محاضرة - موقف عصبة الأمم من الحقوق القومية الكوردية في كوردستان

الفريق الركن الدكتور عبد العزيز عبد الرحمن المفتي

محاضرة -موقف عصبة الأمم من الحقوق القومية الكوردية في كوردستان

حينما رشح العراق العربي الجديد بعد توقيع المعاهدة العراقية الانجليزية سنة 1930 ‏لقبوله عضوا في عصبة الأمم سنة 1932 خالج مجلس العصبة (عصبة الأمم) بعض الشك في إمكان ضمان استمرار تمتع الأقليات (الكورد) في كوردستان العراق بحقوقهم القومية (خاصة الكورد). ولذلك دعا مجلس عصبة الامم لجنة الانتدابات (بريطانيا) إلى وضع الشروط التي يمكن بها الاعتراف بالعراق العربي الجديد بانتهاء الانتداب البريطاني ( ). وفي سنة 1932 تقدم إلى منضدة مجلس عصبة الامم (المركيز نيود ولى) رئيس اللجنة الدائمة للانتدابات في عصبة الامم بتقرير بشأن الشروط العامة التي تقتضي استيفاؤها (الشروط) قبل إلغاء الانتداب (البريطاني) ( ). والضمانات التي ينبغي أن يتكفل بها وهذه الضمانات تتلخص في:

صيانة الأقليات العرقية واللغوية والدينية (الكوردية) بجملة نصوص تدمج في تصريح يفضي به العراق العربي الجديد أمام مجلس عصبة الامم ويتقبل الأصول (النصوص) التي وضعها المجلس (عصبة الامم) فيما يتعلق بالضمانات التي تخص الأقليات (الكورد) كوردستان العراق ( ).
وما يتعلق بالعلاقات الخارجية كحفظ المصالح الأجنبية والامتيازات والاتفاقيات والعهود الدولية العامة والخاصة ( ) وقد كانت أهم الشروط المطلوبة من العراق العربي الجديد طبقا لقرار العصبة في 28/1/1932 كما جاء في:
المادة الرابعة: يتضمن نظام الانتخاب تمثيلاً عادلاً للأقليات العنصرية والدينية واللغوية في العراق العربي الجديد وخاصة (الكورد).
الاختلاف في العنصر أو اللغة أو الدين لا يخل بحق أي من الرعايا العراقيين لا في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية كالقبول في الوظائف العامة والمناصب ورتب الشرف أو ممارسة المهن والصناعات المختلفة ( ). لا يوضع قيد على حرية استعمال أي من الرعايا العراقيين لأية لغة في العلاقات الخصوصية أو في التجارة أو في الدين أو في الصحافة أو النشريات من جميع الأنواع أو في الاجتماعات العامة ( ).
ورغما من جعل الحكومة العراقية اللغة العربية لغة رسمية ورغما عن التدابير الخاصة التي ستخططها الحكومة العراقية بشأن استعمال اللغة الكوردية، تلك التدابير المنصوص عليها.
في المادة التاسعة من هذا التصريح يعطي الرعايا العراقيون الذين لغتهم غير اللغة العربية الرسمية تسهيلات مناسبة لاستعمال لغتهم الكوردية شفهياً أو كتابة أمام المحاكم( ).
المادة الخامسة: الرعايا العراقيون الذين ينتمون إلى أقليات عنصرية أو دينية أو لغوية يتمتعون قانونا وفعلا بنفس المعاملة والأمان الذين يتمتع بها سائر الرعايا العراقيين (العرب) ويكون لهم بوجه خاص نفس الحق في أن يحفظوا ويديروا ويراقبوا على نفقتهم أو أن يؤسسوا في المستقبل معاهد خيرية أو دينية أو اجتماعية أو مدارس وغير ذلك من المؤسسات التهذيبية مع حق استعمال لغتهم الخاصة وممارسة دينهم فيها بحرية ( ).
المادة التاسعة: توافق الحكومة العراقية العربية الجديدة على أن تكون اللغة الرسمية في كوردستان العراق والأقضية الكوردية التي يسود فيها العنصر الكوردي من ألوية (الموصل وأربيل وكركوك والسليمانية وأجزاء من ديالى ودهوك لاحقا) اللغة الكوردية بجانب اللغة العربية. أما قضائي كفرى وكركوك حيث قسم من السكان هم من العنصر التركماني فتكون اللغة الرسمية بجانب اللغة العربية والكوردية اللغة التركية ( ).
توافق الحكومة العراقية على أن الموظفين في الأقضية الكوردية المذكورة يجب أن يكونوا ما لم تكن هناك أسباب وجيهة – ملمين باللغة الكوردية أو التركية حسبما تقتضي الحال ( ).
إن مقياس انتقاء الموظفين للأقضية الكوردية المذكورة وإن كان الكفاءة ومعرفة اللغة الكوردية قبل العنصر كما هو الحال في سائر أنحاء العراق العربي الجديد فإن الحكومة توافق على أن ينتقي الموظفين كما هي الحالة إلى الآن وعلى قدر الإمكان من بين الرعايا العراقيين الذين أصلهم من تلك الأقضية الكوردية( ).
كما نصت المادة الأولى والعاشرة من التصريح المذكور كذلك بأن الحقوق المثبتة للأكراد تعتبر تعهدات ذات شأن دولي ( ) حيث اعترفت بها الحكومة العراقية العربية الجديدة في تصريحها المؤرخ في 25 مايو سنة 1925.

1- التهديد التركي لولاية الموصل (كوردستان الجنوبية-العراق) ذات الاغلبية الكوردية
لم تورد اوائل ربيع سنة 1922 في الواقع، أية أنباء مريحة عن المناطق الكوردية (كوردستان) والحدود التركية. ففي (السليمانية) طالبت بعض الفئات الكوردية بعودة الشيخ محمود الحفيد، وفي (بشدر) كان العنصر الكوردي المستقل تحت زعامة شخصية شهيرة هو (بابكراغا) البشدري( ) يلاقي مقاومة من القسم المؤيد للاتراك. وفي منتصف شهر آذار من تلك السنة 1922م وصل قائمقام تركي جديد إلى راوندوز وفي أثره (أتت معه) قوات تركية يقودها القائد الشهير العقيد (علي شفيق المصري) الملقب (يوز دمير) أي (الكتف الحديدية) أو الصارم ليعلن افتتاح الاتراك للولاية (ولاية الموصل كوردستان العراق) مجدداً.
وفي شهر أيار عام 1922 انتشرت القلاقل التي وقعت في مناطق عشائر (زنكنه الكوردية) وإلى مناطق عشائر (الهماوند الكوردية) التي ما تزال متمردة ولم يلبث رئيسها (كريم فتاح الهماوندي) أن رتب عملية اغتيال اثنين من الضباط السياسيين البريطانيين هما النقيب (ماكانت) والنقيب (بوند)( ) وبذلك وطد مركز العثمانيين الأتراك مركزهم في راوندوز، غير أن محاولة هؤلاء توسيع الحركة الكوردية ضد قوات البريطانيين (الليفي) أو ضد حكومة بغداد العربية الجديدة، قد أوقفت في ذات اللحظة، وذلك على أثر إرسال رتل من قوات المرتزقة (الآثوريين) الليفي، وطائرات من القوة الجوية البريطانية، في ذات الوقت الذي كان فيه "سمكو آغا الشكاك" رئيس "شكاك" و"طه النيري" قد تخليا، لأغراض خاصة عن إشعال نيران الثورة الكوردية على الحدود مع (كوردستان إيران).
ولكن ما أن انسحبت القوات البريطانية من السليمانية وراوندوز حتى تقدم الأتراك مرة أخرى فاحتلوا مدينة "رانية" وأصبحوا على اتصال بمنطقة بشدر المتحررة، حيث أجبرت الأحوال الأمنية البريطانيين على أن يخلو رعاياهم من السليمانية بواسطة الطائرات، وأن يتركوا الأمر فيها إلى مجلس إداري في السليمانية الذي يرأسه الشيخ عبد القادر شقيق الشيخ محمود الحفيد. وكان في قدرة الأتراك أن يحتلوا كويسنجق وأن يهددوا مدينة (عقرة) في ذات الوقت الذي لم تكن فيه القوات البريطانية والعراقية، تمسك بشيء سوى الطريق الداخلي لمدن اربيل - كركوك -كفري.
أن الاندفاع التركي المماثل الذي وقع خلال شهر أيلول 1922 باتجاه العمادية في أقصى الشمال، حيث كانت تجري هناك إسكان الأثوريين بموافقة العشائر الكوردية هناك في (العمادية). وقد لقي مقاومة من العشائر الكوردية في المنطقة، حيث انضم الأثوريين إلى صفوف الأكراد بسرعة. وتحت وطأة هذه الظروف وجد المندوب السامي البريطاني في بغداد نفسه، ولربما وقع في الخطأ نتيجة القرار الذي اتخذه، أن من الواجب عليه أن يرتب مسألة عودة الشيخ محمود الحفيد إلى السليمانية، وذلك لملء الفراغ الذي كانت الحكومة العراقية والبريطانية تشعر به هناك (المناطق الكوردية وخاصة السليمانية). ولقد أيد الملك فيصل الأول هذا الإجراء، واستعار الملك فيصل من جيشهُ بعض الضباط الأكراد لمعاونته (الشيخ محمود الحفيد) في الوقت الذي قام فيه ميجر "نوئيل" بمصاحبة الشيخ محمود الحفيد في عودته إلى السليمانية.
ولكن الشيخ محمود الحفيد، وعلى النقيض من كل الوعود التي ألزم نفسه بها، ما لبث أن أخذ يراسل مع القائد التركي على شفيق المصري (يوز دمير)، الذي كان يصفه بالرجل المتوحش، ويتآمر مع لجنة تركية نشطة في كركوك، الفتها عائلة (النفطجي) ذات الأصول الكوردية اصلا "وبعض التركمان المتمردين، والمطالبة بأن يحمل الشيخ محمود الحفيد لقب الحاكم الأول، وأن يعين فيما بعد ملكاً على كوردستان. وفي هذه اللحظة، أي خلال شهر تشرين الثاني عام 1922، تدنى اعتبار الحكومة العراقية وضعفت سيطرتها على الأجزاء الجنوبية من كوردستان حتى بلغت الحضيض إلى درجة أن السيد "طه النهري" بعد عودته من اللجوء لوطنه (كوردستان)، لم يستطع مساعدة الحكومة العراقية العربية من جمع بضع من القوات الكوردية العشائرية، في الوقت الذي أخفقت فيه الطائرات البريطانية في تشتيت شمل الأتراك الذي احتلوا مدينة رانية( ) وفي السليمانية كان الشيخ محمود الحفيد هو الحاكم الأول والرئيس يرأس ما عرف باسم "الحكومة الكوردية" حيث أرسلت هذه الحكومة الكوردية بعثة منها إلى بغداد وهي تحمل مطاليب واقعية للشعب الكوردي وهي على أعلى المستويات.
تمت مجابهة الحركة الأولى للعدوان التركي على الحدود الشمالية، بتعزيز القوات البريطانية والعراقية في منطقة الموصل، وبإقامة الأمير زيد بن علي في مدينة الموصل بصفة مؤقتة في أيار عام 1923 مع القوات البريطانية( ) ذلك بسبب أن شعبيته التي كان يتمتع بها وزيارته من قبل الملك فيصل شخصياً، قد أدتا إلى توحيد الأحاسيس العراقية المناهضة للاتراك العثمانيين. وقد بقي استفزاز الأعصاب متواصلاً بعد أن كشف الأتراك عن مطاليبهم الحقيقية الواسعة.
وفي أوربا، كانت (هدنة مودانيا) التي أنهت الحرب (التركية اليونانية) في شهر تشرين الثاني 1922م، وكذلك المرحلة الدقيقة الحرجة في العلاقات البريطانية والتركية، قد أعقبها انعقاد (مؤتمر لوزان الأول). ففي المؤتمر جوبه (اللورد كيرزون) وزير خارجية بريطانيا بشخصية (عصمت باشا أينونو) وهو (من أصل كوردي) المتحدث باسم تركيا الثائرة والواثقة من نفسها والمنتصرة على الاضطراب وعلى جميع أعدائها في الداخل( ).
طالب الأتراك بولاية الموصل كوردستان العراق اعتماداً على أساس العنصر، والإدعاء بأن العرب في ولاية الموصل الكوردي قليلون، وأن الأكراد كثيرون (الاكثرية)، وأن من النادر تمييز الأكراد عن الأتراك، وأنه لا توجد أسس اقتصادية لأن معظم تجارة ولاية الموصل الكوردية تتم مع الأناضول كوردستان تركيا. ولأن البريطانيين قد احتلوا ولاية الموصل كوردستان العراق بعد أن أعلنت الهدنة (موندرس) في 30 من شهر تشرين الثاني 1918، وأن لولاية الموصل الكوردية حق تقرير المصير، وذلك لأن سكان ولاية الموصل أنفسهم قد طالبوا بعودة الأتراك إليهم.
كان من الضروري لتركيا الحديثة أن تمنع انفصال أكبر قسم من الشعب الكوردي، وتدعه يخضع لهيمنة حكومة أخرى عربية ربما تكون أكثر تحرراً، سيما وأن الأتراك كانوا قد خططوا سياسة (إذابة العنصر والشعب الكوردي)، ومن ثم نفذوا هذه السياسة بشدة وفرضوا الاضطهاد على الأكراد. واستطاع (اللورد كرزون) وزير خارجية بريطانيا أن يفند مسألة عدد السكان الاتراك التي طرحت في المؤتمرلوزان1923، والتي كانت في الواقع تبعث على السخرية والضحك لأن أكثرية ولاية الموصل كوردستان العراق هم من الأكراد ونسبة الأتراك فيها قليل جداً فيها. فلقد أوضح (اللورد كيرزون) بصفة إيجابية وضع الجماعات العرقية وعلاقاتها، وصحح الاتصالات الاقتصادية المزعومة، وذلك لأن تجارة ولاية الموصل الكوردية كانت تقوم في الواقع مع سوريا وبغداد بصفة غالبة ودائمية، كما أن دحض الإدعاء القائم على أساس (حق تقرير المصير) للشعوب المضطهدة، وراح يؤكد مطالبة مملكة العراق برمتها بكل حق لها وفي ولاية الموصل كوردستان العراق، وأخذ يذكر (عصمت باشا أينونو) بموضوع الانتداب البريطاني على العراق العربي الجديد والذي سبق أن شمل ولاية الموصل ذاتها أيضاً. وبالنظر إلى ما يخص التضاريس الأرضية الحادة، والحياة البدائية التي يحياها (يعيشها) السكان لولاية الموصل الكوردية، فإن (اللورد كرزون) وزير خارجية بريطانية لم يستطع أن يوافق على احتمال إجراء الاستفتاء العام في الولاية (ولاية الموصل- كوردستان العراق) بصفة أيسر/اسهل.
انفض المؤتمر(لوزان الاول) في اليوم الثاني من شهر شباط سنة 1923، ومن دون أن يتم حل المشكلة (ولاية الموصل-كوردستان العراق)، ورفض الأتراك بصفة مطلقة العرض الذي تقدم به (اللورد كرزون)، أو التهديد بالإشارة إلى قضية تحكيم عصبة الأمم في الموضوع. سارت الجمعية الوطنية التركية في أوائل شهر نيسان 1923 قدماً في منح المغامر الأمريكي (الأميرال جستر)( ) الباحث عن (الامتيازات) الامريكية، امتيازاً بمد خط حديد، والتنقيب عن المعادن حتى داخل حدود العراق. غير أنه في (مؤتمر لوزان الاول شباط 1923م) الذي انعقد في اليوم الثالث والعشرين من شهر نيسان 1923 قد ظهرت مجالس أكثر حكمة. فالضغط البريطاني لا حالة قضية ولاية الموصل كوردستان العراق إلى عصبة الأمم لإصدار قرار عنها، كان يمثل خطوة متجاوبة تماماً مع الرأي العام العالمي برمته آنذاك، بحيث لم يعد مستطاعاً مقاومة مثل هذه الخطوة.
تمسك (عصمت باشا اينونو) بكل إدعاءاته، لكنه وافق على القول بأنه إذا ما أخفق (الاتفاق الإنكليزي التركي) خلال أثني عشر شهراً (انقضت (تقلصت) هذه المدة إلى تسعة أشهر فيما بعد) فإنه يطلب حينذاك تحكيم مجلس عصبة الامم في النزاع (على ولاية الموصل الكوردية).
ظل البحث عن اتفاق من هذه الشاكلة ولاية الموصل كوردستان العراق والذي جرى تعقبه في مؤتمرات حضرها (السير برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في العراق في اسطنبول خلال شهري أيار وحزيران سنة 1924، أمراً عديم الجدوى. ذلك لأن أياً من الجانبين لم يظهر أي تساهل، وإزاء التردد الواسع الذي أظهرته تركيا، أقدمت بريطانيا على إحالة المشكلة (ولاية الموصل الكوردية) إلى مجلس عصبة الأمم مرة أخرى، وكان المقرر أن ينعقد مجلس العصبة (عصبة الامم) في اليوم العشرين من شهر أيلول سنة 1924.
لم ينتج كل هذه التحركات الدبلوماسية في أوربا شيئاً ما، لكنها في الوقت الذي أدت إلى توحيد الحركة والعنف في كوردستان. فقد أخذ الشيخ محمود الحفيد يساند رفاقه،واخذ يعلن ترحيبه بالضباط الأتراك في السليمانية، وبعث بمندوبيه إلى كركوك الكوردية للتشاور مع التركمان المحليين، وأكثر من هذا أنه أرسل مندوبين من لدنه حتى إلى الشيعة في كربلاء والنجف لينال مساعدتهم إياه.
وإذ رفض الشيخ محمود الحفيد أوامر المندوب السامي البريطاني بأن يؤكد وجوده في بغداد، فقد هرب من السليمانية بفعل قنابل القوة الجوية البريطانية، والتجأ إلى منطقة (سردشت) بكل ما استطاع أن يجمعه من الأموال والأنصار ولكن القصف الشديد الذي أظهرته طائرات القوة الجوية البريطانية قد حالت دون دخول الشيخ محمود الحفيد إلى السليمانية لإعادة احتلالها. كذلك أجريت الاتصالات مرة أخرى مع أخيه الشيخ عبد القادر البرزنجي.
وهنا وجدت عشائر الجاف وغيرها من العشائر الكوردية منتهى المسرة والفرح في الانفصال عن نفوذ "حكومة السليمانية" بقيادة الشيخ محمود الحفيد (وهذه من الأخطاء الإستراتيجية للكورد) وعلى الحدود الشمالية كانت معاملة الأتراك للأكراد الساكنين هناك في أراضيهم تؤكد في داخل الحدود العراقية - وجود المقاومة التي أبداها الأكراد بوجه عودة الأتراك لقد كانت معسكرات الأتراك في (نصيبين وجزيرة أبن عمر)، تثير الفزع، وظل استمرار احتلال القوات التركية (لرواندوز) يؤلف مصدر مؤامرات عدوانية داخل العراق العربي الجديد.
أما في الأراضي المتنازع عليها (كوردستان العراق-ولاية الموصل) خارج الحدود التركية، فقد أخذ توطين (الاثوريين) يسير فيها قدماً، إذ بنيت مئات المنازل لهم في مناطق (دهوك والعمادية وزاخو)، بينما استقر آخرون منهم في مواطنهم الأصيل منطقة (تياري)( ) والبلاد المجاورة لها. وأكثر من هذا أن الاثوريين ما أن أخذوا يحاولون التوطن في أوائل سنة 1923 حتى جوبهوا بهجمات من قبل اغوات الأكراد "الأورمار" في العمادية، مع أن الأثوريين ساعدوا في صد الهجمات التركية وهجمات الزيباريين على العمادية ذاتها.
تمت استعادة مدينة (رواندوز) من أيدي الأتراك بعملية عسكرية أحسن أداؤها، وشارك فيها الجيش العراقي مع القوات البريطانية، وقوات المرتزقة وقوات الشرطة، وذلك في شهر نيسان سنة 1923، حيث شهدت المنطقة هبوطاً في النفوذ التركي فيها. فلقد تم تعيين (سيد طه النهري) قائمقاماً لرواندوز، وعزز بحامية من قوات المرتزقة تمركزت فيها.أما الرتل الذي كان قد استعاد رواندوز فإنه قد تقدم مرة أخرى نحو السليمانية. وبعد أن قلصت مدة المعاهدة البريطانية – العراقية 1922 بأربع سنوات طبقاً للبروتوكول الذي ألحق بها (معاهدة عام 1922)، أصبح من اللازم الآن وضع الترتيبات المسبقة للمستقبل الذي تحتله هذه المنطقة الكوردية من كوردستان العراق في الدولة العراقية العربية الجديدة.
دخلت قوات الجيش العراقي، توازرها قوات المرتزقة وبإسناد الطائرات البريطانية، مدينة السليمانية في منتصف شهر أيار 1923م، وتم بحث المستقبل فيها مع الأغوات الأكراد وأبناء المدينة المتشوقين إلى توطيد السلام، وضمان عمل الحكومة. ونظراً لأنه لا يمكن الاحتفاظ بقوات هناك فأن سلطة المجلس المحلي في السليمانية التي أودعت إلى الرتل العراقي الذي دخلها، كانت قصيرة وانتهت بانسحاب ذلك الرتل من مدينة السليمانية.
كان مستطاعاً نقل المناطق البعيدة عن عهدة محافظة السليمانية من أمثال (جمجمال، وحلبجة، وسنكاو)، ووضعها تحت إشراف المباشر لمحافظة كركوك الكوردية كانت الغاية إضعاف الشيخ محمود الحفيد واستخدام سياسة (فرق تسد) بين العشائر الكوردية، على أن تترك المنطقة الضيقة المعرضة للأعمال التي كان الشيخ محمود الحفيد يمارسها هناك. غير أن الشيخ محمود الحفيد ما أن أنذر بأنه قد يتعرض لهجوم تقوم به قبائل الهماوند الكوردية ضده خلال أيام قلائل قادمة، حتى عاد إلى السليمانية في شهر تموز 1923م وحين تجاهل للمرة الثانية أمر المندوب السامي البريطاني في العراق-بغداد- بالقدوم إلى بغداد، استنفرت القوات البريطانية للعمل ضده. وفي فصل الخريف، وحين كان الشيخ محمود الحفيد ما يزال يأبى الخضوع أو الولاء للحكومة البريطانية، دخل مجدداً في مراسلات مشجعة مع الاتراك، ووضع الخطط لمهاجمة كركوك، وأقدم على جباية الضرائب من قرى حلبجة، جمجمال، وعلى مثل هذه الشاكلة انقضى شتاء سنة 1923 – 1924( ).

2- تسوية قضية ولاية الموصل (كوردستان الجنوبية-العراق)
في محافظة السليمانية البعيدة عن ضغوط حكومة بغداد وبريطانيا أخذ حلم أنشاء دولة كوردية مستقلة من قبل الشعب الكوردي، أي نظام حكومة كوردية تحت زعامة الشيخ محمود الحفيد، سنة 1924. ذلك أن قضائي جمجمال وحلبجة، اللذين لم يعد مستطاعاً الآن إدارتهما من كركوك لأن أساساً عائديتها إلى السليمانية، قد انتخبا منهم للمجلس التأسيس (البرلمان) نوابا، كان من بينهم شقيق الشيخ محمود الحفيد كان الشيخ محمود الحفيد قد تجاهل مرة أخرى الإنذار الذي وجه إليه من قبل قوات بريطانيا، وحذر القوات البريطانية بإنزال العقاب فيه، وهو الإنذار الذي وجه بشكل مغاير وعلى أسس إنسانية، إلى سكان القرى، والقاضي بأنه سيتم قصفها في آخر مرحلة. وطبقاً لذلك توجهت أحدى طائرات القوة الجوية البريطانية في أواخر شهر أيار 1924 بزيارة المدينة (السليمانية) وإسقاط المناشير حيث أرغم الشيخ محمود الحفيد في النهاية على مغادرتها، وعلى هذا الأساس دخلت قوات المشاة والخيالة من القوات البريطانية والجيش العراقي، إلى جانب قوات المرتزقة، الى مدينة السليمانية في شهر تموز 1924، وأخيراً تم استئناف الإدارة فيها من قبل الحكومة العراقية، التي استطاعت أن توفر الأموال اللازمة لمعالجة الأوضاع السيئة القائمة هناك.
أصبح في مستطاع سكان معظم الأجزاء غير المأهولة من مدينة السليمانية أن يعودوا إلى بيوتهم بمعونة مجددة. وفي نهاية تلك السنة 1924 زاد عدد السكان في المدينة إلى عشرين ألف شخص. إن الشيخ محمود الحفيد الذي أخذ يختبئ في القرى الجبلية، ويجتاز الحدود إلى الأراضي كوردستان ايران الفارسية ويعود منها فقد ظل يحتفظ بقوة من الأكراد معه.
وعلى الحدود الشمالية لكوردستان العراق، أدت إعادة توطين بضعة آلاف من الأثوريين العائدين إلى مواطنهم الجبلية القديمة عام 1924، إلى حدوث الاضطراب وذلك بعد مرور سنتين على إعادة توطينهم بصفة سليمة، ذلك لأن المنطقة الكوردية المعينة لهم كانت تقع تماماً شمالي الحدود القديمة لولاية الموصل الكوردية، ولكنها داخل منطقة طالبت الحكومة البريطانية بضمها إلى العراق العربي الجديد كي تصبح ضماناً لإعادة توطين الآثوريين فيها.
أدى أقدام الآثوريين على اعتقال الوالي التركي في (جلمرك) حين كان يقوم بزيارة قرية (جل) في شهر تموز 1924م، ومن ثم إخلاء سبيله، إلى توتر المشاعر بشكل قاطع عبر الحدود، حيث أعقب ذلك تقدم القوات التركية بعدد كبير ودخلت إلى داخل الأراضي العراقية عبر نهر "الهيزل". غير أن هذه القوات التركية ما أن تم أخراجها بفعل القوة الجوية البريطانية ومساعدة الأثوريين، لكن القوات التركية ما لبثت في طريق انسحابها أن هاجمت القرى التي يسكنها الاثوريون وأحرقتها، إضافة إلى عدد من مراكز الشرطة العراقية، لم تجد الاحتجاجات الاعتيادية المتبادلة، ولا المناقشات التي جرت في "جنيف" نفعاً" في الحيلولة دون وقوع أعمال الانتقام الفظيعة، وتدمير القرى الكوردية والاثورية عند الحدود وعلى أثر ذلك بدأت أعمال الإغاثة، وإسكان المشردين بمساعدة من الحكومة العراقية.
عقدت (الجلسة الثلاثيون لمجلس عصبة الأمم) في جنيف، وبعد اليوم العشرين من شهر أيلول 1924م، استمع المجلس (عصبة الأمم) إلى المجادلات الاعتيادية التي تحدث بها الناطقان باسمي الحكومتين التركية والبريطانية، (فتحي بك) و(اللورد بارمور)، وتم تقديم ذات الإدعاءات التاريخية، والعرقية، والاقتصادية، والإستراتيجية، فجوبهت تلك الإدعاءات، بذات التفنيدات والإدعاءات المضادة.
ولما لم يظهر أي أثر للاتفاق أو التفاهم في مجلس عصبة الامم بين تركيا وبريطانيا، كان القرار الذي قبل به الطرفان في النهاية، يشترط إرسال بعثة إلى ولاية الموصل كوردستان العراق تقوم بها لجنة (تقصي الحقائق) من عصبة الأمم. لغرض تقصي الحقائق، ويكون حكم هذه اللجنة، (لجنة تقصي الحقائق الاممية)إذا ما صادق عليه مجلس العصبة، مقبولاً من كلا الفريقين. وفي الوقت ذاته كانت البرقيات التي وصلت إلى جنيف وتضمنت اتهامات متبادلة حول اختراق منطقة الحدود، قد أجبرت مجلس عصبة الأمم على إنشاء خط حدود مؤقت وتم تثبيت هذا الأمر في اجتماع عقد في (بروكسل) في اليوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول 1924، وقد عرف هذا الخط فيما بعد (باسم خط بروكسل)، ويمتد هذا الخط نوعاً ما إلى الجنوب من الخط الذي كانت تطالب به الحكومة البريطانية، ومن ثم فإن هذا الخط يستثني بعض المناطق التي يقطنها الآثوريون والأكراد، ومع كل ذلك فقد تقرر أن يحدد خط الحدود القومي الدائم والذي لم يطرأ عليه شيء من التعديل إلا بصفة نادرة.
تألفت (لجنة تقصي الحقائق الاممية لعصبة الامم) التحقيق في عائدية ولاية الموصل الكوردية او ذات الاغلبية الكوردية - كوردستان العراق من كل السيد (دي فرسن) وهو دبلوماسي سويدي، أختير رئساً لها، وعضوية الكونت (تالكي) وهو رئيس وزراء سابق من هنغاريا، ومن القانونيين والجغرافيين الممتازين، والعقيد باولس وهو ضابط متقاعد من الجيش البلجيكي.
بعد أن زارت اللجنة (لجنة تقصي الحقائق) اسطنبول ولندن، ووصلت إلى بغداد في النصف من شهر كانون الثاني سنة 1925، ومن ثم انضمت إليها سكرتيرتها، ومساعديها من كلا الجانبين. وكان فزع البريطانيين، والعراقيين بارزاً، حين وجدوا في الوفد التركي أثنين من المرتدين العراقيين الذي تنكروا في صفة خبراء أتراك، كان أحدهما من أسرة "النفطجي" والتي هي من أصول كوردية في كركوك، بينما كان الآخر صهراً للشيخ محمود الحفيد( ).
أمضت اللجنة (تقصي الحقائق) مع مساعديها وموظفيها بضعة أيام في بغداد، أجرّت خلالها عدداً من اللقاءات مع بعض البارزين من المواطنين، وقد أذهلت اللجنة التظاهرات المثيرة المخبولة. أما في الموصل كوردستان العراق، وهي نقطة التوقف التالية، فقد كانت الأحاسيس الشعبية، مرتفعة وقدمت الشرطة حماية إلى أعضاء اللجنة، حيث كانت صيانة الأمن العام عسيرة، نظراً إلى عواطف السكان الهائجين والمتظاهرين، ووجود الكثير من العناصر المختلفة في أصولها، ومحاباتها، وميولها، ولذلك عقدت معظم تحريات اللجنة بصفة سرية. أما الشهود، وغالباً ما كانوا مناقضين بصفة ذاتية في أجابتهم على الأسئلة التي تطرح عليهم، فأنهم كانوا يترددون، في بعض الحالات، في التحدث، أو أنهم - بدافع الخوف من الانتقام منهم، ولم يكونوا ليتحدثوا إلى اللجنة إلا في عزلة شديدة. وفي حالات أخرى كان هؤلاء الشهود جداً متأثرين بمطامعهم الشخصية وعداواتهم الشخصية أيضاً، في حين لم تبرز هذه الإجابات، في حالات أخرى، سوى القليل من الاتجاهات التي لها قيمتها.
لقد تأثر بعض الأشخاص بالقضايا العنصرية، بينما تأثر آخرون بالأمور العشائرية، وغيرهم بالاعتبارات الاقتصادية. في حين تأثر الكثيرون منهم وبكل جلاء، بالمخاوف أو الأماني الشخصية، التي لم تكن تتطلع إلى قيام حكومة أفضل، بل على العكس من ذلك كانت تريد قيام حكومة ضعيفة غير فعالة لغاياتهم الشخصية والاستفادة والمنفعة.
أمضت اللجنة (لجنة تقصي الحقائق الاممية لعصبة الامم) شهرين كاملين في ولاية الموصل كوردستان الاعراق المتنازع عليها (بين العراق العربي الجديد وتركيا الحديثة)، وتصرفت بكل حرية في الاستفسارات المجدية والحصيفة، من كل مصدر ومن كل طبقة. تم تسليم التقرير الذي وضعته اللجنة (لجنة تقصي الحقائق لعصبة الامم)، وهو من الوثائق المعتمدة والموضحة، إلى مجلس عصبة الأمم في شهر تموز 1925 حيث جرت مناقشته في الأيام الأولى من شهر أيلول 1925. ولقد أبعد أعضاء لجنة تقصي الحقائق كل فكرة عن احتمال تقسم ولاية الموصل كوردستان العراق. ذلك لأنهم استعرضوا المحتوى العنصر الكوردي للمنطقة الكوردية المتنازع عليها، وتقبلوا بصفة عامة ـ وأن لم يحصل ذلك من دون تحفظ ـ كل الحقائق والأرقام التي أدلت بها الجهة البريطانية. ولقد وجد أعضاء اللجنة أن الاعتبارات الاقتصادية بصفة عامة، تربط ولاية الموصل الكوردية-كوردستان الجنوبية بالعراق العربي الجديد. كما صادقوا على (خط بروكسل للحدود) بين العراق العربي الجديد وتركيا الحديثة، واعتبروه خطأ منيعاً من الناحية الإستراتيجية وفي الوقت ذاته لم يقبلوا بالطلب الذي قدم إليهم لإلحاق قسم من منطقة (حكاري الكوردية) بولاية الموصل( ) وكان هذا الرفض من الأمور التي أثارت الخوف لدى الآثوريين الساكنين فيها والمتحمسين لهذا الطلب.
وصف أعضاء اللجنة (لجنة تقصي الحقائق)، الأحوال السائدة آنذاك في العراق العربي الجديد، بأنها ما تزال غير مستقرة على الرغم من التقدم الذي تم إنجازه في ظل حكومة الانتداب البريطاني على العراق الجديد، كما أنهم رفضوا فكرة الإدعاء بالتملك القائم على أساس الفتح، أو القانون الدولي، لكنهم اعترفوا في الأخير بأن أغلبية السكان في ولاية الموصل (الذين هم من الأكراد) قد أظهرت في النهاية بأنهم (الأكراد) يريدون ضم ولاية الموصل إلى العراق العربي الجديد الذي يحكم الآن حكماً دستورياً، بدلاً من أعادتها إلى تركيا الحديثة.
وعلى هذا الأساس كانت توصية اللجنة تقضي بأن توحد ولاية الموصل كوردستان العراق مع العراق العربي الجديد، وكل الأراضي التي تقع جنوبي (خط بروكسل) خط الحدود بين العراق وتركيا لقاء شرطين: أولهما، أن يظل العراق تحت الانتداب لمدة خمس وعشرين سنة. وثانيهما هو ضرورة الاعتراف بالمميزات العرقية والحكم الذاتي للأكراد في ولاية الموصل كوردستان العراق، واستعمال لغتهم القومية الكوردية بصفة رسمية وتعيين الموظفين الأكراد، في الاقضية الكوردية، إداريين وقضاة، ومعلمين.
لم يلبث الممثل التركي في جنيف، وهو رجل شديد التعصب القومي، والثقة بالنفس، وعدم التأثر بالحقائق أو البراهين التي عرضتها اللجنة (لجنة تقصي الجقائق)، أن رفض تقرير اللجنة بصفة مطلقة، وسحب وعده بالالتزام بقبوله، إذا ما صادق مجلس عصبة الأمم عليه، وأخذ يتساءل عن وضع اللجنة ذاتها. وإذ ذاك قدم طلب عاجل إلى محكمة العدل الدولية الدائمة في (لاهاي) في اليوم التاسع عشر من شهر أيلول عام 1925م، بأن تعلن رأيها فيما إذا كان تقرير اللجنة بعد المصادقة عليه، يجب أن يعتبر مجرد عمل للوساطة، أو توصية، أو قراراً قطعياً.
رفض الأتراك أن يحضروا جلسات المحكمة (محكمة العدل الدولية الدائمة في لاهاي) التي عقدت بعد شهر أي في (تشرين الأول عام 1925م) من ذلك التاريخ، ومع ذلك فقد أصدرت المحكمة المذكورة (محكمة العدل الدولية الدائمة في لاهاي) في اليوم الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1925، حكماً يعلن بأن القرار الذي سيتخذه مجلس العصبة في القضية ولاية الموصل كوردستان العراق سيكون قراراً قطعياً وملزماً، وأن ذلك القرار سوف يقرر بصفة محددة حدود ولاية الموصل كوردستان العراق على شرط أن يكون ذلك بإجماع الآراء، ما عدا أصوات الفريقين المتهمين بالنزاع (بريطانيا وتركيا).
في الوقت الذي انعقدت فيه المحكمة الدولية (محكمة العدل الدولية في لاهاي)، وصلت إلى أوربا شكاوي عن حدوث خرق شديد للأوضاع القائمة في المنطقة التي فصلها خط بروكسل، وإذا ذاك عين مجلس عصبة الأمم أحد الضباط الاستونيين هو (الفريق ف ليدونر) وطلب إليه أن يتوجه إلى المنطقة المذكورة يرافقه موظفان أحدهما جيكوسلوفاكي والآخر أسباني( ) وأن يوافي مجلس العصبة من هناك بتقرير مستعجل عن الوضع. أمضى الضابط الاستوني (الفريق ف.ليدونر) شهر تشرين الثاني عام 1925م في التحري جنوبي (خط بروكسل) على الدوام، وذلك لأن الأتراك رفضوا السماح بأي اتصال شمالي (خط بروكسل).
لقد ظهر أن معظم حوادث خرق الحدود التي وقعت هناك، كانت من الحوادث العرضية أو الاعتيادية. أما في شمالي (خط بروكسل) فقد تحقق حدوث المخالفات الواسعة التي اقترفها الجنود الأتراك، في المنطقة، والتي صاحبها أو أعقبها، طرد القرويين من المسيحيين الذين دفع بالألوف منهم إلى داخل حدود كوردستان العراق. (جنوب خط بروكسل).
عرض التقرير الذي أعده (الفريق ف ليدونر) ووصف بالتفصيل الاعتداءات التركية في المنطقة، أمام مجلس عصبة الأمم في اليوم العاشر من شهر كانون الأول عام 1925م. وأحدث بين أعضاء المجلس تأثراً بالغاً. وفي الوقت ذاته استمر مندوب تركيا "منير بك" في نظره إلى قرار المجلس (عصبة الامم)، والذي لم يصدر بعد، بأنه ليس سوى مجرد توصية قد تأخذه الحكومة التركية بنظر الاعتبار. وفي الوقت ذاته أدعى هذا المندوب (التركي منير بك) بأن ولاية الموصل، كوردستان العراق ما تزال حسب القانون تخضع للسيادة التركية، وأنها يجب أن تظل على هذه الشاكلة إلى ان يتم نقض مثل هذه السيادة.
وفي ذات الوقت تواصلت اجتماعات مجلس العصبة، ولجنته (تقصي الحقائق) التي ألفت لهذا الغرض، بتغيب الناطق باسم الحكومة التركية عنها. وفي اليوم السادس عشر من شهر كانون الأول عام 1925م عرض على المجلس قرار محدد تمت المصادقة عليه بالإجماع. لقد اشترط القرار بأنه لغرض تثبيت خط حدود بروكسل، وإذعان بريطانيا له في غضون ستة أشهر فيجب، أولاً: أن يتم عقد معاهدة عراقية إنكليزية جديدة 1930 تكون مدتها خمساً وعشرين سنة (إلا إذا أصبح العراق قبل انتهاء تلك المدة عضواً في عصبة الأمم) وثانياً طرح مقترحات بشأن تنفيذ التوصيات التي وضعتها اللجنة بشأن الصيغ التي تم اختيارها بصفة خاصة عن الإدارة الكوردية في المنطقة كوردستان. وهكذا أنهى هذا القرار مهمة عصبة الأمم بالنسبة إلى النزاع القائم حول ولاية الموصل الكوردية والحقوق الكوردية في العراق العربي الجديد، وثبت قراره النهائي ضمن المادة الثالثة من معاهدة "لوزان24 تموز 1923".
قبل العراق برضا تام وعميق ما أقرته لجنة عصبة الأمم بقولها، لقد كان ذلك الحكم قراراً ينطوي على الحكمة والعدل إلى أبعد الحدود، ومثالاً بناءاً من أمثلة التعاون الدولي لتسوية المنازعات.
لقد تأكد لدى جميع المطلعين على الانقسام، وميزات العروق، والأقليات ومصالحها داخل ولاية الموصل كوردستان العراق، وكذلك بالنسبة إلى التقدم الذي تحقق في الإدارة وفي الاقتصاد ومصالحها داخل ولاية الموصل الكوردية، وإلى التقدم الذي تحقق في الإدارة وفي الاقتصاد خلال السنوات الست الماضية. أن اقتطاع أرض من حكومة عراقية جديدة ومتحررة نسبياً، أو دائرة في فلك بريطاني - عراقي لحكومة قائمة، وإعادة تلك الأرض إلى حكومة مركزية تركية مستبدة وجائرة في ذلك الوقت، يعتبر أمراً لا يمكن احتماله، وقد يؤدي إذا ما تم تطبيقه، إلى تمزيق دولة العراق الجديد.
بدأ العمل في العراق الجديد بمنتهى السرعة لتنفيذ قرار عصبة الأمم عام 1925، فقد صدرت التعليمات إلى جميع الوزراء، من خلال رئيس الوزراء وهو نفسه كوردي (جعفر باشا العسكري) بأن يسارع في تنفيذ سياسة تمييز المناطق الكوردية من كوردستان العراقية عن المناطق العربية تنفيذاً تاما، وذلك بتعيين الموظفين الكورد في كل الدوائر هناك( ). وأن يقدم شكوى على الجرائم.

* تركيا الحديثة تصادق على قرار لجنة تقصي الحقائق الاممية لعصبة الأمم
كانت المعاهدة الجديدة البريطانية - العراقية عام 1926 والتي صادق البرلمان عليها في اليوم التاسع عشر من شهر كانون الثاني في سنة 1926، قد لقيت تذمراً حاداً من قبل ياسين الهاشمي وحزبه (حزب الشعب) بسبب فترة الوصاية (الانتداب البريطاني على العراق) الطويلة خمسة وعشرين سنة، قد اشترطت إعادة النظر بشكل فعال من قبل الدولة المنتدبة بريطانيا في سنة 1928 وما بعدها، خلال فترات تمتد كل فترة منها أربع سنوات إلى انتهاء مدة الخمس والعشرين سنة، كما اشترطت المعاهدة 1926م بين بريطانيا والعراق لعام 1926 إمكانية تقديم توصية بقبول العراق العربي الجديد في عصبة الأمم، وأن هذا القبول للعراق في عصبة الامم سوف ينهي الانتداب البريطاني المفروض على العراق الجديد. كذلك اشترطت المعاهدة العراقية-البريطانية 1926 أن يتم، في ضوء التقدم الذي تحرزه مملكة العراق الجديد، أو لأي سبب آخر، تعديل أحكام الاتفاقات المالية التي وجهت الانتقادات إليها كثيراً.
بقي على بريطانيا أن تحقق ما أخفقت فيه عصبة الأمم فيه، إلا وهو الاتفاق والتعاون مع الجمهورية التركية الحديثة. فقد قوبل القرار الذي اتخذته عصبة الأمم بشأن ولاية الموصل كوردستان العراق، بهجمات قاسية وفظيعة في الصحافة التركية، على درجة أن مصطفى كمال اتاتورك لم يتردد من أن يشخص ذلك بنفسه. بل أن حتى مجلسه العسكري التركي لم يتجاهل فكرة نشوب الحرب بين بريطانيا وتركياً الحديثة، عندما اجتمع غداة عيد الميلاد في سنة 1925 في أنقرة. ولكن كانت تقوم في ذات الوقت في تركيا مجالس أخرى أقل خطراً وقد حملت تلك المجالس على الإذعان لقرار عصبة الامم بالنفوذ المسالم الذي بذله كل من توفيق رشيد بك (وزير خارجية حكومة مصطفى كمال اتاتورك)( ) والسفير البريطاني، حسب الواقع بالأوضاع التي كانت سائدة في تركيا الحديثة آنذاك.
وفي اليوم الثامن عشر من شهر تموز عام 1926 صادقت الجمهورية التركية على معاهدة تركية بريطانية عراقية، تم وفقا لها القبول (بخط بروكسل) خطا للحدود بين العراق العربي الجديد وتركيا الحديثة، كذلك تم تأليف لجنة حدود دائمة لتطبيق سياسة حسن العلاقات تحل محل خط الحدود المحايد (بروكسل). وفي ذات الوقت تعهد العراق بأن يدفع إلى جارته، ولمدة خمس وعشرين سنة، العشر من مجموع ما يحصل عليه من عوائد النفط، إذا ما تم العثور على منابع للنفط في ولاية الموصل، وبذلك وصلت قضية ولاية الموصل كوردستان العراق مرحلتها النهائية.
تعد ولاية الموصل كوردستان العراق في غاية الأهمية من الناحية الإستراتيجية. إذ أنها مفترق الطرق بين (العراق وسوريا وتركيا وإيران وجنوب الاتحاد السوفيتي). ولعل ما زاد من أهميتها (ولاية الموصل الكوردية) عند اكتشاف النفط فيها عام 1909.
دخلت ولاية الموصل في حوزة السيطرة البريطانية في العراق العربي الجديد (بعد الاتفاقية في 18 تموز 1926 بين بريطانيا والعراق العربي وتركيا الحديث) رغم أنها كانت عند توقيع معاهدة هدنة (مودروس) في 30 تشرين الأول عام 1918 كانت خارج نفوذها (بريطانيا). ولاعتبارات سياسية واقتصادية ودينية عملت بريطانيا بقوة أن يكون كورد العراق (كوردستان الجنوبية) أي ولاية الموصل كوردستان العراق خارج نفوذ تركيا لكي لا تعيد أمجاد الدولة العثمانية المسلمة. ولعل النفط المكتشف فيها (ولاية الموصل / كركوك-كوردستان العراق) كان هو العامل المهم الذي جعل بريطانيا تعدل اتفاقية (سايكس – بيكو) مع (فرنسا) بعد أن كانت ولاية الموصل كوردستان العراق ضمن النفوذ الفرنسي. فيما شكلت ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917 عاملاً مضافاً، واعتبرته بريطانيا (روسيا البلشفية) خطاً أحمر يهدد نفوذها وأملاكها ومستعمراتها (بريطانيا) وخاصة النفط في منطقة الخليج العربي، وإيران هي جارة روسيا الجنوبية.
في بغداد، كان المجلس التأسيسي العراقي (البرلمان)( ) -وهو أول مجلس شورى في العراق في 27 آذار 1924م قد كان رئيسها عبد المحسن السعدون وافق بعد تردد على مشروع الانتداب في اليوم العاشر من شهر حزيران 1924م( )، وختم المجلس التأسيسي (البرلمان) قراره بشرط أن كل شيء سيكون لاغياً وباطلاً إذا ما أخفقت الحكومة البريطانية في ضمان حقوق العراق العربي الجديد في ولاية الموصل بكاملها( ).

 

( ) كان هذا الطلب من قبل الاثوريين المتشردين الذين أرادوا من ورائه أن يعتبروا وجودهم داخل العراق شرعياً ولتأكيد الأكاذيب التي ما فتئوا هم وأنصارهم من الاستعماريين الإنكليز والفرنسيين والروس، وحتى بعض الكتاب اللبنانيين، وعلى رأسهم "يوسف إبراهيم يزبك" صاحب كتاب "النفط مستعبد الشعوب" الذين ما فتئوا حتى الآن يزعمون بان الاثوريين هم احفاد الاشوريين القدامى في العراق، ولذلك فإن هؤلاء، ومن بينهم مؤلف الكتاب "لونغرغ" يطلقون عليهم اسم "الاشوريين" تمشياً مع الكذبة المفضوحة بشأن أصل هذه الطائفة "الآثورية" التي لا علاقة لها بالآشوريين القدماء.
( ) هما العقيد رودلف ياك، وهـ. ماركوس.
( ) يعني بذلك المرحوم الفريق جعفر العسكري الكوردي الأصل والأب الروحي للجيش العراقي.
( ) هو توفيق رشيد بيك اراس الذي تولى منصب وزارة الخارجية في حكومة مصطفى كمال وشارك مشاركة فعالة عقد المعاهدة التركية الإنكليزية العراقية التي أعقبت صدور قرار عصبة الأمم في موضوع ولاية الموصل وقد تم التوقيع عليها في الخامس من حزيران 1926.

الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
عمان شباط 2015

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1250 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع