د. زكي الجابر
التزاما بضمير العلم(1)
في احتفال تخرجهم يقسم الأطباء ’’يمين أبوقراط‘‘، يعلنون فيه التزامهم بشرف المهنة واعتباراتها الأخلاقية، أما أولئك الأكاديميون العلماء المنضوون تحت راية مدرسة الدكتور الأستاذ ’’جوزيف روتبالت‘‘، الحائز على جائزة نوبل للسلام 1995، فقد صاغوا يمينا يقترب في منطلقاته من يمين ’’أبوقراط‘‘، آملين أن يؤديه العلماء الشباب. يقول ذلك اليمين ما يلي: ’’أتعهد بأن أعمل من أجل عالم أفضل، يُستعمل فيه العلم والتكنولوجيا بطرق مسؤولة اجتماعيا، ولن أستعمل ما تعلمته لأي غرض يستهدف الإساءة للبشر أو البيئة، وطوال ممارستي المهنية سأضع في الاعتبار، قبل مزاولتي أي عمل، المتضمنات الأخلاقية، ومع معظم المتطلبات الملقاة علي فإنني أوقع هذا الإعلان إدراكا بأن مسؤولية الفرد هي الخطوة الأولى على طريق السلام‘‘.
ولكن لماذا هذا القسم؟ من أجل الإجابة عن ذلك يريد ’’روتبالت‘‘ منا أن نلتفت إلى الماضي حين كان العلماء، وبالأخص علماء الطبيعة، يمارسون العلم هواية من هوايات ملء أوقات الفراغ. كانوا يلتقطون النبات الغريب أو المتحجرات، يحدقون إلى السماء، ويسجلون غير الاعتيادي من الأحداث. ولما كانت تعوزهم شبكات التواصل الحديثة كانوا ينقلون ملاحظاتهم إلى أمثالهم من النبلاء، ممن لهم ذات الهوايات. وإن الأمر كله لم يكن يتعدى تسلية صالونات في منأى عن مرارة واقع الحياة، ولكنها تتصف بالبراءة وعدم الإساءة. ومع تقدم الزمن أخذت ممارسة العلم صفتها الاحترافية، وتأسست مراكز العلم والأكاديميات، وانطوى العلماء في أبراج عاجية، شغلهم الشاغل أن يستوعبوا قوانين الطبيعة انطلاقا من اعتبارها بعيدة عن انفعالات الإنسان وردود أفعاله، واستنادا على حياد العلم وابتعاده عن مجالات السياسة، وحصانته عن الملامة إذا كانت ثمة إساءة في تطبيقاته.
أما في واقع الأمر، كما يذهب ’’روتبالت‘‘، فإن العلم فقد براءته. لقد قصرت المسافة الزمنية بين الإنجاز العلمي وتطبيقاته، ونفذ العلم إلى الحياة الاعتيادية للبشر، تتلمس آثاره في المطبخ والتلفزيون وإشارات المرور والدواء، وأصبح البحث العلمي ذا تأثير على العلاقات السياسية بين الدول، كما أن الأحداث السياسية، بالمقابل، أصبحت ذات تأثير على البحث العلمي وتطوراته وتطبيقاته، وشرع العلم يأخذ مكانه في المختبرات السرية للمؤسسات العسكرية التي وضعت في خدمته وتحت أيدي القائمين به الموازنات الضخمة، وبذا تحقق إنتاج السلاح الذري وغيره من أسلحة الفتك والتدمير، وكان من استخداماته تلك الفاجعة المروعة التي حلت بــ ’’هيروشيما‘‘ و ’’ناگازاكي‘‘، وكان من أبرز فشل ضبطه والخلل في تنظيم إدارته تلك التسربات القاتلة في ’’تشيرنوبل‘‘.
يذهب بعض أهل الفلسفة إلى القول بأن اقتصار الرؤية على ما هو مدرك من الطبيعة يقرب الإنسان من مرتبة الحيوان الذي لا تستطيع قواه العقلية أن تعي وجود ما هو غير مدرك، وفي رواية ’’طفيليات العقل‘‘ لــ ’’كولن ولسن‘‘ الإشارة إلى أن كل شيء يصبح سهلا إذا ما أصبحت لديك القدرة على استخدام العقل استخداما صحيحا. والأمر في هذا الشأن يتجاوز اشتغال العقل إلى المشاعر والأحاسيس، والمدرسة النقدية المعاصرة تسجل على ثقافة المجتمع الصناعي، بجملتها، افتقارها، بشكل عام، إلى عنصر التسامي. إن عزل الإنسان، وهذا ينطبق بوضوح على أصحاب الأبراج العالية من العلماء، يقلص من نشاطه الواعي المبدع والإنساني.
ومن هذا المنطلق بدأت في الوسط العلمي تتصاعد الدعوات إلى المعرفة الإنسانية كنقيض للمعرفة الميكانيكية، الأولى إنسانية كلية متزامنة عامة تعاونية، تعنى بالشأن الإنساني، وتهدف أساسا إلى فهم الطبيعة، أما الثانية فهي ميكانيكية متخصصة إجرائية استغلالية، تهدف أساسا إلى السيطرة على الطبيعة. تتصاعد هذه الدعوات متزامنة مع اعتقاد أخذ بترسيخ قواعده على أفكار تؤكد عدم حيادية التكنولوجيا مع اعتقاد يتجاوز المفهوم القائل بأن خير المعرفة لا ينفصل عن شرها، فهما وجهان لعملة واحدة، فالتكنولوجيا التي تذهب بأرواح الناس ذات قدرة على شفائهم كذلك. في هذا المفهوم مغالطة تظهر بوضوح عند تأمل صناعة السلاح الذري. هذا السلاح في جوهره وغايته أداة إبادة جماعية بالرغم مما يقال من أنه قد يوظف في سياسة الردع وأغراض الدفاع. قد يكون من باب الطرافة والحكمة في هذا الصدد إعادة قول من يرى أن ماسورة البندقية قد تستخدم في إذابة السكر في قدح الشاي، ولكن استعمالها أدق في القتل. إن القتل هو ما صممت وصنعت لأجله.
في القرآن العظيم يقترب المؤمنون والذين أوتوا العلم في الارتفاع درجات عند الله. يقول تعالى: ’’يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‘‘ (سورة المجادلة، الآية 11). والإيمان، في أنقى أشكاله، يؤدي إلى أن يكون الإنسان أنفع للإنسان، والمفترض بالإنسان العالم أن يكون كذلك. إن تصميم الصنعة التكنولوجية، كما يقول أصحابها، ينطلق أساسا من استعمالاتها المنتظرة، ومن هنا تتجلى عظمة الدافع وراء صياغة اليمين الذي ينبغي على العلماء تأديته في حنايا صدورهم قبل أن يعلنوه أمام ملأ من الناس قَلًّ أو كَثُرَ.
إن المجتمع هو البرج الحقيقي للعالم، ففيه تعترك مروءته وشرف مهنته، واليمين يضع على كواهل ذوي العلم مسؤوليات الاعتراف بدورهم في المجتمع ضمن إطار يراهم أوسع نظرا وأعمق تبصرا في فهم المشاكل التقنية وإدراك مسؤولية المعرفة من السياسيين وعموم المواطنين. إن ذلك اليمين، في نبل دوافعه وصياغته، يعني الالتزام بضمير العلم الذي هو في الوقت ذاته الضمير الاجتماعي للعالم، إنه دعوة إلى أن يكون العلم وسيلة نبيلة إلى غاية نبيلة في زمن تتعالى فيه وتتدافع، وعلى الأخص في المجتمعات المصنعة، تيارات الهيمنة وإنتاج الجملة والاستهلاك، ويختلط فيه الزيف بالصدق، وتغيم الصلة بين الغايات والمذاهب. وقديما قال ’’ابن الرومي‘‘ وهو في أزمة فلسفية:
ألا من يُريني غايتي قبل مذهبي ومن أين والغايات بعد المذاهب؟!
إن العالم، كل العالم، يعاني عواقب هذه الأزمة، أزمة الاختلاط بين المذاهب والغايات.
وإذا ما تجاوزنا الحديث عن ذلك الاختلاط فمن باب الاقتراب من الواقع القول بأن تقدم العلم يعتمد إلى حد بعيد على دافع الضريبة، والمواطن الذي يقدم هذه الضريبة من حقه أن يعرف كم يذهب منها للعلم والبحث وأي نوع من العلم والبحث، وهذا أمر يفترض أن يقوم العلماء أنفسهم بتقديم إنجازاتهم للجمهور وباللغة التي يفهمها هذا الجمهور، والأهم، من بعد ذلك، لأي غرض توظف هذه الإنجازات. والإعلاميون يتحملون جانبا مهما من مسؤولية تقديم العلم وعواقب المنجزات والأبحاث إلى من سيكون العلم أولا وأخيرا في خدمتهم، وأريد بهم شعوب العالم. إن المترتبات الناجمة عن الغبار الذري والتحكم في الجينات وعمليات الاستنساخ والنفايات الكيماوية وأقمار التجسس وسقوط الأقمار الصناعية لا تقف عند حدود بلد معين، ولا تقتصر على مجموعة من البشر. إن كوكبنا برمته عرضة لكل تلك المترتبات وما يترتب عليها من مترتبات.
إن ما يمر به العلم والتكنولوجيا من تطور تختلط فيه المذاهب والغايات يحتم، التزاما بضمير العلم، أن تكون بين أيدي الناس معلومات واضحة ومبسطة عما يجري من غير استغباء للمتلقي وقدراته العقلية، وأن يتوفر تفاعل حيوي بين العلماء وأجهزة الإعلام، وأن يتحقق اختراق تقوم به أجهزة الإعلام للأبراج العاجية التي يعتكف في حجراتها العلماء الذين يساورهم الظن بأن بحثهم العلمي إنما هو لغاية البحث العلمي، وكذلك الآخرون الذين قد يغريهم ركام المبالغ التي تخصصها الموازنات العسكرية للبحث الذي يرمي إلى تطوير آلات الفتك والقتل الجماعي.
في السابع من سبتمبر 1978 كان الكاتب المسرحي والإذاعي البلغاري ’’جيورجي ماركوف‘‘ واقفا ينتظر الباص في إحدى محطات لندن حين وخز فَخِذَهُ طَرَفُ مظلة مطر. أصيب ’’ماركوف‘‘ إثر ذلك بحمى مرتفعة الدرجة ثم توفي بعد أربعة أيام. لم يكن في طرف المظلة إلا خرطوشة صغيرة جدا محملة بالسم نفذت إلى دم الكاتب. هل كان على دراية بهذه الفعلة أولئك العلماء الذين اهتدوا إلى هذا السم القاتل واتقنوا صناعته وأشاروا إلى إمكانات استعماله؟ أثمة اختلاط لديهم بين الغايات والمذاهب أم كان ينقصهم الالتزام بضمير العلم؟!
(1) نشرت في صحيفة البيان (الإمارات)
3-2-1998
1353 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع