خالد حسن الخطيب
مقهى بغدادي تراثي من العهد العثماني
حدثني احد المعاصرين ومن مترددي ( ( مقهى البلدية ) ) الكائنة في منطقة الميدان وسط بغداد الحبيبة حيث تقع ساحة المأمونية مقابل وزارة الدفاع وإمامها مقهى البلدية التي انشأتها بلدية بغداد في العهد العثماني وهي ملك لأمانة بغداد ، وكان يرتادها حشد كبير من المثقفين والإعلاميين والطلاب .
وكان محدثي يتردد على المقهى كطالب في الاعدادية المركزية في نهاية خمسينيات القرن المنصرم . و كانت هذه المقهى بإدارة قاسم القهوجي الذي كان يضع على رأسه السدارة البغدادية الاصيلة وبجانبه الشيشة او الاركيلة والتي كان مولعا بها باستمرار وإمامه طاولة كبيرة يتوسطها اناء نحاسي ( طاسة ) و فوقها صينية نحاسية صفراء يضع فيها النقود وطاسة اخرى يضع فيها ( فيشه وهي عبارة قطعه بلاستيكية بقدر العملة المعدنية ) وكانت تسمى في بعض الاحيان بمقهى قاسم وذلك للإدارة الجيدة التي كانت تدار من قبل هذا الشخص . وعند دخولك للمقهى كان هناك ممر وعلى جانبيه تخوت خشبية متقابلة يجلس عليها من يريد الجلوس امام الشارع العام من اجل الراحة والاستجمام وكذلك الموظفين ومراجعي دوائر الدولة وغيرهم وعند اجتيازك الممر وعلى جهة اليمين يجلس قاسم القهوجي بعدها تجابهك قاعة كبيرة مربعة كانت في السابق ملهى الف ليلة وليلة . . وفي وسط هذه القاعة يجلس طلاب الجامعات والمدارس من اجل القراءة والتعليم .
اما على يمين هذه القاعة فكانوا قراء المقام ومريديهم ويليهم القصابين وأصحاب المهن الاخرى .
اما مكان تحضير الشاي فيقع في نهاية المقهى حيث كانت القوارير الخزفية على شكل مشابه للطيور والحمام او البط و مزينة ومزخرفة بواسطة الالوان الطبيعيه مثل الورود والطيور والثمار وكذلك صور بعض الملوك والقادة القدامى من كافة اقطار العالم . وكان يستعمل الفحم لأجل صنع وإعداد الشاي الذي يعطيه نكهة مميزة حيث كان الشاي السيلاني الاصلي هو السائد والمشهور في ذلك الوقت حيث كان يأتي على شكل صناديق سعة كل صندوق 40 كيلو ومغلفة من الداخل بمادة السيلوفين الفضي ومن الخارج بواسطة قماش الجوت ( الجنفاص ) وعند فتح الصندوق لأول مرة تجد في داخلة هدية وهي عبارة عن فيل اسود بحجم قبضة اليد مصنوع من مادة الخزف كعلامة للجودة وتأكيد مصدر الشاي القادم من جزيرة سيلان التي تحول اسمها الى سيريلنكا .
هذا ومن الجدير بالذكر فأن معظم دور السينما في ذلك الوقت وقبل العرض السينمائي تعرض دعايات تجارية كان من ضمنها دعاية شاي سيلان الاصلي حيث تخرج فتاة سيلانية تلبس لباس الساري وبيدها قبضة من اوراق الشاي وأغصانه وتغني الاغنية التي كلماتها (( يا شاي سيلان ولا زيك شاي .... بين الاحبة رايح جاي )) هذا فان قبل افتتاح العرض السينمائي كانت تظهر صورة الملك والعلم العراقي حيث يذاع السلام الملكي فيقف جميع من في صالة السينما احتراما لجلالة الملك و تقديرا للعلم العراقي والسلام الملكي ...وينتهي بث السلام الملكي باختفاء صورة الملك .
اما في الجهة اليسرى من المقهى فيجلس فيها قراء المواليد والمناقب النبوية وقراء القران الكريم منهم الحافظ عبد الستار الطيار طيب الله ثراه وهو من مشاهير قراء القران والمناقب النبوية في العراق الذي كان حافظا للقران الكريم كاملا بدون استثناء وكانت لدية مقدرة على حفظ الابيات الشعرية عند سماعها للمرة الاولى او الثانية و كان رحمه الله يملك المقدرة على نظم الشعر بصورة ارتجالية .
ومن الجدير بالذكر كان الحافظ عبد الستار الطيار فاقدا للبصر وكان لدية خبرة عميقة وطويلة في معرفة انواع السبح فبمجرد لمسها بيده كان يعرفها فورا ما اذا كانت هذه المسبحة من نوع الكهرب الاصلي او غير ذلك وتحديد عمرها الزمني ومنشئها وسعرها الحقيقي و كذلك كان له القدرة الفائقة على تمييز و التفريق بين العملة الورقية الملكية والجمهورية بمجرد لمسها .
ويضيف الباحث والأديب العراقي المعروف المرحوم الاستاذ عبد الحميد الرشودي ان الحافظ عبد الستار الطيار هو اول ضرير يقود دراجة هوائية في منطقة باب الشيخ .
وكان الشاي الاضافي الاجباري يقدم بعد الساعة الثانية عشر ظهرا لقاء اجور وقدرها عشرون فلسا وذلك لان طلاب الجامعات والمدارس تجلس في المقهى لمزاولة الدراسة في هذا المقهى منذ الصباح الباكر حتى المساء وصاحب المقهى يحتاج الى تمشية بضاعة الشاي حيث ان هؤلاء الطلاب كانوا يحتجزون المقاعد لمدة طويلة حيث كانت تؤثر على قدوم زوار المقهى الجدد فتعويضا لهذه المدة يقوم قاسم القهوجي وخلفه عامل الشاي وبيده صينية الشاي فيأمر العامل بتوزيع الشاي اجباريا على هؤلاء الطلاب الذين تناولوا استكان شاي واحد والذي كان يقوم بهذه المهمة العامل ( خضير ) .
أما عامل الاركيلة او الشيشة فكان ( رشيد) الفكاهي صاحب الدعابة والابتسامة الذي كان يغرد بفمه ويقلد صوت البلابل تماما بحيث ان الجالس الجديد ولأول مرة يتصور ويعتقد تماما بان هنالك اربعة او خمسة اقفاص في داخلها طير البلبل الحقيقي داخل صالة المقهى .
ومن الذكريات التي امتدت لأكثر من خمسون عاما كان هناك رجل طويل القامة اسمه فهمي يقوم بمهمة صبغ الاحذية والتي لا يمكن ان يجيدها احدا مثله فكانت مهارته تفوق الوصف في صبغ وتلميع الاحذية وكان يتمتع بروح الدعابة والنكتة ويخوض في المواضيع الادبية بشكل لبق حتى تكونت مع زبائن المقهى علاقات وشيجة لا يمكن نسيانها الى الابد .
وتجدر الاشارة ان بائعي الصحف المحلية في العهد الملكي وتحديدا من ( 1945 – 1958 ) كانوا يحملون الصحف المحلية ويضعونها امام كل طالب او جالس في المقهى لقاء مبلغ وقدرة عشرة فلوس ولمدة نصف ساعة تقريبا حيث يقوم القارئ بقراءة جميع الصحف الصادرة لذلك اليوم ومنها على سبيل المثال – صوت الاهالي – الاستقلال – السجل – البلاد – الزمان – الاخبار – وبعدد اربعة صفحات فقط وليس ثمانية لكل جريدة , مما يدل على ان هناك وعي ثقافي وفكري في اطياف المجتمع العراقي .
وكانت القاعة عديمة الشبابيك الجانبية حيث كانت الشبابيك مرتفعة وتسمى الهوائيات .
وفي 10 / 12 /1968 من القرن المنصرم تم نقل المدفع الشهير ( طوب ابو خزامة ) ووضع على قاعدة كونكريتية في حديقة مجاورة الى وزارة الدفاع ومقابل مقهى البلدية وهو احد المدافع التي اصطحبها السلطان العثماني مراد الرابع الى العراق .
وكان موقع هذا المدفع موجود في الباب الوسطاني الذي يقع على باب سور بغداد في منطقة الشيخ عمر السهروردي ( الشيخ عمر ) حيث يمكن مشاهدة هذا الباب التراثي من قبل سالكي الطريق السريع ( محمد القاسم ) , حيث كان اهالي بغداد القدماء يقدسونه في قضاء الحاجات ويعتقدون ان لهذا الطوب صلة قدسية فمنهم من يعتقد بان ادخال راس الطفل الوليد حديثا في فوهة المدفع ثلاثة مرات يعطيه المناعة ضد الامراض ويصبح رجلا فارسا قويا وكذلك النساء اللاتي لم يحالفهن الحظ في الانجاب يذهبن لزيارته من اجل التضرّع بغية الانجاب .
اما طول المدفع فهو بقرابة اربعة امتار و محيط الفوه بحدود نصف متر ومصنوع من مادة النحاس وعلية زخارف وآيات قرآنية وسنة الصنع ( 1047 هجرية) وموضوع امامة ثلاثة كرات حديدية تسمى الدان ( الدانات ) (وأهل بغداد يسمونها زرزبانه ) ومن عادت اهل بغداد وضع الحنة على هذا المدفع للتبرك وشد بعض الخرق طلبا لقضاء الحاجة .
واستمر العمل بهذه المقهى لغاية الثمانينيات حيث شغلت هذه المقهى من قبل مديرية الحسابات العسكرية وذلك بقربها من وزارة الدفاع .
1888 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع