قصة قصيرة - فرصة ثانية / الجزء الاول

                                                 

                          بقلم أحمد فخري

قصة قصيرة - فرصة ثانية /الجزء الاول 

استيقظت سهام في الصباح الباكر كعادتها ودخلت غرفة ابنتها فاتن وراحت تمسد على شعرها كي توقظها بكل حنان. فتحت الطفلة عينيها وابتسمت للشكل البشوش الذي اعتادت ان تراه دائماً في الصباح الباكر، انه وجه امها المبتسم الجميل. كانت سهام كاي ام في هذه الدنيا تحب ابنتها حباً جماً وتعتني بها كثيراً ولا تسمح لاي مخلوق ان يصيبها بأي مكروه. والطفلة كذلك تحب ابويها كثيراً لكن عشقها لامها كان غير محدوداً. ربما هي الطفلة الوحيدة في العالم التي تمنح سرها لوالدتها بكل شيء مهما كان معيباً او مخجلاً لانها تعلم تماماً ان امها سوف تسرع لنجدتها بالفعل و بالنصائح مهما كلف الامر. هي ايضاً تحب اباها لانه ابٌ محبٌ حنونٌ يعطف عليها ويلبي جميع طلباتها ولكن لو خيروها بين الاثنين لاختارت امها بالطبع. فالأم عادة ما تكون اقرب الى قلب ابنتها من اباها. المحزن في الامر لتلك الطفلة هو الخلاف الذي وقع بين والديها وشجارهما المتواصل الغير منقطع حول امور تافهة لا قيمة لها، مما ادى بآخر المطاف الى الطلاق. السؤال الذي كان يطرحانه دائماً: من الذي سيفوز بفاتن؟ وكأن فاتن كأساً ذهبياً او قطعة حلوى او جهازاً كهربائياً او قطعة اثاث بالبيت. في ذلك الصباح المشؤوم غيرت الطفلة ملابسها واخبرتها باستعدادها للذهاب الى المحكمة كي يحضرا جلسة البت بقضية الوصاية. أدخلتْ سهام ابنتها بالسيارة وراحت تقودها الى المحكمة الشرعية بالكرادة في بغداد. كانت فاتن تشعر وكأنها تقاد للاعدام فهي لا تريد لوالديها الانفصال لكن الوفاق بين الاثنين اصبح مستحيلاً الآن. وبالرغم من صغر سنها الا انها كانت تزن الامور بشكل منطقي سليم وتعلم انهما سينفصلان بكل الاحوال. دخل الجميع الى المحكمة فنادى الحاجب طرفي النزاع لتتقدم سهام بصحبة محاميها ثم يدخل زوجها جمال بمفرده فسأله القاضي،

القاضي : هل لديك من يمثلك بالقضية؟
جمال : كلا سيادة القاضي، انا ساتولى الدفاع عن نفسي.
القاضي : حسناً دعنا نبدأ على بركة الله.
لم تستغرق مداولات المحكمة سوى نصف ساعة حتى اتخذ القاضي حكمه القاطع بمنح الوصاية للأب لان القانون يؤمن الوصاية له بموجب عمر الطفلة الذي اجتاز الـ 7 سنوات. لكن محامي الام التمس من القاضي ان تبقى الطفلة ببيت امها مؤقتاً حتى نهاية السنة الدراسية التي كانت على الابواب قبل نقلها من مدرستها من الكرادة الى المدرسة الجديدة بمنطقة الكاظمية حيث يسكن والدها. وبموافقة جميع الاطراف اصدر القاضي حكماً ببقاء فاتن مع والدتها بصورة مؤقتة حتى نهاية شهر حزيران حين تنتقل بعدها الى منزل والدها المحامي جمال عبد الامير بالكاظمية.
بالنسبة لفاتن فقد كان تلقّي الدروس امراً في غاية الصعوبة لان تفكيرها كان مشتتاً ومضطرباً دائماً يحوم حول الفراق المرتقب الذي سيحل بينها وبين امها لكن امها كانت تطمئنها وتقول انها ستلتقيها كثيراً وانها ستأتي لزيارتها كلما كان لديها عطلة مدرسية. بقيت هذه الحالة من القلق حتى قرب يوم الرحيل. بتلك الليلة راحت سهام تسدي النصائح لابنتها عندما قالت،
سهام : حاولي يا ابنتي ان تطيعي والدك وان لا تجادليه بكل كبيرة وصغيرة. اريدك ان تنامي كما تعودت مع الساعة الثامنة مساءاً، لا تأخير ولا مسلسلات حتى لو كانت بالعطلة الصيفية. اعتني بملابسك وهندامك ولا ترتدي الملابس المتسخة. اعطيها للخالة ام معروف فهي المسؤولة عن غسل الملابس. اريدك ان تحرصي على تناول حبات الـ B12 والفيتامين C. واذا شعرت بالاعياء فعليك ان تخبري اي شخص راشد، لا تجهدي نفسكِ. تذكري ان فقر الدم لديك يجب ان تاخذيه بكثيرٍ من الجد والحذر. في المدرسة الجديدة اخبري مدرساتك بحالتك الصحية حينما تشعرين بالدوار او الاعياء.
فاتن : اجل، اجل، فهمت يا امي اعرف كل ذلك. انا ساكون ببغداد ولن اهاجر الى امريكا. اطمئني يا امي. ساكون على اتصال دائم معك.
سهام : لا تجزعي من كلامي يا حبيبتي فالمدرسين والمدرسات بمدرستك القديمة كانوا يعرفون ماذا يفعلون وكيف سيتصرفون عندما تنتابك النوبات لكن مدرسي المدرسة الجديدة التي سجلك فيها والدك لا زالوا لا يعرفون شيئاً وعليك ان تخبريهم بانك تعانين من فقر الدم الحاد. يجب ان يلاحظوا الاعراض عليك، وانت تعرفينها جيداً مثل التعب وضيق التنفس والخفقان الغير منتظم وشحب الوجه والاورام الكثيرة وتهيجات الجلد والصداع وارتفاع الحرارة.
فاتن : قلت لك يا امي اعاهدك انني ساخبرهم بكل شيء. لا تقلقي وحسب.
سهام : ومع ذلك، فانا ساطلب من والدك ان يخبر المدرسين هناك بحالتك.
باليوم التالي وصل المحامي جمال والد فاتن الى باب المنزل وصار يطلق العنان لبوق سيارته كي يعلن عن نصره في الفوز بابنته وانتشالها من احضان والدتها. خرجت سهام واعطته اشارة بيدها كي يصبر قليلاً الا انه لم يتوقف عن اصدار تلك الاصوات الفظة المزعجة فتركته وعادت لتهيء ابنتها ثم خرجتا من البيت. كانت سهام تجر ورائها حقيبتين كبيرتين تسيران على عجلات بينما ارتدت فاتن ملابس صيفية خفيفة فنزل والدها وقبلها ثم فتح لها الباب الخلفي وراح يربط لها حزام الامان بينما همّت سهام بوضع الحقائب في الصندوق الخلفي للسيارة. اغلق جمال الباب على ابنته وراح صوب طليقته فقالت له،
سهام : هل عجبك هذا الحال؟ ستتفكك العائلة وتتشتت اوصالها؟
جمال : انتِ السبب. لقد اوصلت الامور الى تلك الحالة بعنادك وانفتك الغبية واليوم تدفعين الثمن.
سهام : ليس هناك داعٍ كي نكمل سمفونيتنا المعهودة. ارجوك انتبه لفاتن وكن على اتصال دائم بمدرّساتها.
جمال : لقد سبق وان تحدثت معهن جميعاً. كذلك اعطيت الارشادات اللازمة لام معروف كي تعطيها الدواء بالوقت المحدد لا تقلقي.
سهام : اتصل بي وقتما تشاء إن اردت معرفة اي شيء عن اي شيء بخصوص فاتن.
جمال : سافعل ذلك. وداعاً.
سهام : الله معكما.
جلست فاتن بسيارة والدها على المقعد الخلفي وبقيت تنظر الى الوراء مودعة امها التي راحت تذرف الدموع وهي تشير الى ابنتها وترمي لها القبل. حتى بعد ان توارت السيارة واختفت تماماً، ظلت سهام تنظر الى الشارع علهم يرجعون فيقول زوجها بانه نادم على ما فعل وانه سيعيد ابنته الى احضانها، الا ان ذلك لم يحصل. ولما استجمعت نفسها بعد وقت قصير لاحظت وقوفها بمنتصف الشارع امراً غير مجدٍ، عادت ودخلت بيتها. لم تكن تعلم ماذا ستفعل لاسترجاع ابنتها فقرار المحكمة كان واضحاً وصريحاً، عليها ان تقضي بقية عمرها وهي بعيدة عن ابنتها حتى تبلغ سن الرشد. يا الهي كم من سنة ستنتظر حتى تعود فاتن لاحضانها؟. في ذلك اليوم لم تتمكن من الذهاب الى المدرسة الابتدائية التي تعمل بها كمدرسة للغة الانكليزية. والايام التالية كذلك بقي الامر على حاله لديها، تجلس في الدار تنظر الى الباب تترقب دخول ابنتها عليها باي لحظة. لكن ذلك لم يقع. كانت تنام في الصالون على الاريكة. لا ترغب بنوم مريح هانئ في غرفتها وعلى سريرها الوثير كي لا تشعر بالسعادة لان السعادة قد غادرتها مع مغادرة فاتن البيت. بقيت على حالها المزري هذا حتى سمعت جرس الباب يرن بالحاح فادركت ان عليها النهوظ واستكشاف الامر علّه يكون زوجها جمال جاء ليتراجع عن موقفه المتشدد ويعلن عن استسلامه للامر الواقع فيُرجع فاتن اليها. جرجرت قدميها وذهبت لتفتح الباب واذا بصديقتها امل تقول لها،
امل : افتحي الباب يا سهام انا امل.
فتحت سهام عينيها بصعوبة ونظرت الى صديقتها وزميلتها في العمل قالت،
سهام : امل؟ اهذا انت؟ ماذا تفعلين هنا؟
امل : هل ستتركينني واقفة خلف الباب؟
سهام : انا آسفة أمّولة، تفضلي، تفضلي.
دخلت امل ونظرت الى صاحبتها وتفحصتها بدقة ثم قالت،
امل : الجميع بالمدرسة يتسائل، هل انت على قيد الحياة؟ ما الذي فعل بك هكذا؟ لماذا لم تأتي الى المدرسة؟
سهام : اليست الآن بداية العطلة الصيفية؟ فلماذا احظر؟
امل : الم تسمعي بالتحضيرات لامتحانات الدور الثاني؟ هل هذا غريب عليكِ؟ لقد سأل عنكِ الجميع. حتى المدير سألني عنكِ فشرحت له حالتك وفقدانك لابنتك فاتن فقال انه متعاطف جداً معك لكن المدرسة اهلية ولا يمكنها ان تصبر اكثر، وعليكِ ان ترجعي للعمل والا فإن المدرسة ستضطر لفصلك. اهذا ما تريدين يا سهام؟
سهام : يا امل انا لم يعد يهمني شيئاً بهذه الدنيا، ففقدان ابنتي لذلك الوغد جمال قد آلمني كثيراً وادخلني بحزن عميق.
امل : لكن الامر ليس جديداً حبيبتي. الطلاق تم منذ فترة طويلة، والقاضي حكم بحضانة فاتن لوالدها لكنها بقيت معك حتى العطلة. فلماذا انت متأثرة الآن. انه امر واقع عزيزتي ويجب ان تتقبليه.
سهام : وكيف اتقبل فراق ابنتي؟
امل : اسمعي مني، الامر سوف لن يستمر هكذا ابداً. سوف تستمر الحياة وستعود لك ابنتك عندما تبلغ سن الثامنة عشر صدقيني.
سهام : وسانحرم منها كل هذه الفترة؟
امل : يجب عليك الآن ان تستجمعي نفسك وتدخلي الحمام لتنعمي بدوش بارد ثم ترتدي ملابسك وتأتي معي كي نذهب الى المدرسة. لقد وعدت للمدير انني لن ارجع الا وانت معي.
سهام : لا، لا، اتركيني بحالي يا امل ارجوكِ. انا لا استطيع الذهاب معكِ، انا بحالة نفسية محبطة.
امل : عزيزتي، سوف تُطردين من العمل. كيف ستعيشين؟ وكيف ستتمكنين من استضافة فاتن إذا زارتك؟ الا تريدين ان تعملي لها كل الاطعمة اللذيذة التي تحبها؟ حسنا انا اعرف ان بيتك هو ملك لك لكن يجب عليك ان تكسبي المال كي تدفعي قوائم الماء والكهرباء وغيرها.
سهام : لا اقوى على فعل اي شيء الآن. اعتذري لي من السيد المدير واخبريه انني ساحضر للمدرسة عندما تتحسن حالتي.
امل : لا اريد ان اضغط عليك اكثر ولكن، يجب عليك ان تغيري من حالتك وان تتقبلي الواقع. فالحياة تستمر مهما وقعنا بمصائب ومشاكل. والحمد لله فمصيبتك تهون امام مصائب الغير. ابنتك لدى والدها الذي يحبها والذي سيعتني بها كثيراً. سوف تريها عاجلاً ام آجلاً، لذلك عليكِ ان تتمالكي نفسكي وان تمسكي بملجم الفرس فترتبي امورك كي تتمكني من مواصلة الحياة.
سهام : شكراً لك على نصائحكِ. ربما انت على حق وربما سوف اتمكن من استجماع نفسي ولكن ليس الآن. وإذا اراد المدير ان يطردني فانا راضية. لا تحزني من اجلي ارجوك يا امل.
امل : إذاً يجب ان ارحل الآن. ارجوكِ فكري بما قلته لك وحاولي اكثر. اتفقنا؟
سهام : اتفقنا يا عزيزتي اتفقنا.
ودعت سهام صاحبتها وعادت الى الصالة لتجلس على الاريكة وتنظر الى الارض. بقيت جالسة لبضع ساعات. فجأة شعرت بشيئ يدب على ساقها. قفزت واقفةً ونظرت فرأت نملة تسير على ساقها. ابعدتها بيدها ونظرت الى الارض لترى خطاً طويلاً من النمل يسير تحت الاريكة. هالها ما رأت وعلمت انها يجب ان تعمل شيئاً. شمرت عن ساعديها وذهبت للحمام كي تحضر سطلاً فيه ماء ساخن والكثير من المنظفات والمعقمات، بدأت تمسح ارض الصالة ثم تبعتها بباقي حجرات البيت من الاعلى الى الاسفل. صار البيت كله يفوح بروائح المنظفات والمعقمات والمعطرات. شعرت شعوراً طيباً وقالت، آن الاوان ان اخذ حمامي. دخلت واستحمت ثم خرجت لتضع العطور على جسدها الواهن فغمرها شعور بالانتعاش. جلست بالصالون تستمتع بالاجواء التي اضفت عليه من جراء عملية التنظيف المكثفة. لكنها لا تزال تعتقد انها غير مستعدة للعمل ثانية. فموافقتها العمل بمدرسة ابتدائية كان شاقاً عليها بالبداية لعلمها انها خريجة كلية آداب فرع اللغة الانكليزية لكن شحة الوظائف اجبرتها على العمل بمدرسة ابتدائية.
بعد مرور اسبوعين جائتها صاحبتها امل مرة ثانيةً واخبرتها ان المدرسة قد انهت خدماتها. لم يفاجئها ذلك القرار بل نظرت اليه على انه شيء عادي جداً. كانت تتعامل مع الامر وكأنها تريد ان تعاقب نفسها كي يكون حزنها على فقدان ابنتها مبرراً. حتى لو انها افلست ولم تتمكن من دفع القوائم وحتى لو انها جاعت فما الذي سيتغير؟ انها في بئر غائر لا مخرج منه ابداً. فجأة استفاقت من غفلتها على صوت صديقتها إذ قالت،
امل : والآن ماذا ستعملين؟
سهام : ساطبخ وجبة الغداء. هل تريدين ان تساعديني؟
امل : اجل، هيا نطبخ سوياً.
دخلت الصديقتان المطبخ ففتحت امل الثلاجة لتصدر منها رائحة كريهة. جميع المواد الغذائية قد تعفنت ولم يبقى فيها شيء يؤكل. رمقت صاحبتها نظرة حزينة وقالت،
امل : اذهبِ انت واجلسِ في الصالة. سانظف الثلاجة ثم نخرج الى السوق لنشتري بعض اللحوم والخضار.
امسكت امل بالخرقة والمنظفات وراحت تخرج المواد من الثلاجة حتى افرغتها تماماً ثم صارت تغمرها بالمنظفات الى ان اصبحت تشع بياضاً وكأنها جديدة. ارجعت مواد التنظيف الى مكانها ثم دخلت الصالون وقالت،
امل : هيا يا سهام تعالي معي للسوق.
سهام : إذهبي انت فانا لا اقوى على المشي.
امل : بل ستأتين معي رضيتِ ام ابيتِ.
ذهبت السيدتان الى السوق وصاروا يتبضعون جميع انواع اللحوم والدواجن والخضار الطازجة حتى امتلأت ايديهما بالاكياس فرجعوا وصاروا يطبخون الطعام ويضحكون على كل صغيرة وكبيرة. كانت تلك الزيارة بمثابة مرهم باعث بالامل على الآلام التي حرمتها من ابنتها فصارت اكثر تحملاً لفراقها.
في الايام التالية استجمعت سهام قواها وذهبت الى المدرسة كي تتحدث مع المدير علّه يرجعها الى عملها. الا ان المدير اصر على عدم ارجاعها وتحجج بضعف الميزانية لذلك العام. رجعت من المدرسة وهي محبطة حزينة فاتصلت بها صديقتها المقربة امل واخبرتها بانها ستزورها بعد الظهر. في تمام الساعة الخامسة مساءاً حين كانت حرارة الجو مرتفعة جداً سمعت سهام رنين الجرس ففتحت الباب واستدعت صاحبتها امل ليجلسا في المطبخ لان بيت سهام اصبح خالياً من كل وسائل التبريد ما عدى مروحة سقفية واحدة بالمطبخ تعمل بسرعة واحدة فقط. جلست السيدتان على الارض ورحن يتحدثن بامور كثيرة حتى اخبرتها سهام انها تمكنت من رؤية ابنتها فاتن بالامس وانها خرجت معها كي يتمشيا بالكرادة بمساء ذلك اليوم لكنها خجلت من ابنتها لانها لم تتمكن من تلبية طلبها عندما ارادت شراء المثلجات لان ميزانيتها اصبحت تحوم حول الصفر. فقامت امل باعطائها بعض المال. بالرغم من انها رفضت بالبداية لكن امل اقنعتها كي تتقبل مساعدتها. خرجت السيدتان كي يتمشيا باحدى المجمعات التجارية حتى يتنعما بالتككيف هناك ثم رجعتا الى منزل سهام. وبينما هي تدخل المفتاح بالباب سمعت هاتفها الارضي يرن بالحاح. دخلت البيت مسرعة ورفعت السماعة لتسمع صوت امرأة تقول،
امرأة : اريد التحدث مع والدة الطفلة فاتن.
سهام : انا والدة فاتن، تفضلي.
امرأة : انا اسمي ام معروف.
سهام : هل هناك شيء؟ هل فاتن بخير؟
ام معروف : انا آسفة سيدتي، اصيبت فاتن بحالة اغماء ونقلتها بنفسي الى المشفى.
سهام : باي مشفى هي؟
ام معروف : اسمها مستشفى الكاظمية الخاصة.
سهام : ما هو العنوان؟
ام معروف : انها بشارع النواب.
سهام : ساتي فوراً.
اغلقت الخط مع ام معروف وكانت ترتعش. نظرت الى امل وقالت،
سهام : لقد اغمي على فاتن فنقلوها للمشفى. ساذهب انا الى هناك.
امل : انا آتية معك.
خرجت سهام مسرعة الى الشارع تتبعها صديقتها امل. اشارت لسيارة اجرة فركبوها وطلبت من السائق ان يأخذهما لمستشفى الكاظمية الخاصة. كانت السيارة تسير ببطئ شديد بسبب زحمة السير فطلبت سهام من السائق ان يزيد من سرعته الا انه اعتذر واخبرها انه لا يتمكن من تجاوز الزحام ولان المشفى في الصوب الثاني من النهر. وبعد مرور ساعة ونصف وصلوا الى المشفى فدخلت السيدتان تهرولان لتسأل الاستعلامات عن الطوارئ، ادلها الرجل فدخلت الردهة تجري كالمجنونة حتى التقت باحدى الممرضات. سألتها عن ابنتها قالت انها في ردهة العناية المركزة. اقتحمت الغرفة رغم ممانعة الممرضات والاطباء فوجدت ابنتها راقدة على السرير وقد رُكّبت الانابيب والكمامة والاسلاك على وجهها وايديها. يخرج من زندها انبوب يصعد لكيس يحتوي على مصل سائل. والطفلة مغمضة عينيها. راحت تقبلها وتمسح على رأسها وتتحدث اليها لكن الطفلة كانت غائبة عن الوعي. اقدم الطبيب نحوها، امسك بكتفها وبكل لطف، طبطب عليها وسحبها الى عنده كي تقف وتترك ابنتها. اخرجها الى خارج الغرفة وقال،
الطبيب : ابنتك فاقدة للوعي الآن، يجب علينا ان نتدارك الامر.
سهام : ارجوك يا دكتور اصدقني القول، هل ستشفى ابنتي من هذ الحالة؟
الطبيب : لا نعرف بعد سيدتي، لقد جائوا بها متأخرين جداً. لكننا سنعمل كل ما بوسعنا كي نعيدها لوعيها لانها قد تدخل بالغيبوبة (كوما) وقد لا نستطيع انقاذها. الـ 24 ساعة القادمة ستكون الفاصلة في مهمتنا. ستبقى بالعناية المركزة وتحت المراقبة على مدار الساعة حفاظاً منا على اي تطورات او نوبات جديدة قد تتعرض لها.
سهام : هل ستنجو ابنتي يا دكتور؟
الطبيب : لا نعلم بعد. دعنا نكون متفائلين ونترك الباقي على الله.
خرجت سهام من غرفة العناية المركزة الى الردهة فرأت من بعيد طليقها جمال قادماً من آخر الممر فركضت نحوه وهي مستائة جداً وصرخت بوجهه،
سهام : اهذا ما اردت؟ هل فرحت الآن لانك انتصرت؟ اخذتها مني كي تقتلها؟ تركتها بيد انسانة غريبة فاهملتها لتصيبها بهذه النوبة القاتلة. انت مجرم يا محامي انت مجرم يا حامي القانون. لماذا فعلت ذلك يا ظالم؟ لماذا اخذتها مني وقد كنت ساسقيها من دموعي وحبي وحناني؟ لو ماتت ابنتي فساموت انا ورائها الا تعلم ذلك؟ ولكن ماذا ستقول؟ ماذا ستجيبني يا قاتل؟
لم ينطق بكلمة واحدة، ربما لانه يعلم ان كل ما قالته طليقته كان صواباً. يعلم انه اقترف ذنباً كبيراً بحق ابنته. ادار رأسه بعيداً وصار يجهش بالبكاء وبصوت مرتفع. بقيت توبخه وتحمّله كل اللوم بينما وقفت المربية ام معروف بعيداً تبكي هي الاخرى. اقتربت منها صديقتها امل واخذتها بعيداً لتسقيها بعض الماء من قنينة بلاستيكية واجلستها على اريكة خشبية بائسة بالممر. بقي الجميع في حالة توتر قصوى حتى ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم حينما شاهدوا الطبيب والممرضات يركضون باتجاه غرفة العناية المركزة. حاولت ان تتبعهم سهام الا ان الممرضات منعوها من الدخول. بقيت خارج الغرفة وهي تقرأ سور القرآن وتدعو من الله ان يشفي ابنتها وان لا يأخذها الى عنده. وبعد مرور ساعتين بالضبط خرج الطبيب وعلى وجهه علامات الحزن واليأس قال،
الطبيب : لقد عملنا ما بوسعنا لكن الله شاء. البقاء لله. تقبلوا تعازيي.
صرخت سهام قائلةً، "لا لا لا مســــــــــتحيل لا يمكن ان تموت ابنتي، ابنتي لن تموت. صار الاب يبكي بحرارة وجلس القرفصاء بينما احتضنت امل صاحبتها وصرن يصرخن ويبكين بحرارة. بقيت امل مع سهام حتى قام الاب بالتوقيع على اجرائات اخراج الجثة لدفنها. كانت سهام وكأنها شبح انصبغ بالسواد من الاعلى للاسفل.
باليوم التالي دفنت جثة الطفلة فاتن في مقبرة الشيخ عمر بعد اصرار كبير من والدتها. مما جعل والدها جمال يذعن لمطالب الام، فبقيت سهام بذلك اليوم تجلس بجانب القبر وتبكي بكاءاً مرّاً. ولما اقبل الليل امسكت بها صاحبتها المخلصة امل واقتادتها الى منزلها في الكرخ حيث كانت تعتني بها وتهون عليها وجع الفراق الجلل. بقيت سهام ببيت صديقتها امل بضعة ايام حتى بدأت حالتها تتحسن شيئاً فشيئاً وصارت تأكل الطعام وتتحدث ولو باقتضاب الا انها كانت تتفاعل مع امل بشكل ميكانيكي وكأنها روبوت. كانت تبقى بالبيت بينما تذهب صاحبتها للعمل. فتُعِد لها الطعام حتى ترجع ويتناولن الطعام سوياً. لقد حاولت امل جاهدةً تشتيت حزن سهام كي تتمكن من مواصلة الحياة الا انها لم تحرز تقدماً بالقدر المطلوب لان ذكرى ابنتها كان حاضراً بشكل دائم ولم تتمكن من تبديده ولو لفترة وجيزة. استيقضت باحدى الايام صباحاً وقالت لامل،
سهام : حبيبتي امل، لقد قررت ان اعود الى منزلي اليوم.
امل : كيف ستفعلين ذلك؟ انت لا تملكين المال فكيف ستصرفين على نفسك؟
سهام : ساتدبر امري، لا تقلقي من اجلي.
امل : هذا مستحيل. يجب ان اعرف كيف ستسير امورك. بيتك مهجور وليس به كهرباء لانك لم تدفعي الفاتورة لشهرين. كيف ستجلسين بالبيت وحدك؟
سهام : ساقترض بعض المال منك كي ادفع فاتورة الكهرباء وابقى بالبيت حتى اتمكن من بيعه.
امل : لو فرضنا انك بعتيه، اين ستسكنين بعد ذلك؟ هل ستشترين شقة صغيرة تسكنين بها؟
سهام : كلا، لقد قررت ان اهاجر. قررت ان اترك العراق.
امل : هل هذا كلام منطقي يا سهام؟ انتِ لستِ اول ام فقدت ابنتها. ليس كل من فقد اولاده هاجر من العراق.
سهام : لماذا تريديني ان ابقى؟ كي تنهي المدرسة خدماتي وترميني كالكلاب بعد ان عملت معهم سنين طويلة؟ ام تريديني ان اكون عرضة لتنمرات المليشات التي انتشرت بكل حدب وصوب بكامل تراب العراق. يريدونا ان نصبح عبيداً لايران وان ننسى ان هناك كان بلد اسمه العراق. ماذا ساعمل هنا بهذا البلد الذي سُلب منه كل شيء؟ لم يبقى للناس المثقفين مثلنا عيش مع تلك الحثالة الجاهلة. يأتون بانسان متخلف جاهل يجعلون منه قائداً لهم فيفكر لهم ويقودهم كقطيع من الاغنام. لا يا عزيزتي لا، ساترك الجمل بما حمل واغادر وكما تقول الابيات: من البصرة طلعت ولاعود*** ومبجيبي ݘگارة ولاعود***وماريد اسمع كمنجة ولاعود.
امل : فكري بالامر جيداً يا حبيبتي، مغادرة الوطن ليس امراً سهلاً.
سهام : وماذا ساخسر ها؟ لقد خسرت زوجي وخسرت ابنتي وخسرت وظيفتي فماذا ساخسر بعدها؟
امل : على العموم، ارجو ان تعيدي النظر بالموضوع فهو امر ليس هيّن. هل فكرتِ اين ستستقرين؟
سهام : سابيع بيتي وساشتري لي شقة صغيرة بسامسون.
امل : اتقصدين سامسون بتركيا؟
سهام : اجل، اغلب العراقيين يذهبون الى هناك ويستقرون بها لرخص العقارات فيها.
امل : وكم تعتقدين سيجلب لك منزلك بالكرادة؟
سهام : لقد عَرَضَ عليّ احد المغتربين العائدين 90 دفتراً. لكنني طلبت 100 دفتر والمباحثات مازالت جارية.
امل : انت اعلم بامورك يا عزيزتي. ولو انني سافتقدك كثيراً.
سهام : بالعكس سوف تقضين جميع اجازاتك عندي بتركيا.
امل : اتمنى ذلك.
رجعت سهام الى منزلها بالكرادة ودفعت الفواتير كي تتمكن من العيش فيه مجدداً ثم صارت تتفاوض مع المشتري الا انه لم يوافق على زيادة عرضه لذا فشلت الصفقة. بقيت ببيتها لفترة 3 اشهر حتى جائتها عائلة كانت تسكن بكندا وقد تنعمت بقانون رفحة لسنين طويلة. وافق الطرفان على مبلغ نهائي وصل الى 95 دفتراً اي اقل من مليون دولار بقليل. فور تحويل البيت باسم المشتري الجديد تسلمت سهام المبلغ كاملاً وقامت بتسديد كل الديون التي كانت بذمتها لصاحبتها امل. وهنا سألتها امل،
امل : هل حصلت على تأشيرة تركيا؟
سهام : سأذهب اليوم الى القنصلية.
امل : دعيني اذهب معك.
سهام : هيا إذاً لنذهب سوياً.
خرجت السيدتان في الصباح الباكر قاصدين القنصلية التركية. دخلتا مبنى القنصلية وسألت سهام عن موظف التقديم على التأشيرات فادلها على السيدة فتنت في الطابق الاول. صعدت المرأتان الى الطابق الاول، طرقت سهام الباب على مكتب السيدة فتنت، اذنت لها فدخلت وحدها بينما بقيت امل واقفة خارج الغرفة.
سهام : السلام عليكم سيدة فتنت.
فتنت : وعليكم السلام، كيف استطيع مساعدتكِ.
سهام : لوسمحت سيدتي اريد تأشيرة تركيا.
فتنت : انا آسفة جداً لقد اوقف السيد السفير التأشيرات لفترة غير معلومة إلا للحالات الخاصة الاستثنائية.
سهام : حسناً سيدتي شكراً وطاب يومك.
خرجت سهام من المكتب وهي في غاية الحزن. سألتها صاحبتها عن النتيجة فاخبرتها ان السفير قد امر بتوقيف التأشيرات لفترة غير معلومة الا للحالات الخاصة الاستثنائية. نظرت امل لصاحبتها وقالت، "انتظري هنا".
دخلت امل على مكتب فتنت وتحدثت معها ثم خرجت الى سهام وقالت،
امل : اعطني جواز سفرك يا سهام.
سهام : مستحيل! هل وافقت؟ هل تمكنت من اقناعها؟
امل : اعطني الجواز الآن وساخبرك كيف اقنعتها.
دخلت امل ثانية الى مكتب فتنت حاملة الجواز بيدها فوضعت عليه التأشيرة وخرجت الى صاحبتها سهام وقالت،
امل : ستسافرين الى تركيا حبيبتي، خذي جوازك.
سهام : اخبريني كيف تمكنت من اقناعها؟
امل : قلت لها انك تعانين من ازمة نفسية كبيرة بسبب حزنك على وفاة ابنتك وانك تريدين السفر الى تركيا كي تتحسن نفسيتك.
سهام : انت فعلاً ذكية. على العموم حمداً لله لقد حلينا مشكلة التأشيرة.
باليوم التالي حجزت سهام على رحلة من بغداد الى اسطنبول. وفي يوم السفر خرجت الصديقتان الى مطار بغداد. بالطريق الى المطار كانت الصديقتان تشعران بالم الفراق الذي سيحل عليهما. فبالنسبة لسهام تعتبر امل هي الصديقة والاخت والقريبة الوحيدة لها. اما امل فتشعر وكأنها قد اصبحت يتيمة من جديد.
امل : هل ستفتحين هاتفك كي اتواصل معك على الواتساپ؟
سهام : بالتأكيد عزيزتي فانا ليس لي احدٌ بهذه الدنيا سواكِ. ساتصل بكِ فور حصولي على واي فاي. وسأبعث لك الصور من هناك.
امل : إذا وجدت شاباً وسيماً فتذكريني. بالحقيقة حتى لو لم يكن وسيماً فانا بحاجة الى اي شيء يشبه الرجل، طالما ان لديه...
ضحكت الصديقتان واحتضنتا بعضهما البعض.
سهام : بالطبع يا عزيزتي. ساضع الرجل بظرف وسارسله بالبريد المستعجل.
امل : ليس لدينا بريد بالعراق. ابعثيه على الـ (دي اتش ال).
سهام : بالتأكيد.
امل : خذِ بالك من نفسكِ حبيبتي. حاولِ ان تجدِ البيت المناسب وابحثي عن معهد لتعلم اللغة التركية.
سهام : سيكون التعلم فيما بعد. سابحث اولاً عن شقة.
امل : لا تنسي ان تختاري شقة بغرفتي نوم كي تكون واحدة منها لي عندما اتي لزيارتك.
سهام : حبيبتي سيكون البيت كله تحت امرتك.
وصلت سيارة الاجرة مطار بغداد ودخلتا قاعة المسافرين، كان الجو حزيناً جداً لانهما صديقتان حميمتان ولم يفترقا منذ ان التقيتا لاول مرة في المدرسة قبل تسع سنين. قبّلت سهام صاحبتها ودخلت قاعة المغادرة. بقيت امل تشاور لها بيدها حتى توارت عن الانظار. اقلعت الطائرة ثم مرت برحلة دامت 3 ساعات هبطت بعدها في مطار صبيحة الدولي باسطنبول. من هناك توجهت الى الفندق الذي حجزته من بغداد عن طريق الانترنيت. كانت رحلة سيارة الاجرة طويلة إذ استغرقت ما يقرب من الساعة ونصف بسبب اكتظاظ السير. لكنها شعرت بتحسن كبير فور دخولها غرفتها بالفندق. اتصلت بالهاتف وطلبت من الاستعلامات ان يبعثوا لها وجبة خفيفة من شطائر دجاج وشوربة الطماطم. وعندما وصلت صينية الطعام اصيبت بالذهول من لذة الشوربة. بعد ذلك اتصلت بصاحبتها امل لتطمئنها بوصولها سالمة. ثم اتصلت بوكالة العقارات بسامسون واخبرتهم بوصولها اسطنبول وانها ستتوجه الى سامسون في اليوم التالي بالطائرة كي تبدأ معاينة العقارات هناك. اخبرها سلجوق مندوب العقارات بسامسون ان ثلاث شقق قد اعدت لها كي تطلع عليها فور وصولها. باليوم التالي غادرت الفندق وتوجهت ثانية الى مطار صبيحة. لتطير من هناك الى مطار سامسون. توجهت مباشرة الى فندق گلوريا تيبي الذي كان قريباً من ساحل البحر الاسود. اختارت هذا الفندق لان موقعه كان قريباً من مركز المدينة. باليوم التالي اتصلت بسلجوق واخبرته انها مستعدة للبدء بمعاينة الشقق التي هيئها لها. قال انه سيأتي الساعة الثانية عشر ظهراً ليقلها بسيارته الى الشقة الاولى. وقفت سهام تنتظره خارج الفندق حتى وصل متأخراً بربع ساعة. فور وصوله بدأ بالاعتذار عن التأخير لكنها كانت تعلم مسبقاً ان الاتراك يشبهون العرب بعدم دقتهم في المواعيد لذلك لم تعلق كثيراً عن هذ الموضوع. اخذها سلجوق الى الشقة الاولى فلم تعجبها لانها كانت بالطابق الثالث ولم يكن هناك مصعداً كهربائياً. بعد ذلك عاينت شقة ثانية كانت بالطابق السابع وبها مصعد لكنها كانت صغيرة الحجم فشعرت بضيق في التنفس. كذلك الشقة الثالثة لم تكن لتعجبها لانها تتطلب الكثير من الاصلاحات. بالنهاية قال لها سلجوق،
سلجوق : سيدتي لا اعتقد انك ستجدين شقق افضل مما رأينا اليوم بالسعر الذي حددتيه.
سهام : جميع معارفي في العراق اخبروني ان اسعار الشقق تتراوح ما بين 50 الى 70 الف دولار وانا طلبت شقة بهذا الثمن.
سلجوق : لدي شقق بحدود 90 الف دولارفما فوق لكنها شقق ممتازة فهي تبعد امتاراً عن ساحل البحر الاسود وستعجبك كثيراً. انا اقترح عليكِ ان تلقي نظرة عليها. نظرة فقط وليس لغرض الشراء. ما رأيكِ؟
سهام : حسناً دعنا نلقي نظرة.
رجع سلجوق وسهام الى السيارة وانطلقوا الى بناية سكنية جميلة لديها حارس بالمدخل على مدار الساعة وفيه 3 مصاعد كهربائية من النوع الحديث. ركبا المصعد ليأخذهما الى الطابق الحادي عشر، ساروا بالممر حتى وصلوا الى شقة رقم 1111. ابتسمت وقالت من الصعب نسيان رقم الشقة. فتح الباب ففاجأها ما رأت. شقة بغاية الجمال وبها غرفتي نوم وصالة واسعة وشرفة تطل مباشرة على البحر الاسود. كانت اصوات الامواج وهي ترتطم بالساحل تبعث بقلبها الانتعاش الكبير. تمشت بالشرفة الواسعة ونظرت حولها حتى جائها سلجوق وقال،
سلجوق : الشقق بهذه المنطقة جميلة جداً لكن هذه الشقة هي الاقرب الى قلبي فهي من اجمل الشقق. الا انها لا تناسبك طبعاً لانها غالية الثمن.
سهام : وكم ثمنها إذاً؟
سلجوق : انها بـ 150 الف سيدتي.
سهام : لكنك قلت 90 الفاً. اليس هناك مجال للمساومة؟
سلجوق : إذا كنت جادة فيها فساحاول التحدث مع المالك ربما ساتمكن من تخفيض السعر قليلاً.
سهام : ارجوك حاول قدر المستطاع. اخبره بانني اعرض عليه 100 الف دولار.
ركب الاثنان السيارة وعاد بها الى فندق گلوريا تيبي صعدت الى غرفتها واتصلت بصاحبتها امل لتخبرها على مستجدات الامور. بعدها خرجت الى مركز المدينة كي تستكشفها ثم دخلت احدى المطاعم المنتشرة بكل مكان وتناولت وجبة الغداء هناك إذ طلبت اسكندر كباب فاعجبت كثيراً بطعمه اللذيذ. بعد تناول الوجبة بحثت عن بنك لتفتح فيه حساباً. بالمساء بقيت بغرفتها تتابع مسلسل عربي على احدى القنوات الفضائية. في صباح اليوم التالي رن هاتف الغرفة فرفعت السماعة لتسمع صوت سلجوق يقول،
سلجوق : سيدتي لقد تكلمت مع صاحب الشقة فاخبرني انه يستطيع قبول سعر 130 الف. ما رأيك؟
سهام : دعني افكر وسارد لك الخبر فيما بعد.
سلجوق : انا انصحك ان تتخذِ قراركِ فوراً فالمالك لديه مشتري آخر قد عرض عليه 125 الف.
سهام : حسناً قل له انني وافقت على 130 الف.
سلجوق : هل المبلغ جاهز ام انك ستنتظرين تحويله من العراق؟
سهام : كلا انه جاهز فوراً. ساذهب اليوم الى مكتب الـ (وسترن يونيون) واستلم حوالتي لاودعها بالبنك التركي الذي فتحت حسابي فيه. وبذلك اتمكن من تسليم مالك الشقة المبلغ كاملاً.
سلجوق : إذاً دعيني انسق معه غداً ثم اتي لاخذك كي نذهب الى دائرة تسجيل العقارات وتتم الصفقة فتصبح الشقة لك فوراً.
سهام : طيب سلجوق انا سانتظر مكالمتك غداً.
في صبيحة اليوم التالي اتصل بها سلجوق واخبرها ان كل شيء على ما يرام وانه سيصل اليها خلال نصف ساعة كي يأخذها الى دائرة تسجيل العقارات. اغلقت الهاتف معه وارتدت ملابسها لتستعد وتنزل لباحة الفندق فتتناول فنجان قهوة هناك ثم تخرج الى الشارع فترى سلجوق واقفاً ينتظرها بسيارته. ركبت معه وانطلقوا سوياً. وصلا الى المكتب فقال لها، "انظري هناك سيدة سهام، الذي يقف هناك، الرجل ذو الشعر الابيض انه المالك". اوقف السيارة ونزلا منها متجهين الى المالك كي يلقون عليه التحية. وعندما نظرت بوجهه وجدته وسيماً للغاية ولا تجد بوجهه تجاعيد الا ان لون شعره الفضي يوحي بانه رجل كهل، قدرت عمره بحدود الاربعين سنة. قدم نفسه على انه فؤاد اسكولوݘ. كان يتحدث الانكليزية بطلاقة فلم تجد صعوبة بالتحدث معه. كان هذا الرجل بغاية النبل والاخلاق يتصرف بكل ادب ومراعات للمشاعر. ولما وقفا امام موظف التسجيل، راح يسجل بيانات سهام وبيانات البيت والبائع قام بتسجيل المبلغ فسلمت المبلغ كاملاً الى المالك. اعطى الموظف حجة الشقة الى سهام وتم الامر بشكل انسيابي وسريع. كانت الفرحة تغمر سهام بشكل كبير وكأنها حققت نصراً عظيماً.
لم تصبر حتى تصل الى الفندق، فتحت هاتفها على صديقتها امل واخبرتها بنبأ شرائها الشقة وتسلمها المفاتيح والحجة. كذلك اخبرتها بانها ستبدأ من الغد بزيارة معارض الاثاث كي تؤثث الشقة بالشكل المناسب. في اليوم التالي ذهبت سهام الى الشارع الذي اقترحه عليها سلجوق والذي قال انه يحتوي على الكثير من معارض الاثاث. دخلت اول معرض في بداية الشارع كتب عليه (اثاث البحر الاسود) فرأت فيه اثاثاً لا يناسب ذوقها ابداً. خرجت منه واكملت السير حتى دخلت الى معرض ثاني كتب عليه (اثاث ازمير) لتجد فيه الكثير من قطع الاثاث الجميلة لذا قررت ان تتأنى وتتفحص بضاعته جيداً كي تتمكن من ان تضع ميزاناً ما بين الجودة والجمال والثمن. ولما وصلت الى اثاث الصالة رأت طقم ارائك من اروع ما يكون. تفحصت يافطة السعر التي فوقها وامسكت بهاتفها الذكي كي تتمكن من تحويل السعر المذكور من الليرة التركية الى الدولار فوجدته يناسبها بشكل جميل. بدأت تتفحص الاخشاب عن كثب وتتقيم جودة الخشب المصنوع منه لتجده سميكاً ومتيناً للغاية. ولما وقع اختيارها عليه رفعت رأسها لتجد البائع يقف الى جانبها. سألته عن امكانية تخفيض السعر فعرض عليها تخفيضاً بنسبة %15 مما جعلها ترقص بداخلها من الفرح لكنها ابت ان يظهر ذلك على تعابير وجهها كي لا يتراجع بالتخفيض. سألته،
سهام : لقد اعجبت بهذا الطقم ولكن اريد ان اعرف كم من الوقت سيستغرق توصيله الى عنواني؟
البائع : اين تسكنين يا مدام؟
سهام : اسكن بشارع اتاتورك بناية سليم اوغلو رقم 82 بالطابق 11 شقة رقم 1111.
البائع : بامكاننا توصيل الطقم اليك في خلال شهر ونصف.
سهام : يا الهي، انها فترة طويلة جداً. لقد انتقلت حديثاً الى تركيا وليس لدي سكن سوى الفندق، انا لا يمكنني ان ابقى بالفندق حتى يصل اثاثي لان العملية مكلفة.
البائع : انا آسف يا مدام ولكن مصنعنا يعتبر اسرع المصانع في التسليم. فالطقم سوف يصنع من الصفر لذلك يتطلب كل هذا الوقت. لاحظي ان نوع الخشب المستعمل هو من اجود انواع الاخشاب والاقمشة.
سهام : اجل لاحظتها لكن الانتظار طويل جداً. على العموم دعني اتجول بباقي محلات الاثاث وسارد لك خبر.
البائع : كما تشائين سيدتي.
خرجت من المعرض واكملت جولتها في الشارع الطويل وصارت تسأل اولاً وقبل كل شيء عن فترة التسليم. كان اغلبهم يقول ما بين 3 الى 4 شهور. وبالرغم من انها عثرت على الكثير من الاثاث الذي اثار اعجابها الا ان فترة الانتظار كانت قد وقفت عائقاً في وقوع اختيارها على مطلبها بشكل نهائي. بآخر المطاف توصلت الى قرار بان ترجع الى المحل الثالث الذي عرض لها فترة شهر ونصف لانها اقصر الفترات. رجعت ودخلت المحل فوجدت البائع يبتسم بوجهها فقالت له،
سهام : اكتشفت انكم الاقصر مدة في تسليم الاثاث كما قلت، لذلك رجعت كي اوصي على الطقم الذي اخترته هذا الصباح.
البائع : وماذا عن غرفة النوم؟
سهام : دعني اتفحص الاسرّة التي لديكم.
سارت بالمعرض وراحت تمعن النظر بالاسرة وعندما وقع اختيارها على سرير نوم عريض يتسع لشخصين سألته،
سهام : هل هذا يتطلب الكثير من الوقت ايضاً؟
البائع : بامكاننا تسليمك السرير خلال شهر واحد فقط.
سهام : إذاً كيف سابقى بالفندق كل هذه المدة؟
البائع : اسمعي مني يا مدام. لدي حل سيناسبك كثيراً وسينفعك وينفعنا معك. اقتراحي هو كالتالي: نقوم اليوم بتوصيل سرير صغير لنفر واحد مع 12 كرسي خشبي وطاولة واحدة. ستتمكنين من النوم على السرير وتوزعين الكراسي بكل غرفة من غرف شقتك. وبذلك ستتمكنين من الانتقال من الفندق الى شقة اليوم إن اردت. وسوف تنتظرين باقي الاثاث حتى يصل. وعند تسليمك اثاثك الاصلي سنقوم باسترجاع السرير الصغير والكراسي الاثنا عشر والطاولة. ما رأيك؟
سهام : فكرة رائعة. وهل بالامكان توصيل طاولة اضافية معها كي اضعها بالمطبخ لكي استعملها للطبخ؟
البائع : بالتأكيد، سوف نوصل لك طاولة اضافية معها تتمكنين الطبخ عليها.
سهام : إذاً اتفقنا. ارجوك اعمل حساباتك كاملة واخبرني بالمجوع. واعطني الجواب بالدولار الامريكي لو سمحت.
البائع : حالاً سيدتي.
امسك بالآلة الحاسبة وراح يجمع ويطرح ويضرب حتى وصل الى سعر نهائي. نظر اليها وقال،
البائع : السعر النهائي سيكون 21 الف دولار ونصف.
سهام : انا لا احب الانصاف. دعنا نتفق على 21 الف فقط.
البائع : انتم العراقيون صعبون جداً. حسناً سيدتي اتفقنا 21 الف.
سهام : ساعطيك نصف المبلغ الآن والنصف الثاني عند التسليم.
البائع : شيء جميل.
خرجت من المعرض وهي بقمة السعادة وتوجهت مباشرة الى محلات بيع لوازم المطبخ واشترت كمية كبيرة منها فوجدت ان من الصعب عليها مواصلة التسوق مع كل البضاعة التي اشترتها للتو لذلك ركبت سيارة اجرة لتحمّل كل مشترياتها بالصندوق الخلفي للسيارة فاوصلها الى عمارتها. انزلت البضاعة من السيارة ودخلت من الباب الرئيسي فحياها البواب ووثب كي يساعدها بحمل الاغراض وصعد معها الى الطابق الحادي عشر ليدخل معها المشتريات الى المطبخ فقامت باعطائه 10 ليرات كمكافئة لخدماته. فرح بها كثيراً وغادر الشقة. نظرت حولها وهي تبتسم ما بين الفرحة والعمل المضني الذي ينتظرها. الا انه سيكون عملاً ممتعاً لانها ستبدأ صفحة جديدة من حياتها تقلبها كي تتمكن من الاستقرار ببلد كريم آمن يحفظ لها كرامتها بدلاً من ان تعيش غريبة ببلدها وعرضة للمليشات والاختطافات والسياسيين الفاسدين الذين سلطتهم امريكا وايران على رقاب الشعب العراقي.
بعد مرور ساعتين رن جرس النظام الداخلي لتضغط على الزر وتقول بالانكليزية، "من هناك" فسمعت صوت البواب يتحدث بالتركية وذكر كلمة "موبيليا" علمت انهم يوصلون الاثاث المؤقت الى شقتها فقالت للبواب، "پكي تمام" فعلم البواب انها قد اعطت الاذن. سمح للعمال كي يوصلوا الاثاث مستعملين المصعد الى الطابق الحادي عشر. ولما وصلوا صارت سهام تدلهم على الاماكن التي تريدهم ايصال الاثاث اليها. بعد ان خرج الرجال، راحت تعدلها بشكل منتظم ثم صارت تخرج الاغطية والشراشف وراحت تفرش السرير المؤقت حتى بدأت الشقة تأخذ شكلاً مقبولاً. ارتدت ملابسها ثانية وذهبت الى الفندق كي تدفع الاجور وتنقل حقيبة ملابسها الى شقتها الجديدة. كان ذلك اليوم الاكثر ارهاقاً لها لكنها كانت في غاية السعادة. بآخر النهار اتصلت بصاحبتها امل في بغداد وتحدثت معها لما يقرب من الساعتين. كانت تعطيها آخر المستجدات عن الشقة والاثاث وما الى ذلك حتى سألتها،
امل : كيف تستطيعين ان تتفاهمي معهم هناك؟
سهام : حاليا انا استعمل الانكليزية، لكن الاغلبية لا يفهمها فاستعمل معهم لغة الاشارة. لذلك قررت ان اسجل باحدى معاهد اللغة فور تفرغي من تأثيث بيتي كي اتعلم التركية لانني باقية هنا ولن ارجع للعراق. سابدأ بالبحث عن معهد فور وصول الاثاث الى الشقة وترتيبه.
امل : الم تتعلمي اي كلمات لحد الآن؟
سهام : اجل تعلمت بعض الكلمات الاساسية والتي نستعملها باللهجة العراقية.
امل : صحيح؟ مثل ماذا؟
سهام : (پكي) تعني حاضر و(بلكي) تعني ربما و(ݘتاية) اي ربطة الرأس و(عافرم) اي احسنت و(زور) اي بصعوبة و(هيݘ) تعني لا شيء و(بوش) تعني فارغ. وهناك الكثير من هذا النوع.
امل : اقسم بالله انك شاطرة. كيف تمكنت من تعلم كل هذه الكلمات بهذه السرعة؟
سهام : للضرورة احكام يا حبيبتي فالكثير منهم لا يفهم عليّ عندما احاول السؤال عن الاشياء الضرورية. تخيلي زردة تعني الكركم. الا نستعمل الكركم في صناعة الزردة وحليب؟
امل : اجل، اجل. يبدو اننا اخذنا الكثير منهم.
سهام : دعيني اذهب الآن فانا اشعر انني ساموت من التعب.
امل : جهزي الشقة جيداً قبل حلول عطلة نصف السنة كي اتمكن من زيارتك.
سهام : احقاً ما تقولين؟ يا سلام، انا سعيدة جداً.
امل : والان تصبحين على خير سهام.
سهام : إگي ݘالار. تعني تصبحين على خير امولتي.
اغلقت الخط مع امل وصارت تلف بالشقة التي ما زالت شبه عارية تتفقد الابواب والشبابيك. ولما اكتفت من تسجيل النواقص في ذهنها توجهت الى السرير. وما ان وضعت جسدها المنهك على اغطيته الا وراحت بنوم عميق هادئ. لم تفتح عينيها الا على صوت الامواج وهي ترتطم بالساحل بوقت فجر اليوم التالي. ابتسمت وقالت، "يا سلام بدلاً من صوت المنبه الذي كان يرن كل يوم كي اذهب الى المدرسة، صارت امواج البحر هي التي تصدر اصواتاً اشبه بالموسيقى وزقزقة العصافير تجعلني احمد الله الف مرة لانني اتخذت القرار السديد". بعد ان فرغت من تناول افطارها المتواضع، نزلت الى السوق لتكمل شراء لوازم المنزل من ستائر وشراشف كبيرة للسرير الجديد الذي سوف تستقبله في غضون اسابيع. رجعت الى الشقة وجلست في الشرفة تتأمل منظر البحر والامواج وتشم رائحة البحر التي تؤين جسمها وتشحن بها صحتها. هنا قررت تأجيل طهي وجبة الغداء والنزول الى الساحل كي تتمشى على طرفه وتجلس على احدى الارائك الخشبية التي نشرتها بلدية سامسون على طول السواحل الكونكريتي الجميلة. اختارت اول اريكة شاغرة واجهتها وجلست تتأمل منظر الامواج الرزينة والقارب الشراعي الذي يمر من بعيد امامها. اخرجت هاتفها والتقطت صورة لنفسها جالسة على الاريكة وصورة ثانية من نوع بانوراما عريضة لمنظر البحر امامها ثم قامت بارسالهما لصديقتها امل في بغداد. وما هي الا ثوانٍ وجائتها مكالمة عن طريق الواتساپ نظرت اليها فعلمت انها امل. فتحت الخط وقالت،
سهام : صباح الخير امولة، كيف حالك؟
امل : انا بخير لكنني اشعر بالغيرة لانك تتمتعين بهذه المناظر الخلابة وانا جالسة هنا في غرفة المدرسين. كيف حالك وماذا فعلت لحد الآن؟
سهام : بدأت باقتناء لوازم البيت وشراء الاغطية والستائر ولوازم المطبخ. وانت تعلمين فالبيت بئر عميق يتطلب الكثير من الامور. لذا صار شغلي الشاغل هو النزول كل يوم للتبضع لبيتي الدائم. اريده ان يكون بيتاً مثالياً أءوي اليه واجد فيه السكينة وراحة البال.
امل : لديك الحق حبيبتي، لقد عانيت كثيراً لكنك يجب ان ترمي كل مشاكلك واحزانك وراء ظهرك وتسيرين الى الامام فانت مقبلة على حياة جديدة ستجدين فيها سعادتكِ وراحة بالكِ. والآن اخبريني، هل تناولت وجبة الغداء؟
سهام : كلا، ليس بعد. قررت ان اشبع نهمي من هذا المنظر الخلاب وبعدها ارجع الشقة واقوم بطهو شيئ بسيط. فانا لا اريد ان اكل وجبة دسمة.
امل : اسمعي مني، ارجعي الى الشقة وتناولي وجبة الغداء وبالمساء عودي الى الساحل واجلسي على الاريكة كي تراقبي الغروب. بالتأكيد سيكون شعوراً رهيباً.
سهام : اجل انت على حق. ساعود الآن الى الشقة لاكل، فالجوع اصبح يدق جميع الاجرس بداخلي. اتحدث معك فيما بعد اتفقنا؟
امل : اتفقنا حبيبتي.
اغلقت الخط مع صاحبتها ووقفت كي تستدير الى الوراء فجابهها منظر عمارتها. عبرت الشارع ودخلت العمارة فحياها حارس العمارة بجملة (ميرهابا). كانت تسمعها كثيراً فحللت انها تعني مرحباً لذلك كررتها له فابتسم بوجهها. صعدت الى الطابق الحادي عشر، دخلت شقتها، وتوجهت مباشرة الى المطبخ وراحت تقطع الخضار لتعمل لها وجبة خفيفة مع السلطة. في مساء ذلك اليوم قررت ان تنزل الى الساحل ثانية قبل حلول الغروب كي تستمتع بمنظر هبوط الشمس بقلب البحر. بقيت جالسة هناك تتأمل المنظر الجميل وتستنشق الهواء العليل حتى فترة متأخرة من الليل عندما قررت العودة الى شقتها كي تنام استعداداً ليوم جديد. بالايام التالية كان عملها روتينياً يتلخص بالتسوق واكمال لوازم المنزل والرجوع اليه كي ترتبه بشكل منسق جميل.
مضى اسبوعين من سكنها بالشقة، خرجت وقت الغروب كي تجلس على اريكتها كالمعتاد وصارت تتأمل المنظر الجميل حتى غابت الشمس تماماً وساد الظلام. كانت تسمع صوت طبطبة كرة بجانبها. ادارت رأسها لتستقصي مصدر الصوت فرأت طفلة صغيرة بسن السابعة او الثامنة تلهو بكرتها. بقيت تراقبها وتتذكر ابنتها فاتن وكيف كانت مولعة باللعب بالكرة هي الاخرى. بقيت تراقب الطفلة حتى تقربت الطفلة من اريكتها وصارت ترمي كرتها على مسند ظهر الاريكة التي بجانب سهام فترتد اليها الكرة. كانت تعملها بشكل منسق جميل وكانت كل مرة تلتقطها بعد ان ترتد اليها. بقيت تراقبها سهام حتى في احدى المرات لم تتمكن من الامساك بها فافلتت الكرة من يدها وراحت باتجاه الساحل فسقطت بالماء. ركضت الطفلة وانبطحت على الرصيف الكونكريتي محاولة استرجاع كرتها لكنها لم تفلح. بقيت سهام تراقبها وتشعر ان من واجبها منع الطفلة من المجازفة بسلامتها لكنها خجلت مما قد تُسمِعها تلك الطفلة. ثم انها لا تدري ماذا ستقول لها وبأي لغة ستتفاهم معها؟ بقيت تنظر اليها وهي متوترة تود لو تركض نحوها وتمنعها من التقرب من الماء. وبلحظة سقطت الطفلة بالماء فوثبت سهام واقفة وركضت نحوها. كانت الطفلة تصرخ وتتحدث بالتركية. كان من الواضح انها تستنجد لكن احداً لم يكن هناك ليسمعها وينقذها. تقربت من مكان السقوط ونظرت اليها فوجدتها قد غطست في الماء لفترة طويل. علمت انها يجب ان تقفز ورائها لتنقذها. لم تفكر في قرارها ابداً بل قفزت في الماء وامسكت بيد الطفلة وسحبتها اليها ثم رفعتها لترجعها فوق الصبة الكونكريتية، خرجت ورائها وامسكت بها. جثمت الى جانبها لتتفحص تنفسها فهلعت لان الطفلة توقفت عن التنفس تماماً. صارت تنفخ بفمها وتقوم باجراء الاسعافات الاولية عليها. راحت تدلك قلبها ثم تنفخ بفمها عدة مرات وتصرخ باعلى صوتها "تنفسي حبيبتي فاتن تنفسي. ارجوك يا فاتن لا تموتي. انا امك انا هنا ساحميك حبيبتي تنفسي ارجوك". واصلت ضغطاتها المتقطعة على صدرها وواصلت النفخ بفمها ولم تتوقف عن الاستغاثة ودموعها كانت تسيل كالانهار من عينيها. تبتهل من الله وتتحدث معها وتقول، "فيقي يا عمري يا فاتن فيقي يا روحي وحياتي". فجأة صارت الطفلة تسعل ثم استفرغت الماء الذي كان بداخلها واستمرت بالسعال. كانت سهام تقول، "اجل حبيبتي اجل ارجعي للحياة يا اجمل فاتن ارجعي لي يا عمري، لا تموتي". بعد قليل هدأت الطفلة وفتحت عينيها الزرقاء ومن خلف خصل شعرها الذهبي نظرت الى سهام وصارت تسألها باللغة التركية لكن سهام لم تفهم عليها. هنا سألتها سهام بالنكليزية،
سهام : هل تتكلمين الانكليزية؟
الطفلة : اجل.
سهام : ما اسمك حبيبتي؟
الطفلة : انا اسمي ديزي؟ هل ساموت يا خالتي؟
سهام : كلا يا حبيبتي، لقد اخرجتك من الماء. ستعيشين لا تقلقي. والآن قولي لي: اين تسكنين؟
ديزي : اسكن هناك.
اشارت الطفلة الى العمارة التي تسكن بها سهام.
سهام : حسناً ساخذك الى بيتك الآن، هل تستطيعين الوقوف؟
ديزي : كلا، اشعر بتعب كبير. ساقي تؤلمني كثيراً. لقد ارتطمت بالصبة الكونكريتية.
سهام : إذاً انا ساحملك، لا تقلقي حبيبتي فاتن، كل شيء سيكون على ما يرام
ديزي : قلت لك اسمي ديزي فلماذا تناديني فاتن؟
سهام : انا آسفة. حبيبتي ديزي.
حملتها وعبرت بها الشارع لتدخل بها البناية. رآها البواب فوقف وراح يتكلم بصوت مرتفع باللغة التركية دلالة على قلقه. لم تشأ ان تطيل الحديث معه بل توجهت نحو المصعد وسألتها،
سهام : باي طابق تسكنين؟
ديزي : الطابق الاول.
ضغطت على الزر رقم 1 فتحرك بهم المصعد ثم انفتحت ابوابه، خرجت سهام من المصعد حاملة الطفلة سألتها ثانية،
سهام : اي شقة؟
ديزي : 107.
سارت الى 107 وضغطت على الجرس ففتح الباب رجل طويل وسيم ذو شعر فضي يرتدي معطفاً صوفياً منزلياً فوق بجامته نظر الى سهام وهي تحمل ابنته والماء يقطر منهما فصار يتكلم بالتركية مع ابنته بحدة ثم نظر الى سهام وقال بالانكليزية،
الرجل : ما هذا؟ ما الذي جرى هنا؟ هل هي بخير؟
سهام : اجل، اجل انها بخير، لقد سقطت بالماء وقمت بانتشالها، لا تقلق سيدي.
الرجل : يا للهول، الذنب ذنبي انا، لقد اهملتها ولم اراقبها. كنت غافلاً عنها لبعض الوقت.
سهام : لا تقسو على نفسك سيدي فما حصل قد حصل.
اخذها والدها من يد سهام وحملها للداخل ليضعها فوق الاريكة بالصالون ثم احضر منشفة وراح يجفف وجهها وجسدها. نظر الى سهام وقال،
الرجل : انت سهام اليس كذلك؟
سهام : اجل كيف عرفت اسمي؟
الرجل : انا فؤاد اسكولوݘ. بعت لك شقتك قبل مدة. تقابلنا بمكتب التسجيل الا تذكرين؟
سهام : اجل، اجل سيد فؤاد تذكرتك الآن، انا آسفة لم اتعرف عليك من انشغالي بابنتك ديزي.
فؤاد : كيف حصل ذلك؟ كيف غرقت ابنتي؟
سهام : لقد كانت تلعب بالقرب من الساحل وسقطت كرتها في الماء فسقطت ورائها اثناء محاولتها استرجاع الكرة. لا تقلق سيدي.
فؤاد : تفضلي سيدتي واجلسي. يبدو انك قفزت ورائها كي تنقذيها. انا مدين لك بحياة ابنتي شكراً لكِ.
سهام : انتَ لستَ مديناً لي باي شيء سيدي. الطفلة سقطت وانا اخرجتها. لا اكثر ولا اقل. سوف لن استطيع البقاء. يجب عليّ ان اصعد الى شقتي وأجفف نفسي.
فؤاد : سيدتي، انا عاجز عن الشكر. فقد انقذتِ حياة ابنتي. شكراً، شكراً، شكراً، لك مليون مرة. لقد انقذتِ حياتها وحياتي معها.
سهام : لا شكر على واجب. سامحني الآن ودعني اعود الى بيتي.
خرجت من الشقة وهي تأوي الكثير من الافكار برأسها وتتسائل: اين والدتها؟ لماذا لم تخرج لتطمئن على ابنتها؟ هل هي ام فاشلة لا تبالي؟ ام ربما هي سكيرة او معاقة لا تقوى على الوقوف والمجيء للصالون. على العموم انا سعيدة لانني انقذت تلك الطفلة البريئة.
رجعت الى شقتها وتوجهت مباشرة الى الحمام حيث استحمت بالماء الساخن ثم لبست بدلة منزلية وجلست بالصالة لتسترجع كل ما جرى لها من ذلك الحادث الغير متوقع. بعدها امسكت بهاتفها وطلبت صديقتها امل كي تحكي لها كل ما دار من اثارة بهذا اليوم. نامت بعدها نوماً عميقاً حتى فاقت في الصباح الباكر على صوت جرس الباب فوقفت وارتدت معطفها المنزلي فوق بدلة النوم وفتحت الباب لترى فؤاد اسكولوݘ وابنته واقفين على الباب حاملين باقة ورد كبيرة. ابتسمت بوجههما ورحبت بهما لتدعوهما للدخول الى صالة شقتها. جلسوا على الكراسي فاعتذرت منهم وقالت انها قد اوصت على طقم ارائك والكثير من الاثاث لكنها لم تصل بعد. جلس فؤاد على احدى الكراسي الخشبية وقال،
فؤاد : دعيني سيدتي اكرر لك شكري العميق لانك انقذتِ حياة ابنتي بالامس، انا مدين لكِ مدى الحياة. فانا لم يبقى لدي بهذه الدنيا سوى ابنتي ديزي بعد وفاة والدتها.
سهام : رحمها الله. انا جداً سعيدة لانني تمكنت من ان اقدم شيئاً لهذه القطة الجميلة. انها حقاً طفلة رائعة.
ديزي : شكراً لك يا خالة سهام.
سهام : على الرحب والسعة حبيبتي ديزي.
فؤاد : هل تشعرين بالراحة في شقتك الجديدة؟ هل ينقصك شيء؟ هل استطيع ان اقدم لك اي شيء يا آنسة او سيدة سهام.
سهام : انا سيدة سهام. كلا انا اشكرك على عرضك الكريم هذا. ولكنني اتممت كل شيء وقد سبق وان اوصيت على طقم ارائك واسرّة لكنها ستتأخر بعض الوقت.
فؤاد : وكم قالوا لكِ فترة التسليم؟
سهام : البائع قال انها ستتأخر شهراً ونصف.
فؤاد : هل تعرفين اسم المعرض؟
سهام : اجل، انه اثاث ازمير. اتعرفهم؟
فؤاد : ما هو اسمك الكامل؟
سهام : سهام عبد المجيد.
فؤاد : لحظة واحدة لو سمحتِ.
اخرج هاتفه النقال واتصل بمعرض الاثاث فسمعته سهام يتحدث باللغة التركية ثم وضع يده على سماعة الهاتف وقال.
فؤاد : انهم يبحثون عن طلبيتك بين الاوراق.
بعد قليل سمعته يتكلم بالتركي ثانية ثم اغلق الخط ونظر الى سهام ليقول،
فؤاد : يصل الاثاث جميعه الى شقتك غداً.
سهام : مستحيل! لا اصدق! كيف تمكنت من اقناعهم؟ ارجو ان لا تكون قد رشيتهم بمبلغ ما او شيء من هذا القبيل.
فؤاد : لا يا عزيزتي، المحل من طرفي.
سهام : اتقصد ان صاحب المحل قريبك او صديقك؟
فؤاد : اجل صاحب المحل يملكه احد اقربائي.
سهام : يا الهي، كم انا محظوظة. انا عاجزة عن شكرك سيد فؤاد. كيف لي ان ارد لك فضلك الذي غمرتني به؟
فؤاد : بالعكس انت من حمّلتني فضلاً كبيراً. انت انقذتِ ابنتي. اشكرك من جديد.
سهام : ولكن قل لي، منذ متى وانتم تسكنون بشقتكم في الطابق الاول؟
فؤاد : منذ ان اشتريت العمارة قبل 11 سنة. سكنا في احدى الشقق بالطابق الاول وقمت بايجار باقي الشقق.
سهام : ولماذا بعت شقتي هذه إذاً؟
فؤاد : لانني سئمت مماطلة المستأجرين بدفع الايجار لذا قمت ببيع الشقق. كانت شقتك ثالث شقة ابيعها.
سهام : هل كنت تعمل بالعقارات دائماً؟
فؤاد : كلا، انا بدأت حياتي كممثل مسرحي. وهناك التقيت زوجتي المرحومة دجلة والدة ديزي. تزوجنا ونحن صغار في السن. كافحنا كثيراً حتى صرنا من اكثر الممثلين المسرحيين شهرة بتركيا. رُزِقنا بديزي بعد مرور سنتين من زواجنا. لكن الله لم يشأ ان يمنحنا المزيد من الاولاد لذا بقيت ديزي هي نور حياتنا.
سهام : وهل الاسم ديزي اسم تركي عريق؟
فؤاد : كلا انه شخصية من شخصيات مسرحية شكسبير (دزدامونا). كنا نمثلها على خشبة المسرح لما شعرت زوجتي دجلة بالدوار وسقطت امام الجمهور. كانت حينها تمثل دور (دزدامونا).
سهام : باي من مسرحيات شكسبير كانت؟
فؤاد : مسرحية عطيل. كان الدور لشابة خارقة الجمال ابنة احد الساسة بدولة البندقية والتي وقعت بحب عطيل المقاتل البطل الذي قررت الانتقال معه الى ارض المعركة.
سهام : وطبعاً انت كنت تمثل دور عطيل، اليس كذلك؟
فؤاد : اجل هذا صحيح. ولما نقلناها الى المشفى وتأكدنا من انها حامل قالت، "لو كان حملي سيكون ذكراً فسوف نسميه عطيل واذا كانت انثى سنسميها دزدامونا.
سهام : يا الهي كم هو شيء رومانسي.
ديزي : ارأيت يا خالة سهام، انا لست انسانة عادية. اسمي مشهور حول العالم.
سهام : انت حقاً اهل لحمل ذلك الاسم لانك اجمل واذكى فتاة وبنفس الوقت اكثر فتاة مشاغبة بالعالم.
ديزي : لماذا تقولين مشاغبة؟
سهام : لانك تلعبين بعد غروب الشمس على ساحل البحر دون ان يسطحبك اباك.
فؤاد : لقد غافلتني لانني كنت مشغولاً بالعزف على العود وتسللت خلسة الى الخارج آخذة كرتها معها.
سهام : يا الهي، تعزف على العود ايضاً. انتم عائلة موهوبة جداً.
فؤاد : علمني والدي العزف منذ نعومة اظفاري، بقيت امارسها كلما سنحت لي الفرصة. ساعزف لك وقتما شئتِ سيدتي انا اعرف الكثير من الالحان العربية لغناء المغنية العربية ام كالازوم.
سهام : يا سلام، وتعزف لام كلثوم!
فؤاد : اجيد عزف مقطوعة "اينتا اومري" و "اروه لمين"
سهام : لا اصدق. على العموم شاء الله وان تنجو حبيبتنا ديزي وجعل ذلك سبباً كي نتعرف على بعضنا البعض. انا جداً سعيدة بمعرفتكما.
فؤاد : ونحن كذلك. سيكون لنا الشرف ان تأتي معنا هذا المساء كي نتعشى سوياً بمطعم سنختاره انا وديزي.
سهام : انها دعوة لا يسعني الا ان اوافق عليها. متى تريدوني ان اكون جاهزة؟
فؤاد : ما رأيك بالساعة الثامنة؟
سهام : الثامنة وقت مناسب جداً.
فؤاد : أذاً سنطرق بابك تمام الثامنة مساءاً.
ترى ماذا يخبئ لها الزمان بعد ان تعرفت على تلك العائلة الجميلة بتركيا؟ ستعرف باقي الاحداث بالجزء الثاني من هذه القصة.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

789 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع