بذلوها في سبيل قضية ولاية الموصل كوردستان العراق وجعلها ضمن حدود العراق العربي الجديد( ).
وقد أرسل رئيس بلدية الموصل ورئيس بلدية أربيل وبطريرك بابل ومطران اليعاقبة وحاخام اليهود برقيات شكر للمستر إيمري وزير المستعمرات البريطانية( ).
وفي اجتماع (مجلس الأعيان) بتاريخ 20 كانون الأول 1925 قرأ رئيس وزراء العراق عبد المحسن السعدون قرار مجلس العصبة (عصبة الامم) ووعد بأن تدافع حكومته عن حقوق العراق في المعاهدة المقبلة 1926م مع بريطانيا( ).
وقد قابلت (الصحف الوطنية العراقية) قرار عصبة الامم بشيء من التحفظ ولاسيما بالنسبة للشروط المرفقة به فقد كتبت (جريدة المفيد) و(العالم العربي) مقالات كثيرة انتقدتا فيه الفقرات الثانية من القرار (عصبة الامم) وعند نشر قرار العصبة أهملتا من النص ذكر جملة تحديد أجل الانتداب على العراق لمدة خمسة وعشرين سنة( ).
* القضية الكوردية( ) ونظرة تاريخية عن الاكراد
الأكراد شعب أصيل يعيش في المنطقة الكوردية كوردستان على أرضهم ومنطقتهم الجغرافية منذ آلاف السنين التي عرفت باسم كوردستان منذ آلاف السنين. وكما هو الحال مع أجزاء المناطق الأخرى من كوردستان فلقد قسمت منطقة كوردستان وأعيد تقسيمها عدة مرات وضد رغبة أبنائها الأكراد. وأخضعت إلى الحكومات والدول التي حكمت المنطقة الكوردية (كوردستان). وكان آخر تقسيم هو ذلك الذي حصل في عام 1923 والذي جاء نتيجة (لمعاهدة لوزان) 24 تموز عام 1923م التي قسمت المنطقة (كوردستان) على الشكل الذي نعيشه الآن، وأصبحت دولة العراق العربي الجديد والتي وضعت تحت الانتداب البريطاني تتكون من ولايات عثمانية ثلاث هي (ولاية الموصل -كوردستان الجنوبية-ذات الاغلبية الكوردية (كوردستان العراق)- وولاية بغداد وولاية البصرة). وكانت ولاية الموصل ذات الأغلبية الكوردية (كوردستان الجنوبية)/كوردستان العراق-ولاية الموصل- وبعد الاحتلال العراق من قبل الانكليز قد قسمت إلى أربعة محافظات (ألوية) هي: الموصل ومدينة الموصل بأغلبية عربية عدا دهوك الكوردية-واصبحت محافظة لاحقا، وأربيل والسليمانية وكركوك بأغلبية كوردية كبيرة واجزاء من محافظة ديالى بنسبة كوردية ايظا.
منذ بداية الاحتلال البريطاني أظهر أكراد السليمانية وأربيل رفضاً واضحاً له، ولأسباب مختلفة. بداية كان السبب الديني، حيث إن غالبية القيادات الكوردية العشائرية والقبلية بل والشعب الكوردي بصورة عامة متمسكين بالدين الإسلامي الحنيف، ولذلك وُجدت الدعوة إلى الجهاد الإسلامي وإلى جانب الدولة العثمانية المسلمة وضد المحتل الغربي استجابة كبيرة. ولما وجدت القيادات العشائرية الكوردية أن القوات العثمانية قد هزمت وأن النية متجهة إلى تأسيس دولة عراقية جديدة وتقسيم المنطقة إلى دول، انتفض الأكراد مطالبين بدولتهم الكوردية المستقلة في كوردستان أسوة بالدول والشعوب الأخرى. ثم كانت هناك المحاولات الرافضة لتنامي قوة السلطة المركزية للدولة العراقية الجديدة العربية والمحاولات التي رفضت، أو التي مثلت الاحتجاج الكوردي على عدم منح الأكراد حقوقهم السياسية والثقافية، واللغوية منها خاصة. الأمر الملفت للنظر في تلك الفترة أنه في الوقت الذي حرصت فيه القيادات العراقية على التفاهم والتقارب مع الشعب الكوردي باعتباره جزءاً لا يتجزأ عن الشعب العراقي مع الاحتفاظ بخصوصيته الكوردية، كانت الإدارة البريطانية تستخدم الورقة الكوردية كأداة للتأثير والضغط على الحكومات العراقية المتعاقبة وإجبارها على توقيع المعاهدات والاتفاقات طويلة الأمد مع بريطانيا والتي تصب في مصلحة بريطانيا. بكلمة أخرى كانت الإدارة البريطانية تحرض الأكراد من جهة، وعندما كانت تحصل على ما تريد كانت ترسل القوات المسلحة والقوة الجوية الملكية البريطانية لقصف المناطق الكوردية من كوردستان العراق ونفي القيادات الكوردية إلى خارج كوردستان العراق أو إلى خارج العراق. (وفي الحقيقة فإن الدور الأجنبي السيئ، ظل يؤثر في الحركة القومية الكوردية وبالأسلوب نفسه ولو بطرق مختلفة على طول مسيرة الحركة الكوردية).
عند بداية الحكم الوطني في العراق (في 23 اب عام 1921) أصرت الإدارة البريطانية على إبقاء مسألتين معلقتين، الأولى مصير ولاية الموصل ذات الأغلبية الكوردية (كوردستان العراق) والمطالبة التركية بها، والثانية انضمام المحافظات (الألوية) الكوردية إلى الدولة العراقية الجديدة بشكل كامل وتحت إدارة ملك عربي هو الملك فيصل الأول. وظلت الإدارة البريطانية آنذاك تروج بأن النفوذ التركي كبير في كوردستان العراق وأن الرغبة لدى الغالبية الكوردية هو الانضمام إلى الدولة التركية الحديثة. وبقي السبب الحقيقي غير المعلن يتمثل في رفض القيادات الوطنية العراقية الفتية توقيع معاهدة طويلة الأمد مع بريطانيا مثل 1922م و1926م . حاول الملك فيصل أن يتحقق من هذا الأمر فأرسل وزير الداخلية آنذاك (رئيس الوزراء في ما بعد) عبد المحسن السعدون إلى السليمانية، الذي كتب له قائلاً: في اليوم الأول لزيارتي التقيت مع وجوه وتجار أبناء السليمانية الذين أخبروني بأنهم "مستعدون لحلف يمين الولاء لجلالتكم والانضمام إلى الدولة العراقية الفتية، وإنهم مستعدون لإرسال المضبطات التي تؤيد ذلك (أي تأييد الملك فيصل الاول وولايته على العراق العربي الجديد) والمناطق الكوردية إلى بغداد أسوة بالأجزاء الأخرى من العراق الجديد مع ملاحظة حقوقنا القومية الكوردية. واتفقنا على فعل ذلك في اليوم التالي". كما أنه أكد للملك فيصل "أن الخطر التركي غير موجود في السليمانية" وأن الغالبية العظمى التي التقيت بها ترفض أن تكون كوردستان جزءاً من الدولة التركية الحديثة التي عانوا منها الكثيرسابقا. ثم يقول له "ولما اجتمعنا في اليوم التالي رفض الجميع توقيع على المضبطات وقالوا بالحرف الواحد، بما إننا لا نزال لا نعرف كيف نميز بين الخير والشر وحقوقنا القومية المشروعة كأكراد ضمن العراق، فإننا نوكل أمورنا إلى المندوب السامي البريطاني في العراق لكي يقرر لنا ما هو مفيد وصالح لشعبنا الكوردي وحقوقه القومية الكوردية".
المهم إنه وبعد أن (وافق مجلس النـواب العراقي) علـى التوقيـع علـى المعاهـدة العراقية – البريطانية 1926 بغالبية (37) عضواً ورفض (24)، وامتناع (8) وتغيب الأغلبية الباقية، انضمت (محافظة السليمانية) إلى الدولة العراقية، وصدر قرار من مجلس عصبة الأمم في 16 كانون الأول 1925 بحل مشكلة ولاية الموصل المتنازع عليها مع تركيا بضمها إلى العراق الجديد (علماً بأن الغالبية من سكان ولاية الموصل العثمانية هم من الأكراد كانت قد صوتت إلى جانب البقاء ضمن الدولة العراقية الجديدة في الاستفتاء الذي أجرته اللجنة التابعة لعصبة الأمم (لجنة تقصي الحقائق الامية لعصبة الامم) والذي نظر في النزاع ما بين العراق الجديد وتركيا الحديثة حول هذه الولاية أي "ولاية الموصل كوردستان العراق"). على أن يحصل الأكراد على حقوقهم القومية (حق تقرير المصير) ضمن العراق الجديد دستوريا .... وسويت المشاكل الحدودية بين العراق الجديد وتركيا الحديثة بصورة نهائية (في عام 1925) (خط بروكسل). وكان قد تم قبل ذلك إصدار بيان عراقي – بريطاني مشترك يعطي الأكراد الحق في تشكيل حكومة كوردية لهم في كوردستان العراق وأن يرسلوا من يمثلهـم إلى بغداد، إلا أن هذا الاتفاق لم يطبق أو ينفذ. (بسبب تقاطعها مع المصالح البريطانية في المنطقة الكوردية /كوردستان العراق في ذلك الوقت).
وبحلول عام 1930 طرحت (مسألة انضمام العراق العربي إلى عصبة الأمم كدولة مستقلة)، واستوجب الأمر توقيع معاهدة جديدة بين العراق وبريطانيا (معاهدة 1930م)، واجهت المعارضة على بعض بنودها، وفي الوقت نفسه أثيرت اعتراضات كوردية كثيرة حول الحقوق الثقافية الكوردية في العراق الجديد. وتصاعد الأمر حتى وصل إلى حد (الانتفاضة الطلابية في السليمانية) وعاد الشيخ محمود الحفيد إلى الساحة ليعلن ثورة كوردية أخرى ضد ما وصف بالإهمال الواضح للحقوق القومية والثقافية الكوردية وعدم إدراج هذه الحقوق أو الضمانات الكوردية المطلوبة في طلب العراق للانضمام إلى (عصبة الأمم). وبعد أن تم (توقيع المعاهدة الجديدة بين بريطانيا والحكومة العراقية عام 1930) وانضم العراق إلى عصبة الأمم (عام 1932) انطلقت طائرات القوة الجوية الملكية البريطانية لتفتك بمدينة السليمانية وبالمناطق الكوردية الأخرى وتخمد ما أطلقت عليه "تمرداً كوردياً آخر (الثورة الكوردية)".
إن ما قيل أعلاه، (تمرد او ثورات كوردية) والذي تكرر مرات ومرات في حقبة الحكم الملكي، وبخاصة في الفترة ما بين 1939-1946، حيث وقفت القيادات العسكرية والمدنية الوطنية العراقية ضد الدخول في الحرب إلى جانب بريطانيا (الحرب العالمية الثانية)، بل ووصل الأمر إلى التمرد على القيادة والوجود البريطاني، والحرب الدامية العراقية التي جرت بين الجيش العراقي الفتي والقوات البريطانية في مايس عام 1941 (حركة رشيد عالي الكيلاني)، والتي انتهت باحتلال (بريطانيا) العراق مرة ثانية. يجب أن لا يفهم منه أن الحركة الوطنية القومية الكوردية كانت تأتمر بالأوامر البريطانية وإنها كانت تظهر فقط عندما يطلب منها ذلك بريطانياً، كمـا يحلو للبعض القول.
لقد كان الشعور الوطني الكوردي، شأنه شأن الشعور الوطني العربي، في العراق رافضاً للسياسة البريطانية، ورافضاً لتهميش دور الأحزاب الوطنية في العراق ورافضاً لمسألة عدم فسح المجال للمشاركة السياسية للأحزاب المعارضة في حكم العراق، وإن تخفيف الضغط عن هذه الحركات في بعض الأحيان، أو زيادة الضغط في أحيان أخرى إلى حدود لا تطاق، يؤدي إلى إشعال فتيل ثورات شعبية ومسلحة لا يمكن الاستهانة بدوافعها الوطنية والقومية الصادقة، وأن القسوة التي تمارس في ما بعد من قبل القوات البريطانية والحكومات العراقية المتعاقبة لدليل على التعارض الكبير ما بين قوة الاحتلال والحكومات التابعة له وهذه الحركات. علماً بأن الحركة الوطنية العراقية آنذاك، والتي كانت ممثلة بالحزب الشيوعي العراقي، والحزب الوطني الديمقراطي، وحركة الضباط الأحرار، كلها كانت حركات عمل فيها العرب والأكراد معاً من دون تميز أو تفريق.
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
عمان ايلول 2014
( ) الاستقلال، 16 شباط 1925.
( ) نفس المصدر، 17 شباط 1925.
( ) نفس المصدر ، 27 شباط 1925.
( ) الاستقلال، 3 مارت 1925.
( ) نفس المصدر: 3 شباط 1925.
( ) نفس المصدر: 9 شباط 1925.
( ) العراق، 18 /19 كانون الأول 1925. فاضل حسين: مشكلة ولاية الموصل، ص237.
( ) هنري دوبس: مذكرة تكوين العراق الحديث، ص96.
( ) العالم العربي، 25 كانون الأول 1925.
( ) العراق، 18 كانون الأول 1925.
( ) الوقائع العراقية، 29 كانون الأول 1925.
( ) انظر المفيد والعالم العربي في 19 كانون الأول 1925.
( ) القضية الكوردية:أعد الورقة الأولية الدكتور سعد ناجي جواد، وناقشها وأدخل تعديلات عليها وأصبحت بهذا الشكل النهائي بموافقة إجماعية من قبل لجنة مؤلفة من الأخوة (حسب التسلسل الأبجدي): د. خليل الحديثي، د. خير الدين حسيب، د. سعد ناجي جواد، د. عبد الحسين شعبان، ود. وميض نظمي. كما تمت مناقشتها في الندوة موضوع الكتاب، وقد تمت ترجمة كثير من الأفكار الواردة في هذه الدراسة إلى نصوص قانونية في مشروع الدستور البديل المنشور في كتاب برنامج لمستقبل العراق بعد إنهاء الاحتلال، ص259-277.
2984 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع