قاسم محمد داود
البرلمان العراقي ومصلحة المواطن: تشريعات غائبة وتغيير مؤجل
رغم مرور أكثر من عقدين على تشكيل البرلمان العراقي بعد عام 2003، لا يزال المواطن العراقي يطرح سؤالاً جوهريًا: هل شرّع البرلمان قوانين تصبّ فعليًا في خدمة الشعب؟ والإجابة، للأسف، لا تحمل الكثير من التفاؤل.
فرغم تعاقب 6 دورات برلمانية منذ 2003، وتشكيل العديد من اللجان النيابية المتخصصة، إلا أن المواطن العراقي لم يلمس تحسنًا ملموسًا في أبرز القطاعات الحيوية، مثل الكهرباء، والصحة، والتعليم، والضمان الاجتماعي. بل إنّ الانطباع السائد لدى شريحة واسعة من الشعب هو أن التشريعات التي أُقرّت، غالبًا ما كانت تصب في مصلحة النخب السياسية أو الفئات المقرّبة من السلطة، لا في صلب معاناة الناس اليومية.
أزمة كهرباء مستدامة: منذ سنوات، ورغم إنفاق مليارات الدولارات على قطاع الكهرباء، حيث تشير التقارير الرسمية إلى أن العراق ينفق سنوياً ما يقارب 7 مليارات دولار على قطاع الكهرباء، في حين بلغ مجموع ما أنفق على هذا القطاع منذ 2003 نحو 200 مليار دولار من دون تحقيق تحسن ملموس، أذ لا يزال العراق يعيش في ظلام جزئي. فالمواطن يعاني من ساعات تقنين طويلة، في ظل درجات حرارة خانقة صيفًا، وبرد قارس شتاءً. ورغم وجود قوانين تنظم عمل وزارة الكهرباء، إلا أن غياب رؤية استراتيجية واضحة، وتفشي الفساد في العقود والمشاريع، حالا دون تحقيق أي تطور يُذكر.
صحة متهالكة ونظام هش: أما في القطاع الصحي، فلا تزال المستشفيات تعاني من نقص حاد في التجهيزات والكوادر، ويفتقر العراق إلى بنية تحتية طبية ملائمة تواكب حجم السكان واحتياجاتهم. منذ عام 2003 كان نظام الرعاية الصحية في العراق يعاني من أزمة مستمرة وتدهور مستمر. استمر نظام الرعاية الصحية العام في العراق بالانخفاض منذ ذلك الحين، ولايزال يواجه أزمة مستمرة، مدفوعة بعوامل معقدة ومتعددة الأوجه. إن سوء الإدارة والفساد التنظيمي، ورداءة مستوى الخدمات الصحية، وغياب استراتيجيات الوقاية الفعالة، ونقص الأدوية الميسورة التكلفة، وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، والوصول المحدود إلى الرعاية المتخصصة، وغياب الابتكارات، وغيرها من العوائق عبر قطاعاته المختلفة، هي بعض من القضايا والتحديات الموجودة في النظام. تم تفاقم هذه الأزمة المستمرة؛ بسبب نقص التفكير الاستراتيجي لمواجهة هذه التحديات جنباً الى جنب مع غياب التخطيط الصحي المستدام وطويل الأجل، والسياسات الاقتصادية الصحية غير الكافية، والفساد الواسع الانتشار.
تعليم متراجع... ومستقبل مهدد: التعليم في العراق يعيش واقعًا لا يقل قتامة. امتلك العراق في سبعينيات القرن الماضي نظاما تعليميا كان الأفضل في الشرق الأوسط، بحسب تقارير منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم (يونسكو)، وقدرت نسبة المسجلين في التعليم الابتدائي حينها ما يقارب 100%، وكادت الحكومة أن تقضي على الأمية بشكل تام. ألا أن الحال اليوم يكشف عن مبانٍ متهالكة، نقص في المعلمين، مناهج غير محدثة، وضعف عام في الأداء الأكاديمي. لم ينجح البرلمان في تمرير قانون وطني شامل لإصلاح التعليم، بل اقتصر دوره على بعض التشريعات الهامشية أو المرتبطة بالجامعات الأهلية، بينما التعليم الحكومي يواجه مصيرًا غامضًا. وكشف تقرير سابق نشرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، عن وجود 2.3 ملايين طفل عراقي في سن الدراسة خارج المدارس، وأكد أن "عقوداً من الصراع وغياب الاستثمارات دمرت النظام التعليمي في العراق الذي كان سابقاً يعتبر بين الأفضل في المنطقة، ما أعاق بشدة وصول الأطفال إلى تعليم جيد". وفي حين يعاني العراق من وجود 12 مليون شخص أمّي، فشلت البلاد في الوصول إلى أدنى المراتب في التصنيف العالمي لجودة التعليم في عام 2021، وظلت خارج التصنيف الدولي، بحسب مؤشر مستويات التعليم في العالم الذي نشره المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، والذي اعتبر العراق وسورية واليمن من بين الدول غير المصنّفة بسبب عدم توفر معايير جودة التعليم فيها.
ضمان اجتماعي... على الورق فقط: في بلد يُعاني من نسب بطالة مرتفعة، وتفاوت طبقي صارخ، لم تنجح الحكومات المتعاقبة بدعم من البرلمان في إقرار منظومة شاملة للضمان الاجتماعي. صحيح أن قانون "الضمان الاجتماعي للعمال" أُقرّ مؤخرًا، لكنه ما زال قيد التفعيل، ويشمل فقط شريحة محدودة من العاملين، وسط غياب آليات تطبيق فعالة. أما في مجال الرعاية الاجتماعية فإن الارتفاع المستمر في أعداد المشمولين برواتب الرعاية الاجتماعية يكشف عن عمق الأزمة الاقتصادية في العراق، ويعكس فشل الحكومات المتعاقبة في وضع خطط تنموية حقيقية للحد من البطالة والفقر. أن زيادة أعداد المستفيدين من شبكة الرعاية الاجتماعية ليس مؤشرًا إيجابيًا، بل دليل على تفاقم البطالة وانتشار الفقر في البلاد، كما أن الاعتماد شبه الكامل على واردات النفط لتغطية الرواتب، دون دعم المشاريع الإنتاجية في القطاعين العام والخاص، يكرس أزمة الاقتصاد الاستهلاكي الذي يفتقر إلى صناعة قوية وزراعة مستدامة. ومن المؤكد أن جزءًا كبيرًا من هذه الأزمة يعود إلى الفساد وسوء الإدارة، وضعف الرقابة، ووجود المحسوبية، وتعدد السلطات بين الأجهزة الأمنية والأحزاب والعشائر، الأمر الذي فتح المجال لتجاوزات واسعة في شبكة الحماية الاجتماعية، حيث يحصل العديد من غير المستحقين، بمن فيهم الميسورون، على الرواتب.
لماذا هذا الفشل التشريعي؟
هناك عدة أسباب تُفسر عجز البرلمان العراقي عن أداء دوره التشريعي بالشكل المطلوب:
المحاصصة السياسية: التي تُحكم توزيع المناصب واللجان، وتُخضع مشاريع القوانين للتجاذبات الطائفية والحزبية.
غياب الرؤية الوطنية الموحدة: إذ لا تُبنى التشريعات وفق خطط تنموية طويلة الأمد، بل وفق مصالح فئوية أو انتخابية ضيقة.
ضعف الرقابة والمحاسبة: سواء من الإعلام أو المجتمع المدني، مما يجعل النائب غير خاضع لضغط شعبي مستمر.
هيمنة السلطة التنفيذية: حيث تُبقي العديد من القوانين مجمّدة أو دون تفعيل، حتى بعد إقرارها.
برلمان بلا أثر شعبي. اللافت أن البرلمان العراقي غالبًا ما يُبادر في تشريعات تخص امتيازات النواب أو تسوية أوضاع الكتل، في حين تغيب عنه المبادرات الجدية التي تمس حياة الناس. وقد ولّد هذا الواقع شعورًا عامًا بالإحباط، تُرجم بعزوف واسع عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة، خصوصًا من قبل فئة الشباب، الذين باتوا يرون التغيير خارج الأطر التقليدية.
وفي الختام يبقى السؤال مفتوحًا: هل يستطيع البرلمان العراقي في دوراته المقبلة أن يستعيد ثقة المواطن؟ أم أن الأمل بإصلاح حقيقي سيبقى معلقًا حتى إشعار آخر؟ الإجابة رهن بإرادة سياسية جديدة، تُعيد للعمل التشريعي هدفه النبيل: خدمة المواطن، لا التلاعب بمصيره.
731 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع