أحمد العبدالله
محطات في قطار العمر؛ (سبايكر)..الحصاد المرّ(٢-٥)
بادئ ذي بدء, فإن ما عُرف بـ(مجزرة سبايكر), التي ارتكبها تنظيم داعش الإرهابي عند اجتياحه السريع للمحافظات الغربية في حزيران 2014, وفرار القوات الحكومية المشين وانهيارها المخزي أمامه, دون إبداء الحد الأدنى من إرادة القتال والصمود أمام شرذمة قليلة. أقول؛ إن تلك جريمة مدانة ومستنكرة وبأشد العبارات.
وإن محاولات إلصاقها بمدينة تكريت وبعشائرها, بزعم إن بعض من شباب المدينة كانوا في صفوف داعش وشاركوا في جرائمه, هي محاولة خبيثة من بعض السياسيين الانتهازيين لتحسين سمعتهم الوسخة والفاسدة, وركوب الموجة, وأنا هنا أعني سياسي بعينه من إفرازات مرحلة الاحتلال, عُرف بتقلبه الحاد وتناقضاته العجيبة, ومتاجرته بدماء الناس وآلامهم, ويميل حيث الريح مالت. فقد ظل هذا لأسابيع متتالية وهو يصبّ الزيت على نار متأجّجة أصلا, ولا تحتاج لمن ينفخ فيها, ويتهم عبر قناته المشبوهة, ويحرّض على عشائر بعينها, بأنهم هم من قتل جنود سبايكر وليس تنظيم داعش الذي دخل المدينة لاحقا!!. وقدّم روايات مضللة ومفبركة, تبيّنَ كذبها بعد حين. ليعود هذا الشخص نفسه بعد أشهر قلائل فقط, ليذرف دموع التماسيح, وهذه المرة ليس على(ضحايا سبايكر), بل على ضحايا جدد آخرين و بالآلاف المؤلفة, ساقتهم الميليشيات الطائفية الإيرانية الى الموت بذريعة (الثأر لضحايا سبايكر)*!!!, ومئات آخرين تم إعدامهم في (سجن الحوت), وبالذريعة نفسها, بعد محاكمات صورية سريعة , وبدون أدلّة يُعتدّ بها.
لقد عُرفت مدينة تكريت وأهلها بترحيبهم وتسامحهم مع القادمين إليها, مروراً أو إقامة, خلال تاريخها المعاصر. فعند استحداث محافظة صلاح الدين ومركزها تكريت بموجب المرسوم الجمهوري(41) لسنة 1976, لأغراض إدارية بحتة, حتّمها عدم وجود محافظة على مسافة ممتدة لـ 400 كم, تفصل بغداد عن الموصل, وليس لأسباب (مناطقية أو طائفية), كما يروّج بعض المرضى بالسعار الطائفي. ففي المرسوم الجمهوري التالي له؛(42), إستُحدثت محافظة النجف, وهي لا تفصلها عن محافظة كربلاء سوى 75 كم فقط, وهذه الأخيرة لا تبعد عن مدينة الحلة, مركز محافظة بابل, غير 50 كم!!.
استقطبت تكريت, بعد استحداثها محافظة, المئات من الموظفين القادمين إليها من مناطق شتّى, منهم نسبة لا بأس بها من بغداد وجنوب العراق, وقسم كبير منهم استوطن المدينة وصار جزءاً من نسيجها الإجتماعي. وتكّرر الأمر ذاته, ولكن بنطاق أوسع في الثمانينات, إبان العدوان الإيراني الخميني على العراق, حيث كانت هذه الهجرة من أهالي مدينة البصرة بشكل أساس, ففتحت المدينة ذراعيها لهم, ولسان حالها يقول؛ يا خيرَ مقدم. ومنهم من عاد الى دياره بعد انتهاء الحرب, ومنهم من استقرَّ في تكريت بشكل نهائي وطابت له الإقامة فيها.
أما أكبر تلك الهجرات فكانت في عقد التسعينات, إذ جاءتها هذه المرة قوافل بالآلاف من المحافظات الجنوبية, ومعظمهم من الناصرية والكوت, لغرض العمل في المواقع الرئاسية في تكريت, وهذه كانت هجرة مؤقتة, إذ يعودون لمحافظاتهم بعد استكمال بناء تلك المواقع.
واستمر الحال هكذا حتى سنة 2006, عند اشتداد الحرب الطائفية التي أشعلتها الأيادي الخبيثة التي تضمر الحقد والشر للعراق وأهله. فغادرت المدينة معظم العوائل الشيعية التي كانت قد استقرّت فيها منذ مدة طويلة. كما حصل الأمر نفسه ولكن معكوسا, في مدن الجنوب وبعض مناطق العاصمة بغداد, وبدء سياسة (الفرز الطائفي). وكانت تلك, سنون مؤلمة وحزينة, فقدت فيه مدن كثيرة, تنوعها ورونقها.
إن مسؤولية مجزرة سبايكر تقع مسؤوليتها على عاتق طرفين لا ثالث لهما؛ الأول الفاعل المباشر لها؛ داعش, وهو تنظيم إرهابي عابر للحدود, ولا يمثل الخط العام لأهل السُنّة في العراق, المعروفين باعتدالهم ووسطيتهم.
والطرف الآخر والذي يتحمل المسؤولية الكبرى في هذه الجريمة, هو نوري المالكي شخصيا بصفته (رئيس وزراء العراق), وحكومته التي ضمّت عتاة المجرمين الطائفيين,كصولاغ وهادي العامري ومن لفَّ لفهما. فالمالكي وطيلة مدة حكمه الأسود للعراق على مدى ثماني سنين عجاف, مارس سياسة طائفية إقصائية صارخة ضد مكوّن أساسي وتاريخي, هو الذي بنى دولة العراق الحديث بالجهد والتضحيات, وناصبهم العداء وملأ المعتقلات بألوف مؤلفة من رجالهم ودمّر مدنهم, وألّب قوات الاحتلال الأمريكي عليهم, بحجة أنهم إرهابيون وبعثيون ووهابية ونواصب,...ألخ. وضيّق على أرزاقهم, وأنشأ فرق الموت التي إغتالت علماءهم وضباطهم وطياريهم, ومارس سياسة التهجير الطائفي ضدهم, وكلُّ ذلك بأدوات الدولة وأجهزتها وجيشها, والتي سخّرها هذا الشخص الحقود لمصلحته الخاصة وعائلته وحزبه. وبوقاحة لا مثيل لها يخرج على رؤوس الأشهاد, وهو بموقعه الرسمي, ليصرّح؛ إن المعركة معهم (السُنّة) مستمرة منذ 1400عام, بوصفهم (أنصار يزيد)!!, وأنهم أحفاد قتلة الحسين!!!. في مغالطة تاريخية كبرى, فالحسين(رض), معروف من غدر به, ومن قتله, وأين.
ومن الغريب جدا, إن المتباكين على ضحايا سبايكر, يتعامون عن عشرات المجازر المرتكبة ضد أهل السُنّة, طيلة العشر سنوات التي سبقت مجزرة سبايكر, كمجازر؛ الحويجة, وجامع سارية, ومجازرأخرى لا تعدّ ولا تُحصى, هذا بخلاف آلاف الأبرياء الذين خطفتهم الميليشيات الشيعية الطائفية في 2006,وما قبلها وما بعدها, من بيوتهم أو من الشوارع, ليتم قتلهم بعد تعذيبهم وإلقاء جثثهم على قارعة الطريق, أو في منطقة (خلف السدة) شرقي بغداد, حيث امتلأت مستنقعاتها بجثث المغدورين على يد ما يسمى بـ(جيش المهدي). فجميع تلك الجرائم وقعت قبل(سبايكر).
ولكن الفارق الجوهري والكبير بين مجزرة سبايكر والمجازر التي سبقتها وتلتها أيضا, هو إن الأولى نفذها تنظيم إرهابي يحاربه العالم بأسره, وأول من تصدى له, هم سُنّة العراق عن طريق الصحوات, وقد تم القضاء على ذلك التنظيم وقتل زعيمه ومعظم قادته والكثير من أفراده. بينما مرتكبو المجازر الأخرى, هم يحكمون الدولة العراقية الآن عبر ميليشياتهم وأحزابهم, ولهم تمثيل سياسي مؤثر في البرلمان ويتمتعون بالحصانة الكاملة ويسخّرون مقدرات البلاد وثرواتها لمصالحهم الشخصية, ولا يجرؤ أحد على توجيه الاتهام لهم, رغم سجلهم الدموي الممتلئ بالجرائم التي يشيب لها الولدان.
وفي ظل قضاء فاسد ومنحاز. وكمثال على (العدالة)!! العوراء, العرجاء, الشوهاء في (العراق الشيعي), هو تبرئة المدانين, الذين ارتكبوا مجزرة جامع مصعب بن عمير في ديالى بتاريخ 22 آب 2014,عندما اقتحمت المسجد وقت صلاة الجمعة، مجموعة من القتلة المجرمين من ميليشيا (العصائب), وفتحوا نيران أسلحتهم الرشاشة على المصلّين، ليستشهد أكثر من 73 منهم. وأصدر عليهم القضاء بعد عام من إرتكاب الجريمة, أحكاماً بالإعدام على عدد منهم, استناداً إلى اعترافاتهم بارتكاب المجزرة، لكنه عاد بعد حين, لينقض القرار، ويطلق سراح المجرمين (لعدم كفاية الأدلة)!!!.
فأين أدعياء(المظلومية)!!, من هذا القرار المخزي والمشين؟!!,أكثر من 73 شهيدا تذهب دماؤهم هدراً, لأن المجرمين من الميليشيات الشيعية الطائفية الايرانية المتسلطة على مقدرات البلد, والتي هي فوق القانون والمساءلة. (القانون) الأعور الذي يُطبق على السُنّي فقط؛ قتلا أو شنقا!!. فالمادة (4 إرهاب) سيّئة الصيت, صارت تسمى؛(4 سُنّة)!!!.
وأخيراً وليس آخراً, أريد أن أذكر حدثين كنت شاهدا عليهما, من خلالهما يمكننا فهم جانب ممّا جرى, الأول: لشاب من سكنة قريتي, متزوج ولديه أطفال ويملك بيتا وسيارة ووظيفة لا بأس بها في المركز الصحي القريب لبيته, وهو شخص مسالم وبعيد عن فكر داعش المتطرف, أخبرني فجأة, إنه قرّر الإلتحاق في صفوف التنظيم, وكان ذلك في أواخر حزيران 2014, وعندما استغربت لقراره وسألته عن السبب, أجابني؛ بأنه قادم لتوّه من أحد المعسكرات المحاذية لقريتنا, والتي كانت فلول جيش المالكي قد تركتها هاربة مع وصول داعش, وهناك رأى على جدران قاعات المنام الخاصة بالجنود شعارات طائفية, فيها إساءة للصحابة الكرام وأمهات المؤمنين(رضي الله عنهم جميعا), ووعيد بالقتل وتكفير لعموم المسلمين, منها؛(الموت للوهابية والبعثية),(سنقتلكم أيها النواصب الكفرة؛ أحفاد يزيد),(يا لثارات الحسين)!!.
والحدث الآخر؛ لشاب لم يتجاوز العشرين من العمر, وهو من سكنة الأعظمية, جاء مع قوات داعش التي دخلت القرية, وكان قد التحق في صفوفها قبل فترة من الزمن, لأن الميليشات الطائفية في بغداد, قد قتلت شقيقه غيلة وغدراً, وهو يريد أن يثأر له.
فـ(سبايكر)؛ هي الحصاد المرّ لما سبقها, وإن السياسات الطائفية الإقصائية المقيتة هي التي جلبت الخراب والدمار للعراق, وولّدت رد فعل مضاد لدى الطرف الآخر, فالدم لا يجلب إلاّ الدم, والتطرف يولّد تطرفا أشد. وكما تدين تدان, وكما تزرع, تحصد, وعلى الباغي تدور الدوائر. ويا ليت قومي يعلمون.
.....................................
* هذا الرتل الطويل من البشر الذين لا ناقة لهم ولا جمل, ساقتهم الميليشيات الشيعية الطائفية الإجرامية إلى الموت, بحجة الثأر لضحايا سبايكر, ودُفنوا في قبور جماعية, كشف بعضها, ولم يكشف عن معظمها. ويعود تاريخ هذا المقطع لشهر آذار 2015, وفي منطقة الجلّام الواقعة بين سامراء والدور.
للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
https://algardenia.com/maqalat/54205-2022-06-06-16-14-23.html
2247 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع