أحمد العبدالله
محطات في قطار العمر؛ يوم أُخْرِجنا مِن دِيَارِنا بِغَيْرِ حقّ(٤-٥)
إحتلت داعش أكثر من ثلث مساحة العراق في غضون أيام قلائل, وبـ(الرماشات) كما يقولون, فيكفي أن تظهر سيارة لداعش, حتى تنهار تلك القوات الميليشياوية التي نخرها الفساد والطائفية, القوات التي أذاقت أهل المحافظات الغربية, صنوف الإهانة والإذلال. والغريب؛ أن يتم لوم أهالي تلك المحافظات لعدم مقاومتهم لـ(داعش), ويتغافلون عن حقيقة؛ إن القوات الحكومية مسندة بقوات الإحتلال الأمريكي, إنصبَّ عملها خلال السنوات الأحد عشر التي سبقت اجتياح داعش, على مداهمة كل بيوت المحافظات الغربية, ومصادرة كل قطعة سلاح وجدوها, فكيف يطلبون من شعب أعزل شيئاً, عجز جيشهم(العرمرم), عن فعله ؟!!.
كان السكان بشكل عام فرحين مستبشرين, بزوال الكابوس الذي جثم على صدورهم سنين عددا, أكثر من ترحيبهم بالقادم الجديد المجهول, مع قلق وترقب لما سيحصل في اليوم التالي.
وبدلا من(استثمار الفوز), واستغلال انهيار القوات الحكومية, وحالة الفوضى والإرباك التي أعقبت ذلك, والدخول الى بغداد, وإسقاط الحكم الفاسد, توقفت جحافل داعش عند بوابات العاصمة الشمالية والغربية, ولم تتابع طريقها لتحرير(بغداد الرشيد من الروافض)!!, كما وعد البغدادي في كلمته المذاعة. بل الأغرب من ذلك هو استدارة قواته 180درجة , والبدء بهجوم كبير شمالاً لاحتلال أربيل, وترك ظهره مكشوفا لقوات الحشد الشيعي, مكتفياً بخطاب طائفي تحريضي, استنفر به الطرف الآخر وأثار رعبه وفزعه, فصدرت (فتوى) السيستاني بما سُمّي بـ(الجهاد الكفائي), تلك (الفتوى) التي دقّت المسمار الأخير في نعش(الوطنية) المتهالك. فتطوع عشرات الألوف في (الحشد الشعبي), وكأنهم كانوا بانتظار هذا اليوم, لتفريغ شحنات الحقد والعقد النفسية التي تسيطر على عقولهم المريضة, بعد أن قدّم لهم (داعش) الذريعة المناسبة على طبق من ذهب, خصوصا مع المقطع المصور الذي نشره لمجزرة سبايكر, وأجواء التحريض والإثارة التي التي انفلتت من عقالها.
تبيّن بعد وقت قصير إن(داعش), لا يملك أيَّ خطة لإدارة المدن والتجمعات السكانية الكبيرة التي باتت تحت سلطته, فمشروعه الوحيد هو القتال, والقتال فقط. ابتدأ بقتال الشيعة لأنهم(روافض كفرة), ثم الأكراد لأنهم(مرتدون), ثم لحقهم بقتال السُنّة الذين امتنعوا عن بيعته, ولم يتطوعوا في صفوفه لإقامة(دولة الخلافة)!!, الدولة الكارتونية التي لم تستطع أن توفر الحد الأدنى من مستلزمات الحياة والأمن لـ(رعاياها), فأخذوا بالهروب منها, وخصوصاً بعد بدء الطيران الحكومي بقصف عشوائي لمدنهم وقراهم. والمثير للدهشة, هو إنشغال تنظيم داعش, بتفجير الأضرحة والقبور والمزارات في المناطق التي بحوزته, في الوقت الذي كانت فيه القوات الحكومية تحاصره برّاً, وطيران التحالف الدولي يقصفه جواً !!.
كان عناصر داعش القادمين الذين رأيتهم, أغلبهم من العراقيين من مناطق شتّى, ومعهم نسبة قليلة من العرب, وانساق معهم أعداد قليلة من المناطق التي سيطروا عليها, وبدوافع مختلفة. وفي الأيام والأسابيع الأولى كان التنظيم لطيفاً في تعامله مع الأهالي, مستفيدا من التجربة السيّئة السابقة لتنظيم القاعدة, ولكن بمرور الوقت, واتساع القاعدة الجماهيرية التي بدأت ترفضه, لجأ التنظيم لإسلوب القمع والشدّة, وكان تأثير ذلك عكسيا.
صارت الحياة صعبة للغاية في(دولة داعش)؛ انقطعت الرواتب, الكهرباء شبه معدومة, مياه الإسالة شحيحة, وقود السيارات صار نادرا, وطوابير المركبات امتدت لمسافات طويلة, وهي تنتظر أمام محطات التعبئة لأيام عديدة, للحصول على كمية قليلة من الوقود وبدون نتيجة في أغلب الأحيان. والمستشفيات التي كان وضعها سيئاً قبل داعش, صار الآن أكثر سوءاً, مع هروب معظم أطبائها وكادرها. باختصار؛غدا الوضع لا يطاق, وأصبح السكان بين مطرقة داعش وسندان الحكومة الطائفية وميليشياتها الاجرامية.
بدأت أعداد متزايدة من السكان بالهروب بحثا عن ملاذ آمن, وكانت الخيارات محدودة, فالطريق الى بغداد ليست سالكة ومن الصعوبة بمكان الوصول إليها, فقد تعاملت حكومة المالكي مع النازحين بمفهوم؛(كلكم دواعش وإن لم تنتموا)!!, ثم صار دخول العاصمة لاحقا, أصعب من بلوغ كوكب المريخ !!. فلم يعد هناك من ملجأ سوى مدن إقليم كردستان؛ أربيل والسليمانية ودهوك بالدرجة الأولى, ثم كركوك بدرجة أقل, والتي كان محافظها السابق؛(نجم الدين كريم), يتحسّس كثيرا من العرب النازحين, وكان يشترط وجود كفيل من داخل كركوك لمن يروم اللجوء إليها, وفي حالة عدم وجود الكفيل, يتم سحب الأوراق الثبوتية للداخلين في (سيطرة مكتب خالد)جنوب المدينة, ثم تُسلّم لهم عند سيطرتي كركوك باتجاه السليمانية أو أربيل, وفقا لمسار الرحلة, حتى يتأكد من عدم مكوثهم داخل المدينة!!.
وتدفق مئات الآلاف من الهاربين من محافظات؛ الأنبار, نينوى, صلاح الدين, ديالى, وبابل(جرف الصخر), وحزام بغداد إلى مدن الإقليم, وفاق عددهم لاحقاً, الخمسة ملايين لاجئ, في أسوأ موجة نزوح تشهدها المنطقة في العصر الحديث وفق توصيف الأمم المتحدة, والتي اعتبرت مأساة النازحين العراقيين أقسى وأكبر من مأساة اللاجئين الفلسطينيين, والتي كان يُضرب بها المثل سابقا.
واجه إقليم كردستان مصاعب جمّة في استيعاب هذه الملايين وبوقت قصير, فكان مشاهد تكدس هذه الأعداد الهائلة على بوابات أربيل والسليمانية وفي ظروف مناخية قاسية, مأساوياً ومحزناً ومؤلماً. فالإقليم؛ طاقته الاستيعابية محدودة مع تدفق هذه الأعداد المتزايدة من النازحين, مع ما يتطلبه التدقيق الأمني من وقت, تحسباً من استغلال داعش لهذا الظرف ويدفع بأعداد من أتباعه لزعزعة الأمن والاستقرار في مدن الإقليم, قياساً بمدن العراق الأخرى.
الذي نجا بجلده في الأشهر الأولى, تمكن من الوصول لأربيل والسليمانية أو دهوك, وبعد بدء داعش بهجومه على كركوك وأربيل من إتجاه مخمور, وغلق سلطات الإقليم للمداخل المؤدية للمحافظات الواقعة تحت سلطة داعش, صار دخول تلك المدن في عداد المستحيلات, ولم يعد أمام النازحين الهاربين من بطش داعش والميليشيات الطائفية, سوى الهروب باتجاه الموصل والتسلّل من هناك الى تركيا عن طريق سوريا بواسطة المهربين الجشعين, في رحلة تكتنفها الأخطار والمشاق, ويحيط بها الموت من كل جانب, وكانت قصص تلك المغامرات لمن سلكها, أغرب مما نتصور.
بالنسبة لي؛ فقد بقيت في القرية لمدة عشرين يوما, والتي كانت في الأيام الأخيرة شبه خالية, بعد أن صارت القوات الحكومية والحشد على مقربة منها, وبدأت تصل أنباء الجرائم والإنتهاكات التي يرتكبونها ضد المدنيين الذين لم تسعفهم ظروفهم وإمكانياتهم على الهرب, فخرجنا من ديارنا سراعاً, ولم نحمل أيّ شيء من متاعنا أو أغراضنا أو حتى بعض وثائقنا الشخصية. ففي أوقات الكوارث, يتوقف العقل عن التفكير السليم, ويغدو النجاة بالنفس هو الشغل الشاغل لأي إنسان.
من أقسى ما يواجهه الإنسان في الحياة الدنيا, هو ترك بيته الذي شيّده بعد جهد جهيد, والذي هو بمثابة الوطن الصغير, ويغادره لمجهول ومستقبل غامض لا ملامح له, وتترك كل شيء وراء ظهرك؛ مكتبتك, ذكرياتك, أثاثك البسيط, والذي كل قطعة منه لها قصة, الأشجار التي زرعتها, وغير ذلك, تفارقها على مضض وحزن, لأن مخلوقات ممسوخة ستدنّس كل تلك الأشياء العزيزة والغالية, لا بقيمتها المادية, بل الإعتبارية. ولكن ما يهوّن تلك المصائب على النفس, هو إن سُنّة الإبتلاء في المال والنفس والأهل, من الله سبحانه لعباده, ماضية بلا توقف, وسيجزي الله الصابرين المحتسبين ,إذ قال تعالى:((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)).
غادرت القرية مع عائلتي؛ وصلت العائلة الى أربيل في اليوم الثاني من رمضان, وتأخرت أنا عنهم, وبقيت في قرية مجاورة تقع في الضفة الأخرى للنهر, ولا تبعد كثيراً عن قريتي, ولكنها خارج عن خط سير تقدم القوات الميليشياوية حينها. بقيت هناك عند أقارب لي لمدة إسبوع, أراقب الموقف وأتنسم الأخبار التي بدأت تترى عن الجرائم والإنتهاكات الفظيعة لقوات الحشد الشيعي ومن معها.
يوم الثامن من تموز 2014, قرّرتُ القيام بمغامرة محفوفة بالمخاطر, وهو التسلّل لقريتي المحاصرة لجلب بعض المستمسكات الضرورية التي نحتاجها في رحلة التهجير, ولم نتمكن من اصطحابها سابقا, فوصلتها برفقة دليل عبر طرق نيسمية, ومكثت فيها ساعة واحدة فقط. وكان مشهد القرية وهي خاوية, ويخيّم عليها الصمت الموحش, والحيوانات والدواجن السائبة والأشجار الذابلة, يثير الحزن والأسى. القرية التي كانت لحد أيام قليلة خلت, عامرة بالحياة والحركة, وكان ذلك هو الوداع الأخير, وآخر عهدي بها, فلم نتمكن من العودة إليها, حتى يومنا هذا, لأن حثالات (جحش), تمنعنا من ذلك !!.
في اليوم التالي؛ التاسع من تموز, الموافق للحادي عشر من رمضان, وبعد رحلة شاقة ومرهقة, وصلتُ أربيل, حيث أمضيت فيها بضع سنين من عمري, والتي امتدت لخمس سنين وخمسة أشهر, كانت أقسى السنوات التي مررنا بها على الإطلاق.
قال الله تعالى:((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير* الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّه ُوَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ)).
للراغبين الأطلاع على الجزء الثالث:
https://algardenia.com/maqalat/54465-2022-06-25-21-01-46.html
2180 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع