بقلم / المحامي المستشار محي الدين محمد يونس
طرائف تزيل الهم والغم
لكي نودع الفرح والسرور في ثنايا هذا الزمن العبوس بأحداثه ووقائعه المأساوية العامة والخاصة نلجأ إلى استذكار ماضينا الجميل ونلتمس منه أن يتحفنا بإحدى قصصه اللطيفة المحفوظة في خزين ذاكرتي دون نقصان أو زيادة أو تغيير من جراء تكرار طرحها للآخرين أو مع نفسي بين الحين والحين وتذكر القصة انهاء الطالب (كامل) مرحلة الدراسة الإعدادية في منتصف الستينيات من القرن الماضي وقُبلَ في الكلية العسكرية والتي كانت تقع خارج حدود مركز بغداد العاصمة في منطقة الرستمية وكان الوحيد لوالديه لذلك فأنهما كانا متعلقين به لدرجة كبيرة وخاصة والدته التي كانت ترعاه وتوده ولا يغيب عن بالها تلبية كل طلباته التي يعلن عنها أو التي تخمن رغبته في تحقيقها، كان (كامل) مولعاً بالأطعمة العراقية وخاصة الدولمة وعندما قُبلَ وباشر الدوام في الكلية العسكرية لم تكن والدته الحنون تتهاون في تلبية رغبته في تناول الدولمة البغدادية التي تتنافس مع مثيلاتها في المدن العراقية الأخرى من حيث طبخها وجودة مذاقها. كانت والدة (كامل) تقطع كل هذه المسافة الطويلة بين دارها في الأعظمية والكلية العسكرية في الرستمية وعندما تصل هناك وتستقر خلف السياج الخارجي للكلية وتبدأ بالتوسل واستعطاف الحراس الذين يرفضون اول الأمر تلبية طلبها في إيصال قدر الدولمة لأبنها (كامل) لوجود أوامر وتعليمات تمنع أدخال الأطعمة من خارج الكلية إلا أن إصرارها وتماديها بالرجاء والتوسل بأسلوب يكسر الخاطر يجعلهم ينفذون طلبها أخيراً.
من طبيعة الأقسام الداخلية تعود الطلاب فيها على المزاح والتنكيت ومناداة بعضهم البعض بأسماء يتم اختراعها بالاستناد إلى طبيعة الشخص أو عاداته أو تصرفاته أو ولعه بشيء معين وهكذا الحال فقد جرى تسمية الطالب بـ كامل دولمة وكانت هذه التسمية تثيره وتسبب الضجر والاستياء لديه وتصل الحالة في بعض الأحيان إلى الشجار بينه وبين من ينطق تجاهه بهذه التسمية وتطورت الحالة ووصلت الأمور إلى الجهات العليا المسؤولة في الكلية مما حدى بهم إلى اصدار تعليمات تقضي بفصل أي طالب يردد هذه التسمية، كانت العقوبة شديدة جداً لذلك لم يكن يجرؤ أي طالب بالتفوه بكلمة (كامل) مصحوبة بكلمة (دولمة) بالرغم من صعوبة السيطرة على النفس والالتزام بالأوامر التي تمنع النطق باسم زميلهم وأغاضته.
الدولمة اكلة عراقية شهيرة
وفي أحد الأيام وعندما كان الطلبة في مطعم الكلية يتناولون وجبة الغداء وكانت كل منضدة يجلس حولها عشرة طلاب وكانت المنضدة التي يجلس عندها (كامل) مع زملاءه والذين كانوا متشوقين للمزاح معه إلا أن خوفهم من النتائج كان يجعلهم ينتهجون أسلوباً غير مباشر ومكشوفاً للمزاح وكان أحدهم ينظر في وجه الآخر وهم مقبلون على مشروع حرشة بزميلهم (كامل) وبدأوا في توجيه الانتقاد للطعام الذي تقدمه الكلية لهم من حيث نوعيته وتكرار نفس أصنافه وهنا ينبري أحدهم قائلاً شتريدون
الكلية العسكرية في منطقة الرستمية ببغداد
الأول – انريد باذنجان
الثاني – انريد شجر
الثالث – انريد بصل
الرابع – انريد طماطة
الخامس – انريد قيمة
السادس – انريد تمن
ولم يكد التسلسل يصل إلى السابع حتى نهض (كامل) من مكانه مهدداً ومتوعداً ويحلف بأغلظ الأيمان (والله اللي يلفه آني أعرف أشراح أسوي بي) ولم يكن أمام زملاءه إلا أن يتراجعوا عن تنفيذ مخططهم وهم في مرحلة الشروع وقبل الوصول إلى مرحلة تجميع كل هذه المواد ولفها لتصبح دولمة ويكونوا تحت طائلة العقاب المقرر.
أخيراً وليس آخراً وفي نهاية ما كتبت اضم صوتي إلى صوت الشاعر الفيلسوف عمر الخيام في رباعيته التي اشتهر بها وترجمها إلى اللغة العربية الشاعر المبدع احمد رامي وغنتها من جملت زماننا سيدة الغناء العربي ام كلثوم حيث تصدح حنجرتها الذهبية في نصيحة البشر للتمتع بهذه الحياة الجميلة وعدم تفويت الفرصة لاستغلال الجوانب الإيجابية فيها وعدم التفكير بما مضى وما هو قادم وقد وقع اختياري على هذه الأبيات من القصيدة:
لا تشغل البال بماضي الزمان / ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضرِ لذاتهِ / فليسَ في طبع الليالي الأمان
غدٌ بِظهرِ الغيب واليومُ لي / وكم يخيبُ الظنُ في المُقبلِ
أفقْ خفيفَ الظلِ هذا السحر / نادى دعِ النومَ وناغِ الوتر
فما أطالَ النومُ عمراً / ولا قصرَ في الأعمارِ طولُ السهر
لا توحش النفس بخوفِ الظنون / واغنم من الحاضرِ أمنَ اليقين
فقد تساوى في الثرى راحلٌ / غداً وماضٍ من الوفِ السنين
الشاعر عمر الخيام
ام كلثوم والشاعر احمد رامي
وآخيراً وجب أن لا ننسى طلب العفو والمغفرة ونردد مع عمر الخيام وأم كلثوم:
إن لم أكن أخلصت في طاعتك / فإني اطمع في رحمتك
وإنما يشفعُ لي أنني / قد عِشتُ لا أُ شرِكُ في وحدتك
اترككم في رعاية الله وحفظه وعسى أني استطعت أن أزرع الفرحة في نفوسكم من خلال قصة (كامل) والدولمة والذي ارجو له الصحة والعافية إن لازال على قيد الحياة والرحمة والمغفرة إن غادرنا إلى دار البقاء.
2325 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع