نصيحة أخ لأخوه

                                                     

                           المحامي المستشار
                       محي الدين محمد يونس

نصيحة أخ لأخوه

في أحد أيام ربيع عام 1967 وحينها كنت طالباً في المرحلة الأولى من الدراسة في كلية الشرطة في بغداد وضمن الدروس العملية والمشاهدات خارج الكلية تم تنظيم سفرة لدورتنا (23) الى السجن المركزي في منطقة الباب المعظم وكانت بناية قديمة بنيت في عام 1920 وهدمت في نهاية السبعينات بعد استحداث سجن أبو غريب الحالي وقد أتخذ السجن المذكور مكاناً لاعتقال رجالات العهد الملكي بعد انقلاب 14 تموز 1958 وكان عددنا مائة طالب نرتدي الزي الخاص بطلاب هذه الكلية.

          

  صورة كاتب المقال حينما كان طالب في كلية الشرطة ببغداد

بعد أن دخلنا الى الأقسام الإدارية للسجن حيث حضر مديرها وأخذ يشرح لنا أقسام السجن وعدد نزلائه وطبيعة العمل في هذا المرفق وكيفية التعامل معهم، بعد ذلك تم تقسيمنا الى خمسة مجاميع (كروبات) وتخصيص موظف مع كل مجموعة حيث بدأنا جولة برفقته على أقسام السجن الكبير وكنا نلتقي خلالها بالمحكومين فيها وبمختلف التهم والاحكام ونتبادل معهم الحديث عن أوضاعهم وأسباب وجودهم في هذا المكان والشيء المثير للعجب في كون الأغلبية من السجناء كانوا يعتقدون بأننا أشخاص ذوي شأن في الدولة وضمن مواقع المسؤولية عندما كانوا يعرضون علينا شكواهم وما لحق بهم من ظلم ومن ان الاحكام الصادرة بحقهم جائرة وغير عادلة بالإضافة الى المشاكل التي يعانون منها داخل السجن.

       

           السجن المركزي في منطقة الباب المعظم

وخلال جولتنا شاهدنا منظراً أثار دهشتنا واستغرابنا عند مرورنا في الساحة الوسطية الكبيرة للسجن (باحة السجن) حيث شاهدنا شخصاً جالس في وسط الساحة المذكورة وأمامه منضدة فوقها أنواع مختلفة من الفواكه والمكسرات والحلويات مرتدياً زياً من نفس نوعية القماش المخصص لنزلاء السجن إلا انها كانت تختلف في نوعية الخياطة ووفق نمط البدلة العادية (جاكيت+ بنطرون+ قميص+ ربطة عنق) حليق اللحية..

                     

مستعملاً كريم تصفيف الشعر المشهور في ذلك الزمان (ياردلي) إن لم تكن تخونني ذاكرتي عن تسمية هذا الدهن (الكريم) اقتربنا منه وهو منشغل في مطالعة احدى الصحف واستفسرنا من موظف السجن المرافق لنا عن سر هذا الرجل فأجابنا بأنه سجين اعتيادي وبإمكانكم الاقتراب منه والتحدث اليه عما يدور في ذهنكم من تساؤلات ، فعلاً اقتربنا منه وبادرناه بالسلام والسؤال عن الحال ومن يكون وأسباب وجوده في هذا المكان فقاطعنا سائلاً: (من أنتم وما سبب وجودكم في السجن؟!) أجبناه نحن طلاب من كلية الشرطة وجئنا لزيارة السجن للاطلاع ومشاهدة هذا المرفق المخصص لإيواء المحكومين لغرض الاستفادة وزيادة المعلومات التي لها صلة بطبيعة عملنا في المستقبل عندما نتخرج من كلية الشرطة.

     

       سجين مكبل بالسلاسل يتعلم القراءة والكتابة

فسأل السجين والذي لا يمكن ان أنسى اسمه (وميض) مستفسراً: (يعني شراح اتصيرون؟) فأجابه الطلبة: (راح نصير ضباط شرطة، بس كلنا انت ليش هنا وشمسوي؟).
أجابنا: (شوفوا اخواني أني موظف في احدى دوائر وزارة المالية واختلست مبلغ خمسة الاف دينار وانحكمت ثلاث سنوات حبس (لم تكن عقوبة الاختلاس في ذلك الوقت شديدة ولم يكن يشترط على المحكوم بها إعادة المبلغ المختلس قبل إطلاق سراحه عند نهاية مدة الحكم) كما هو الحال في الوقت الحالي.
فسأله الطلاب: (زين مو عيب عليك تبوك أموال الدولة اللي هي أموال الشعب وتاليها هذا مصيرك بالسجن وجمالة ما تستحي تكول اختلست).
أجابنا: (جوزوا من هذا الحجي انتو بعدكم شباب الحيمية ما تعرفون مشاكل الحياة وتكوين المستقبل الشخصي والعائلي وبالراتب اللي راح تاخذوه أبد ما راح يصير براسكم خير ومهما طالت فترة خدمتكم بالوظيفة الحكومية، وآني أريد أنصحكم لوجه الله نصيحة أخ لأخوه أن لا تفرطوا بأي فرصة تسنح لكم خلال عملكم وحاولوا تكوين نفسكم وخاصة العمل في جهاز الشرطة بي خوش فرص للاستفادة والاغتناء).
كلمات هذا السجين أصابتنا بالدهشة والاستغراب عندما أضاف قائلاً: (شوفوا اخواني آني خصصت ألف دينار لمصاريفي بالسجن مدة بقائي بالسجن وتشوفون آني شلون عايش عيشة الملوك السجناء جوة واني برة كاعد وشما أريد يجيبولي وزيارات أهلي وأقربائي وأصدقائي مستمرة وبعدما أخرج من السجن أستثمر المبلغ الباقي عندي في شغلة مربحة ومستقبل مضمون ونخلص من عيشة الفگر).

      

تركنا هذا السجين الشقي وهو يؤكد علينا بان نأخذ بنصيحته ويقول (أسال مجرب ولا تسأل حكيم) فعلى كل حال اعتبرناه شخصاً معتلاً وغير سوياً وصورته وهيئته بقيت ملازمة واستذكرها كلما سمعت قيام أحد الموظفين باختلاس أموال الدولة وما أكثرهم في ظل النظام السابق والحالي والذي سمته العامة الفساد والرشوة والسرقة ونستطيع أن نجزم وعلى خطى شاعرنا (مظفر النواب) بأن لا نستثني منهم أحداً.
وفي موضوع ذو صلة تحضرني نكتة حقيقية لرئيس الوزراء العراقي السابق (نوري السعيد) في نهاية الاربعينيات من القرن الماضي حيث كانت الشرطة لوحدها متهمة بالفساد وأخذ الرشوة من الناس أثناء تعاملهم معهم وكان الشرطي يكنى بـ(أبو الواشر) والحكاية تقول بانه جرى اجتماع في مجلس النواب وكان الغرض منه البحث في زيادة رواتب موظفي الدولة بسبب ارتفاع وغلاء المعيشة وعند انتهاء هذا الاجتماع وصدور القرارات بشأن الزيادة في الرواتب جاء أحد المشاركين في الاجتماع واتخاذ القرار ليهمس في اذن الباشا (نوري السعيد) قائلاً : (باشا نسينا نزيد رواتب الشرطة!!).

فأجابه الباشا بكل هدوء: (ماكو داعي الشرطة رواتبهم على الشعب!!) لقد كان السلوك السوي لموظفي الدولة في العفة والأمانة هما الاصل والفساد هو الاستثناء بعكس الحالة في الوقت الحاضر حيث اصبح الفساد هو الأصل والعفة والامانة هو الاستثناء وما دمنا نتحدث عن ظاهرة الفساد كسلوك في تصرفات قسم من موظفي الدولة العراقية لا بد من التطرق الى فترة الحرب العراقية – الإيرانية والتي استغرقت ثمان سنوات عجاف وكانت احدى تداعياتها انتشار الفساد بكافة أنواعه في أوساط موظفي الدولة في الرشوة والاختلاس والتزوير والسرقة وأصدق دليل على ذلك هو التعديلات المتكررة للقوانين الجزائية في تشديد الإجراءات والعقوبات المقررة لتلك الأفعال المشينة والملفت للنظر هو انتشار هذا النمط من السلوك في أوساط مختلفة من شرائح موظفي الدولة وأخص بالذكر منهم الكثير من ضباط الجيش العراقي من الذين كانوا في مواقع المسؤولية الإدارية والتنفيذية ضمن وحدات هذا الجيش وكان الاستفسار من المساقين للخدمة العسكرية عن أوضاع ذويهم الاقتصادية (تاجر، مقاول، صاحب معرض سيارات،... الخ) ومنهم (بناء، حداد، نجار،... الخ) أمراً مألوفاً ليتم بالتالي اعفائهم من الخدمة في جبهات القتال او المناطق الخطرة والبعيدة بالإضافة الى فسح المجال للكثيرين من الجنود في البقاء لدى ذويهم وأهاليهم (فضائيين) كل ذلك لقاء المنافع المادية والمعنوية التي تصب لمصلحة مرؤوسي هؤلاء الجنود من الضباط المتنفذين من ذوي النفوس الضعيفة ومن الذين تسول لهم أنفسهم استغلال مواقعهم الوظيفية في ظروف الحرب من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة عن طريق الكسب غير المشروع.
نعود لنذكركم بكلام الباشا (نوري السعيد) وحرشته عندما لمح للفساد الذي كان شائعاً في أوساط أجهزة الشرطة العراقية في تلك الحقبة الزمنية التي انتهت ولو كان (الباشا) حياً لرأى بأن معظم موظفي الدولة رواتبهم على الشعب المسكين المستغل بنسب مختلفة في جميع فترات الحكم التي خضع لها منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921 وبالذات في الحقبة الأخيرة التي نعيش فيها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

785 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع