د. سعد ناجي جواد
لماذا تثير الحرب في اوكرانيا الشجون العربية.. والعراقية منها بالذات؟ وما هي العبرة المستخلصة؟
اي شخص متوازن، او اي انسان طبيعي، لا يمكن ان يغض الطرف عن الحرب في اوكرانيا، حتى وان جاء تفسيرها على اساس انها وقعت درءا لخطر مصيري اكبر، وخاصة اذا ما كان هذا الشخص او الانسان قد عاش اغلب حياته في ظل حروب كثيرة. ذكريات تلك الايام العجاف كلها عادت في الايام القليلة الماضية، بضمنها العيش اكثر من عقد من الزمن تحت وطأة حصار لا انساني قاتل ولئيم حرم الناس من الغذاء والدواء، بل ومن كل مقومات الحياة البسيطة، ومعها ذكريات قضاء اياما وليالي، وليست ساعات قصيرة، في ركن من اركان المنزل وفي حالة رعب لا يدري متى ستسقط قنبلة او صاروخا من طائرة امريكية او بريطانية، او حتى عربية، على المنزل قد تودي بحياته وحياة عائلته الصغيرة، وبدون كهرباء ولا حتى ماءا صالحا للشرب، لان الطائرات المعتدية قصفت محطات الكهرباء والماء وحتى محطات الصرف الصحي.
واقسى من ذكريات القصف والقتل والتدمير هو تذكر ما كان يصدر من احاديث تحريضية وتصريحات من (معارضين!) للنظام متشفية بالعراق والعراقيين وهم في تلك الحالة المأساوية، فمثلا من يدعي انه (عراقيا) يعلن جذلا وبأعلى صوته ان اصوات القنابل والصواريخ وكل ادوات القتل التي كانت تنهال على بغداد والعراقيين هي اعذب (سمفونية موسيقية) سمعها في حياته، واخرون من شاكلته كانوا يحثون الولايات المتحدة التي كانت تقود قوات التحالف الغاشم (التي بالمناسبة كان من بينها قوات اوكرانية)، على تكثيف القصف والتدمير، وكانوا يصرون على تبرير الجرائم ضد الانسانية التي كانت ترتكب بحق المدنيين الابرياء، بل ويعتبرونها السبيل الوحيد (لتحرير العراق)، وقبل ذلك كانوا يطالبون علنا وبدون خجل او غيرة او اي شعور إنساني بتشديد الحصار على العراقيين الصابرين المحتسبين. او ان يكتب صحفي كويتي بعد احدى جولات القصف الهمجي المكثف على بغداد مقالا يعنونه (اللهم لا تبقي فيها حجرا على حجر)، بينما (نصح) مثقف مصري في حديث اذاعي اثناء الحرب القوات الامريكية بقصف السدود العراقية لكي تغرق البلاد وتستسلم الحكومة، اما على الجانب الامريكي فلقد كانت التصريحات اكثر إستفزازا وايلاما وصلافة، فمثلا شبه رامسفيلد العراقيين بالحشرات وان القصف هو دوائهم الوحيد، وجاهرت مادلين اولبرايت بتصريحها الشهير عندما كانت وزيرة خارجية امريكا والذي قالت فيه ان قتل اكثر من نصف مليون طفل عراقي امر مقبول بل ومبرر، وان الامر سيستمر لان العراق لا زال يمتلك العقول القادرة على تطويره، وهذا امر مرفوض من وجهة نظرها ويسوغ ما ترتكبه بلادها من جرائم.
ومع ذلك فان كل هذه الذكريات المأساوية التي لا تزال تدمع العين حبن تذكرها، لا يمكن بل ولا يجب ان تجرد اي انسان عن انسانيته ويتشفى بما يجري في اوكرانيا، حتى وان كان رئيسها الحالي قد تشفي بمقتل الفلسطينيين، اطفالا ونساءا وشيوخا، اثناء الاعتداءات الاسرائيلية على غزة او اقدامه على وصف الفلسطينيين الضحايا بالإرهابيين، وسارع الى نقل سفارة بلدة الى القدس المحتلة، ولم يكتشف (بدهائه السياسي الكوميدي) ان الفلسطينيين يتعرضون الى جرائم ابادة بشرية على يد قوات الاحتلال الاسرائيلي. ولم يستهجن مشاركة قوات بلاده في حملة احتلال العراق، وبدون وجود اي تفويض من الامم المتحدة او اي دليل على وجود اسلحة دمار شامل، كالتي اختزنتها وكدستها الولايات المتحدة وبريطانية في بلده، او التي تعلن هذه الدول انها سترسل كميات كبيرة اخرى منها الى اوكرانيا كمساعدات عسكرية لكي تديم الحرب الجارية هناك. وان التركيز يجب ان يظل على ايجاد حل سلمي يجنب المدنيين مآسي الحرب.
استرجاع الذكريات المؤلمة يكون اقسى واكثر إيلامًا عندما نسمع قادة اوروبا يطالبون بمحاكمة الرئيس الروسي لانه (يرتكب جرائم ضد الانسانية او جرائم ابادة بشرية)، في حين لم يطالب ايا منهم بمحاكمة بوش الابن وتوني بلير على جرائم الابادة البشرية التي ارتكبوها وخاصة في العراق. او عندما يقول رئيس وزراء بريطانيا ان الهجوم الروسي (بربري و يقتل اطفال)، متناسيا الجرائم والكوارث الانسانية التي ارتكبتها القوات البريطانية الغازية في جنوب العراق وفي البصرة بالذات، وبعض هذه الجرائم استوجبت اجراء محاكمات في بريطانيا نفسها، او عندما يتحدث الرئيس الامريكي ووزير خارجيته والصحافة الامريكية عن (همجية القوات الروسية الغازية)، وتناسوا همجية قوات بلادهم في العراق التي ذهب ضحيتها اكثر من مليون ضحية، وقبلهم حوالي مليوني ضحية نتيجة حصارهم اللاانساني الذي امتد 13 عاما، وثمانين الف جندي عراقي فقط دفنوا احياء في خنادقهم في عام 1991، هذا عدا من قتل من القوات المنسحبة من الكويت، وغيرها كثير. لقد أُجبِرَ العراق على دفع 54 مليار دولار كتعويضات الى الكويت جراء اجتياحه الخاطئ لها، والكل يعلم ان هذه التعويضات قد ضُخِمَت بشكل كبير، ولو كان هناك قضاء دولي عادل، وحكومات عراقية تضع مصلحة العراق نصب عينيها لأجبرت الولايات المتحدة وبريطانيا على دفع اضعاف هذا المبلغ كتعويضات للعراق وللعراقيين. وهذا سيحدث يوما ما في المستقبل لا محالة.
واخيرا، شيء لطيف والتفاتة انسانية جميلة ان تسبق مباريات كرة القدم الانكليزية وقفة تضامنية مع اوكرانيا وضحاياها، ولكن هل تذكر من دعي الى هذه الفعالية وغيرها، ضحايا العراق او سلسلة جرائم الابادة المستمرة التي ترتكبها اسرائيل في فلسطين المحتلة؟ او ما فعلته اميركا لوحدها او بالتحالف مع بريطانيا، في افغانستان وسوريا وليبيا؟ وقبل ذلك في فيتنام وكوريا والفلبين ولاوس وكمبوديا؟ وغيرها من الدول التي استهدفها القصف الامريكي مثل السودان والصومال واليمن؟ من وجهة نظر شخصية لا اعتقد ان من ينظم ويدعوا الى هذه الفعاليات المستنكرة لما يجري في اوكرانيا بغافل عن اوجه التشابه الكبيرة بينها وبين تلك التي ترتكب او ارتكبت في الشرق الاوسط واسيا وافريقيا. لكن الحقيقة المؤلمة والعارية والواضحة تبقى هي تلك التي صدرت عن مراسل قناة CBS الامريكية، حبن قال ان هناك فرق بين قتل العربي والمسلم ومعهم الافريقي والاسيوي، وبين قتل (الاوربي الابيض المتحضر) او تعجب غيره من الصحفيين من ان يطال القتل الانسان (الاشقر صاحب العيون الزرقاء). الجرائم الاولى تبقى مقبولة ومبررة، بل ومطلوبة حسب الفكر الاستعماري الغربي، اما ان تستهدف الانسان الابيض فهذا امر (مرفوض ومستهجن) ويجب ان يهاجم بعنف من قبل الصحفيين والاعلاميين والساسة والمنظمات الدولية التي انشأوها. وهذه الحقيقة هي ليست بالجديدة او المستحدثة.
فلقد ظهرت منذ ان بدأت اوروبا وبعدها الولايات المتحدة التخطيط لاستعمار واستعباد شعوب العالم الثالث، وكان اول نماذجها تجارة الرقيق التي افتخرت (الحضارة الاوربية) بروادها واقامت لهم نصبا تذكارية، وكانت حاضرة في اذهان من وضع مخططات احتلال الدول بعد الحرب العالمية الاولى، واكدها تصريح رئيس وزراء بريطانيا الاسبق ونستون تشرشل الشهير في برلمان بلاده ردا على لومه لانه امر باستخدام الاسلحة الكيمياوية ضد الثوار العراقيين الذين دحروا جيشه في احدى المعارك عام 1916، حيث عنف مستجوبيه بل وتعجب من تفكيرهم في محاسبته على استخدام ذلك السلاح ضد اشخاص لا يصلون الى مستوى البشر من وجهة نظره الاستعمارية. والامثلة الجديدة على هذا التفكير ظهرت في تصريحات رامسفيلد ومادلين اولبرايت. هذه هي حقيقة التفكير العنصري والشوفيني والديني المتطرف الذي يغلب على تفكير النخب الحاكمة في اوروبا والولايات المتحدة ومالكي الاجهزة الاعلامية فيها مهما بلغت تلك الاجهزة من تطور. في احدث لقاء لصحفية بريطانية مع وزير خارجية روسيا لافروف قالت له بحدة وانفعال شديدين ارجو ان تنظر لي مباشرة وتجيبني كيف لك ان تنام الليل وجيش بلادك يقتل الاطفال؟ وتساءلت مع نفسي يا حبذا لو ذهبت وسالت جورج بوش وبلير والبرايت هذا السؤال؟ هذه هي حقيقة الاعلام الغربي الذي اعتاد الكيل بمكيالين.
ولكن اللوم لا يقع على هؤلاء، بل اللوم كل اللوم والعتب كل العتب على اولئك الساسة والكتاب والمفكرين العرب والاسيويين والافارقة الذين كانوا ولا يزالون يؤمنون بان دول الاستعمار القديم والجديد هي منقذهم الوحيد. نعم كان مارتن لوثر كينغ المناضل الامريكي مصيبا عندما قال (لا يستطيع احد ركوب ظهرك الا اذا كنت منحنيا). وصدق عز من قائل:
(إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم).
2704 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع