ثريا الشهري
فهمُنا للدين لا يخدم الدين ولا طبيعتنا البشرية. فأنت إذا فهمت، فهذا يعني أنك فكرت.
ومن شأن التفكير أن ينقلك من طرف إلى آخر. كيف؟ أظهرت الدراسات أن أكثر الناس أكلاً أخصهم جوعاً، إذ لا توازن، فإذا اعتقدنا أن الإنسان الذي تعوّد على ملء بطنه وأصبح الأكل بالنسبة له مسألة مستمرة، هو أبعده عن التفكير في الأكل، فنحن إنما نكون بتفكيرنا هذا مخطئين. ومثل الأكل إشباع الشهوات الأخرى، حتى إننا نلاحظ أن أكثر الناس نهماً في اتّباع الهوى، أوفرهم عرضه للسأم في ما بعد. فعندما تتخم من شيء فأنت ترفع من حافز التأهّب بداخلك لتنتقل بتفكيرك إلى الجهة المعاكسة، وقد تصل إلى فكرة التوقف عما أنت فيه، فخذ عندك أكثر الناس انحرافاً عندما ينتقلون بتفكيرهم إلى النقيض حيث التوبة والزهد لاحقاً، وهكذا هي آلية التفكير. فما لا نفهمه عن التفكير أنه يتجه إلى البعيد وليس إلى القريب، فالشيء البعيد يولِّد الطموح والشعور بالأمل، وربما السعادة لفكرة امتلاكه وكذلك اختلافه. كما الحبيبة البعيدة مثلاً! بل إن الزوجة إذا تطلّقت لتحلو في نظر طليقها، فيفكر بها متعجِّباً بعد أن كان ملّها وهي قريبة منه ومضمونة.
وعليه، عندما نصر على جرعاتنا العالية من المثالية والفضيلة الملائكية، وعندما ننسب هذا الأسلوب في التفكير اللاواقعي إلى الدين لا إلى تطرفنا في فهم الدين، فماذا تكون النتيجة؟ ينحو التفكير إلى الجهة الأخرى. فأنت تحذر من الاختلاط وفتنة المرأة، وستجد أن المرأة هي التي احتلت عليك تفكيرك، إن لم يكن طوال الوقت فمعظمه. فيصيبك الذعر من ارتكاب الخطيئة إن استمر عقلك بنهجه هذا مع كل التزمت. وبدلاً من التخفيف من تنطّعك، تتشنج أكثر في سدّ أي نوافذ وأبواب تؤدي بك إلى حيث مصدر غوايتك كما ضخمها تفكيرك. وكلما تشددت قفز بك عقلك إلى النقيض، ولذلك تجد أن رجال الدين منذ «الرهبنة» هم أكثر الناس جنوناً بالمرأة، فجاء الإسلام ومنع الرهبنة، وأحيا الإنسانية التي ننكرها اليوم.
حين قام الشباب المتجدِّد المهتم بصناعة السينما وتأثيرها بإنتاج فيلم سعودي بعنوان: «هيفاء» - لو استبدل بعنوان آخر غير مستهلك ولا مرتبط بأذهان الناس بالابتذال لكان الأنسب - ويحكي عن ارتباط المرأة بالأرض والمكان، ويهدف إلى إظهار جماليات المنطقة الطبيعية والبشرية. نقول حين تكلف هؤلاء بالمادة والوقت والجهد والعزم على إنتاج الفيلم وعرضه ضمن فعاليات مهرجان أبها، وتبادلت المواقع صور الجمهور المتنوع بين رجاله ونسائه في صالة العرض. قيل بعدها إن رجالاً عليهم «بشوتهم» تدخلوا لوقف العرض والحيلولة دون استمتاع العائلات بمتابعة الفيلم. وسواء أستجيب لهم أم استمر العرض، فهذا لا يمنع أن منظور تفكير الممانعين إنما يشوبه الخطأ وعدم الوعي، فحينما نملك الشيء لا يصبح مادة لتفكيرنا، بخلاف إذا حرمنا منه! ثم لم علينا أن نربط الدين بالتنغيص على الناس؟ وهذه المشاعر السلبية التي نربِّيها داخل النفوس باسم الدين، أليست ببساطة من تراكمات العقول الباطنة وستبحث لها عن فرصة للانفجار في وضع فوضوي لا يليق بنا ولا بديننا؟
مواقع التواصل الاجتماعي صارت وكأنها الوسيلة لتجاوزات حمقاء وتطاولات تمس الدين لم نكن نسمع بها قبلاً. وبمفاهيم مضطربة لم يعد أصحابها بقادرين على احتوائها، فظنوا أنه وبخروجها على السطح سيشعرون بالتحرر، والحقيقة أنهم غير مرتاحين في كتمانها ولا في ظهورها. فماذا فعلنا بعقول أبنائنا حتى بات الابتعاد عن الدين هو الخيار الأسهل للتمتع بالحياة في نظر شبابنا؟ وحتى لا تقع ضحايا أخرى من التشويه فلا بد من التصدي للمشوّهين بفتح الواو مرة وبكسرها أخرى، فهل فهم أوصياء الدين كم أضروا به وبنا على امتداد السنين؟ الدلائل الحاضرة لا تؤيد وجود مثل هذا الفهم، وإلاّ لما كنا بحاجة إلى التذكير الدائم بأن تقديم بعض التضحيات والتنازل عن بعض المسلّمات من ضروريات العصر طالما أنها ستقرب الناس من دينهم وتعينهم على التمسك به بصدق وحب، ذلك أن الوحي نزل لتنظيم الحياة، وليس لموتها أو خنقها أو تزييفها.
972 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع