أ.د. ضياء نافع
عن الصحف الروسية الادبية في ثلاث دقائق
لم استطع الذهاب لشراء صحيفتي ( ليتيراتورنايا غازيتا ) ( الصحيفة الادبية ) و ( ليتيراتورنايا راسيّا ) ( روسيا الادبية ) الاسبوعيتين هذه المرة , وذهبت بعد يومين الى كشك الجرائد القريب في محاولة الحصول عليهما , وقلت بيني وبين نفسي - لعل وعسى , وما ان اقتربت من كشك الصحف , واذا بالبائعة ( وهي امرأة في مرحلة ما بعد التقاعد وتضطر للعمل طبعا , وهذه ظاهرة عامة في روسيا !) تلوّح لي وهي تبتسم , وقالت لي , انها احتفظت بالعددين خصيصا لي , لانها كانت واثقة من حضوري . شكرتها طبعا باجمل كلمات الشكر والامتنان , فقالت , انها ايضا تقرأ هذه الصحف بانتظام , ولهذا حرصت على ابقاء العددين لي , لانها تعرف ( لذة القراءة !) هذه . وهكذا بدأنا بهذا الحديث الخاطف و السريع وغير المتوقع بالنسبة لي بتاتا , والذي استغرق في حدود ثلاث دقائق لا أكثر , والذي كان – من وجهة نظري – عميقا وطريفا ويستحق النشر . أخبرتني تلك البائعة, انها تبدأ بقراءة صحيفة ( ليتيراتورنايا راسيّا ) اولا , فسألتها متعجبا – لماذا ؟ فأجابت , لان هذه الصحيفة لا تعرف مفهوم ( المديح !) , ولأنها أدبية بحتة فعلا , ولان سمة المعارضة واضحة على صفحاتها , فهي تنتقد وزارة الثقافة دون تردد وبشجاعة و موضوعية دقيقة , عندما تجد ان خطوات الوزارة غير صحيحة , وسألتني – هل تذكر كيف انتقدت موقف وزارة الثقافة لانها لم تؤيد اقامة متحف بونين في موسكو آنذاك , بينما لم تتحدث الصحف الاخرى عن تلك المسألة ؟ قلت لها , نعم , نعم , اذكر ذلك الموقف المبدئي الشجاع , فعلّقت قائلة – صحيح ان بيت بونين في مدينة يليتس قد تحوّل الى متحف بونين , ولكن هذا لا يكفي . قلت لها , نعم انا اؤيد افكارها , وانني زرت هذه المتحف المتواضع لبونين , وهو بيت خشبي بسيط جدا , فقالت ان الفرصة لم تسمح لها بزيارة ذلك المتحف , وسألتني رأسا , وما هو انطباعك الرئيسي عن ذلك المتحف ؟ فقلت لها , لقد شاهدت هناك الشهادة التي منحوها لبونين من لجنة جائزة نوبل عندما استلم تلك الجائزة عام 1933 , وهي معلّقة على جدار ذلك المتحف , وتعدّ وثيقة في غاية الاهمية بالنسبة لتاريخ الادب الروسي الحديث , وكانت في المتحف ايضا الحقيبة التي أخذها بونين معه عندما سافر من باريس لاستلام تلك الجائزة , وهي حقيبة بسيطة جدا , وأذكر ان الفتاة التي كانت تشرح لنا كل تلك التفاصيل قالت , ان بونين صرف كل مبلغ الجائزة بعد سنة من استلامه لها ( بين احتياجاته وتبرعاته للاصدقاء ) , ثم عاد مفلسا وقال ما معناه , آه لو يعطوني الجائزة مرة اخرى . ضحكت البائعة وقالت , عاش بونين بضنك ( كما هو حال المثقفين من اللاجئين الروس , الذين تركوا روسيا بعد ثورة اكتوبر 1917 ) , واضافت – ( انها معجبة جدا برقة نتاجاته وجماليات تلك الصور الفنية الاخّآذة للطبيعة الروسية التي رسمها لنا) , ولهذا فانها كانت تؤيد – وبشدّة - اقامة متحف له في موسكو , لانه يستحق ذلك . انتقلت محدثتي بعدئذ الى صحيفة ( ليتيراتورنايا غازيتا ) , وقالت , ان هذه الصحيفة أعرق طبعا , وتاريخها طويل , وكانت تمتلك تأثيرا كبيرا في الاتحاد السوفيتي في تلك الايام , أما الان , فانها اصبحت جريدة ثانوية , الا انه من الواضح ان وضعها المالي جيد جدا , ومن المؤكد ان ميزانيتها أكبر من ميزانية ( ليتيراتورنايا راسيّا) , ولهذا فانها تصدر لحد الان ب (32) صفحة , ومواضيعها متنوعة جدا رغم انها تحمل تسمية - ( أدبية ) , ولكنها في الواقع ادبية وسياسية واجتماعية وفكرية عامه , وقالت , انها لا تستطيع قراءة كل صفحاتها لأن ذلك يتطلب وقتا طويلا , الا انها تتصفّحها بامعان , وتتوقف خصوصا عند كتاباتها حول الادباء الكلاسيكيين الروس الكبار , وتتوقف كذلك عند مقالاتها حول الشخصيات التاريخية الروسية , اذ انهم يكتبون عنهم بشمولية ذكية ومن وجهة نظر موضوعية , وقالت لي , اقرأ ما كتبته هذه الصحيفة في عددها هذا الذي بين يديك عن ستوليبين بمناسبة الذكرى 110 على اغتياله في كييف , اذ انها مقالة تحليلية ممتازة عن هذا المفكر الاصلاحي الكبير , الذي كنّا ننظر اليه في الفترة السوفيتية على انه شخصية رجعية مضادة للثورة والنظرية الماركسية ( هكذا كانوا يقولون لنا) , ولكنه ليس هكذا ابدا , انه شخص يحب وطنه , و فهم بعمق وضع روسيا وحاول اصلاحها باخلاص .
رجعت الى بيتي ومعي الصحيفتين , وحكيت لمن حولي ما سمعته من بائعة الصحف في الكشك , واعجابي واندهاشي بحديثها الممتع , فقالوا لي , انها واحدة من الطبقة الوسطى الروسية , والتي تفتّحت في ظروف الاتحاد السوفيتي , واستطاعت حتما ان تدرس في معاهده العديدة , وان تساهم – حسب امكانياتها - في مسيرة حياته , ثم انتهى بها المطاف الان الى التقاعد , الذي ( لا يسمن ولا يغني من جوع ) , وها هي ذا تعمل – وحسب امكانياتها ايضا – في كشك لبيع الصحف والمجلات , لأن الحياة الروسية المعاصرة تتطلب ذلك , وانها ( استغلّت !) موقفك , وتحدثت اليك (في دقائق) بمكنونات قلبها وعقلها , فضحكت أنا , وقلت – ما أجمل هذا ( الاستغلال !) وما أحلاه ...
959 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع