الحرب غير المرغوبة

ضرغام الدباغ / برلين

الحرب غير المرغوبة

أتابع التطورات السياسية والتصعيد (ضمن العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط) العلاقات الإسرائيلية / الإيرانية منذ سنوات عديدة (لا تقل عن 50 عاماً) بمرحلها المختلفة: علاقات تحالفية ممتازة، وتراجعها، ثم تعود وتزدهر، ولكنها لم تشهد انتكاسات حادة، بالأحرى لم تبلغ مطلقا في التاريخ القديم والوسيط والحديث درجة الصراع المسلح. ولأني أعتقد، ولي فيما أعتقد أسبابي الجوهرية، المادية، ولا يمكن أن نبني قناعاتنا ومواقفنا إلا بناء على أسس مادية جوهرية، وسوى ذلك مداعبة للعواطف والمشاعر التي لها قيمتها المعنوية بلا شك، ولكنها لا تصلح للأسف كأساس متين للموقف السياسي الرصين.
وفي جرد تفصيلي لأهم مفاصل ومراحل العلاقة الثنائية : الإيرانية / الإسرائيلية، ننطلق من فرضية وهمية: هل تعادي إيران حقاً الكيان الصهيوني، ولماذا ..؟ فلم نجد سبباً واحداً، منطقياً مقنعاً، وحتى نصف مقنع، للعداء، ولكن بالمقابل وجدنا الكثير من الأسباب المنطقية، لما تكنه إيران من العداء للأقطار والقضية العربية، حتى انها تفعل ذلك خلافاً لمصالحها السياسية. ولكنه موقف انزلقت إليه، فوجدت نفسها امام الشراسة الصهيونية وجها لوجه والمدعومة دولياً.
وتاريخياً، تحتفظ ذاكرة العلاقات الإسرائيلية / الفارسية بمأثرة كبيرة، وهي حين أقدم الاخمينيون (خلال صراعهم مع دولة بابل) على تحرير الأسرى اليهود في بلاد بابل، وهي مأثرة تاريخية كبيرة، المعتقد والمفترض أنها تؤسس لعلاقات تاريخية عريقة، (1)
وحين تحرر اليهود من السبي، بقي قسم منهم في العراق وأطلق عليهم (يهود العراق)، وعاش قسم آخر في فارس وسموا (يهود فارس)، وهاجر بعض آخر منهم إلى جورجيا /القوقاز (يهود جيورجيا). أما اليهود الذي لم يشملهم الأسر وبقوا في فلسطين، فمن المعتقد أنهم هاجروا بحرا إلى ديار أخرى، كأوربا (اسبانيا خصوصاً) وشمال أفريقيا.
وتشير دراسات عديدة أن بلاد فارس التي أصبحت مستقرا لليهود الذين عرفوا باليهود الفرس، صارت بينهم صلات ثقافية واجتماعية واقتصادية، وبدرجة مماثلة، ولربما أشد، حدثت بين اليهود الذي عاشوا في العراق واندغموا في المجتمع العراقي تواصلاً ايجابياً أستطال حتى خمسينات القرن العشرية، وبعد تأسيس الكيان اليهودي، حتى أرغمتهم الجمعية اليهودية العالمية على الهجرة لفلسطين بعد الاحتلال.
وفي العصور اللاحقة، وبعد تأسيس الكيان الصهيوني، وهو ما لم يكن مرحبا به لنسبة كبيرة من اليهود، ولا سيما اليهود الشرقيين(السفارديم) الذين لم يكونوا يعانون من مشكلة جوهرية في بلدان الشرق، والعربية/ الإسلامية عموماً، في حين كان اليهود الغربيين (الاشكيناز) يعانون منذ أقدم العصور وحتى أواسط الخمسينات من القرن العشرين (وحتى الآن بنسب متفاوتة) من التميز العنصري ويبلغ أحياناً درجة الاضطهاد، وقضي منهم (اليهود الاشكناز) الملايين في حملات ملاحقة اليهود المعروفة (الهولوكوست).
في العصور الحديثة، وقفت ومنذ تأسيس دولة الكيان الصهيوني وقفت إيران مساندة للموقف الغربي في تأييد الكيان، وتزويده بالنفط، ولم يشذ هذا الموقف إلا بدرجة بسيطة جداً في حرب أكتوبر / تشرين / 1973، ولكن الموقف الإيراني كان مؤيداً وداعماً لإسرائيل في كافة الحروب العربية/ الإسرائيلية : 1948، 1956، 1967. تراجع قليلاً في حرب 1973 وما بعده، وبعد إعلان الثورة الإسلامية كان من المؤمل أن يكون لصالح الكفاح الفلسطيني، ولكن ذلك لم يحصل، لسبب جوهري، هو أن إسرائيل كانت تنظر وتفهم الصراع العربي الإسرائيلي على أنه المدخل السياسي المنطقة لدخول إلى كافة الملفات والتعاملات مع قضايا الشرق الأوسط السياسية والاقتصادية والثقافية، ولتحصل على بطاقة ومقعد في مداولات قضايا المنطقة وهو ما ترغب به بشدة، وفي طموحها أن تبلغ درجة العضوية التامة في الجامعة العربية.
والعقل السياسي الإيراني يريد بلوغ هذه الأهداف بطريقة اقتحامية، وبوسائل الابتزازـ والتآمر وبث الميليشيات المسلحة التي تشيع الفوضى والجريمة المنظمة، وصولاً إلى تجارة المخدرات، والدعارة المقنعة، وصولاً إلى ترويج مذهب ولاية الفقيه، التي تمكن الجهاز السياسي الإيراني من التغلغل في المجتمعات العربية والاستيلاء على ولاء المواطنين العرب الشيعة بحكم مذهب ولاية الفقيه الملزمة على الأفراد الشيعة، وتحويلها إلى خدمات لصالح السياسة الإيرانية.

يقضي نظام ولاية الفقيه على الولاء الفردي والجماعي لكافة أفراد المذهب الشيعي الإثنا عشري للولي الفقيه الإيراني، والخضوع لإمره لدرجة إعلان الجهاد. وبذلك فهو يصيغ مذهبا يروج لديكتاتورية الولي الفقيه،
• ومن أولى فقرات الدستور الشيعي الإثنا عشري، الإعلان الحكومي الرسمي الإيراني، بالتزام الدولة بأصول المذهب، وبالمراجع الدينية،
• وبأهمية القبور والمراقد الأئمة واعتبارها من المقدسات،
• التزام الدولة الإيرانية المعلن حماية الدولة الإيرانية للقبور (حتى لو لم تكن مثبتة علمياً) وملكيتها. ووضع تفاسير وتقاليد ومراسم زيارتها .
• التزام الدولة ومؤسساتها الخارجية (السفارات والقنصليات) بنشر التشيع كواجب، وأحياء المراسم الدينية، من واجبات الدولة والبعثات الدبلوماسية.
• تتعامل الدولة كمؤسسات مع الشؤون الدينية، وفق قواعد قانونية تقاليد وأصول تنتمي للقرون الأولى، في تقرير قضايا سياسية معاصرة.

ولم يحدث تماس غير مرغوب به بين الدولة الإيرانية، (تأسست الدولة الإيرانية لأول مرة في التاريخ عام 1935، مع الكيان الصهيوني، الذي تأسس عام 1948، أي قبل تأسيس الكيان الصهيوني بثلاثة عشر عاماً)، بل كانت حافلة بأسباب وأوجه التعاون، حتى أن الموساد كان يقبل مشاركة ضباط إيرانيين من جهاز الأمن السافاك في دورات داخل الكيان المحتل لفلسطين.
وفي إطار العلاقات السياسية والاقتصادية، والعسكرية، لم يكن هناك ما تشكو منه إسرائيل أو إيران، بل بالعكس، فأمر مساعدة إسرائيل لإيران في حربها ضد العراق لم تكن أمرا خفياً، وأمراً لا يمكن تجاهله أو نكرانه. وهناك وثائق (مانفست) شحن السلاح والعتاد من إسرائيل إلى إيران بطائرات مموهة بأسماء وشركات وهمية أو مجهولة الانتساب، تختار لنفسها خط طيران دقيق بعيد عن الشبهات والمراقبة : الكيان ــ قبرص، الدخول في خط طيران يطير فوق خط الحدود السورية/ التركية، ثم الحدود التركية / العراقية، ويدخل إيران من أقصى شمال إيران / أذربيجان بالقرب ممر زنغزور، وبالفعل قامت شركات ارجنتينية شبه وهمية برحلات عديدة نقلت فيها السلاح والعتاد وربما الخبراء أيضاً من إسرائيل إلى طهران.
نريد القول أن العلاقات الإيرانية / الإسرائيلية كانت سمن على عسل، وبأهداف مشتركة، هو تدمير القدرات العربية وفق مذهب سياسي صهيوني، غربي لا يسمح بتشكل قوة تنافسها في الشرق الأوسط. ولكن ما لذي غير معطيات المعادلة لتتغير النتائج ..؟
موقع إيران الجغرافي في وسط أسيوي يضايق صناع القرارات، الذين يرغبون بعلاقات اقتصادية وسياسية واقتصادية وثقافية وثيقة مع أقطار الشرق الأوسط العربية، وأمتدادا لشمال أفريقيا العربي، ويعتبرونه وسطاً يسهل فيه تغلغل أفكارهم وعقائدهم السياسية والثقافية، يبذلون المساعي لدخوله، ويحتلوا فيه موقعا متميزاً، بالدسائس والمؤامرات والرشوة، والقوة المسلحة، لذلك وافقوا وساهموا في المشروع الغربي / الصهيوني بتشكيل قوى محلية في الشرق الأوسط تمثل في إيران أحد أطراف ويمثل الطرف الآخر فيه إسرائيل.
كانت هذه الرؤية على الورق وردية جذابة، فسمحت الولايات المتحدة، وإسرائيل لإيران بالتغلغل التدريجي الهادئ غالبا والصاخب أحياناً، بدخول العراق والاستيلاء عليه، والهيمنة على سوريا تحت حكم الأسد، الذي يقبل بأي عون خارجي يبقيه في السلطة، وثم الهيمنة على لبنان بموافقة إسرائيلية وبمساعدتهاـ وكان هدف هذه الأنشطة البعيد هو الهيمنة على الشرق الأوسط بقيادة تحالف ثلاثي تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران.
ولكن لماذا فسد هذا الحلف الذي كان حافلاً بالمنجزات ..؟
هذا التحالف وكل تحالف يفسد حين يدب الشك في نفوس أطراف التحالف، أن طرفاً وربما أكثر يلعب ليضاعف رصيده الخاص، وهذا ما فعله الفرس الصفويون من شراهة، مفرطة، وكمثال على ذلك، أن الأطراف الثلاثة اتفقوا على دخول العراق واحتلاله وأن هذا الموقف سيعود بالنفع على الأهداف المشتركة، وإذا بإيران تستولي على كامل الخزانة والثروة، وتنهب ما موجود باطن الأرض وظاهره، وإذا كان هذا مقبول نسبياً، إلا أن الاستيلاء على لبنان وسوريا، أفسد قضية التحالف.
إلى هنا، ومع ذلك كان التحالف الثلاثي ما يزال صامداً، ولكن ما أفسد التحالف هو:
1. السيطرة الشاملة: (Total Control) التحرك الإيراني بمجمله كان يهدف إلى السيطرة الشاملة التامة على عموم الشرق الأوسط بما في ذلك شبه الجزيرة العربية ومصر، وربما حتى شمال أفريقيا.
2. السعي لتكوين قوة عظمى (سوبر باور/ Super Power) : كان لسعي إيران الحثيث لبناء قوة نووية، تتجاوز في مراميها الطاقة والبحوث العلمية والطبية، إلى امتلاك السلاح النووي، وهذا يثير لدى الكيان الصهيوني الهواجس ويزرع المخاوف. و,فق العقيدة النووية للكيان (Nuclear Doctrine) بعدم السماح لبروز قوة تمثل تهديداً وجودياً لهم .
3. بنى الإيرانيون نظريتهم في الهيمنة Political Hegemony والتوسع: أنهم يمتلكون موطئ قدم متفاوت القوة في عدد من بلدان الشرق الأوسط. لذلك شكلوا أذرع لهم في عدد من الأقطار العربية (لبنان، اليمن، العراق، سوريا) من أجل منحهم قيمة إضافية في شؤون الشرق الاوسط,
4. الغزل والتقرب لأطراف دولية أخرى: لاحظ طرفا التحالف (الولايات المتحدة والكيان الصهيوني) أن إيران رغم كونها تقيم تحالفا مع إسرائيل والولايات المتحدة، إلا أنها لا تتواني من التقرب والغزل من أطراف دولية منافية: الصين، روسيا، وتفعل كل ما يخدم سياستها التوسعية
5. الخروج عن روح التحالف ومبادئه الأساسية: أمر قد يحدث بين أمتن الحلفاء، ولكن هذا تكرر في مناسبات عديدة كانت فيها إيران تراعي مصالحها في التوسع، بدرجة تخالف روح التحالف ومبادئه، ويفصح عن نوايا انقلاب على التحالف، وليس خروجاً عابرا عن النص.

الولايات المتحدة تعمل بسياسة النفس الطويل، تمتلك القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية العظمى، ولذلك نجد أن ردود أفعالها تتسم بالهدوء (نسبياً) وقبول أسلوب مماطلة إيران الممل في المفاوضات، ولكن إسرائيل تطوف فوق بحر من الأعداء والخصوم، وتجد في أصغر بادرة/ ما يخيفها ويثير هواجسها، لذلك نلاحظ أن التشدد في الموقف العسكري هو من جانب إسرائيل.
وهي تعتقد أن لها دالة على طهران في موقفها الإيجابي جداً خلال حربها مع العراق.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش
ابتدأ السبي البابلي علي يد الاخمينيين بقيادة الملك كورش عام 597 ق.م، وأنتهي على يد الميديين عام 538 ق.م ، أي أنه استغرق أسر نحو 7000 يهودي، 59 عاماً. ولكن عدد كبير من اليهود فضل البقاء في العراق، وإنتشروا في معظم المدن العراقية من أقصى الشمال، لأقصى الجنوب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

831 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع