وحدك أخيراً

                                           

                         محمد آيت علو

وحدك أخيراً...

كالحلزونِ، عهدناهُ مَرِحاً، خفيفَ الرُّوحِ والظلِّ، في الِجدِّ كما الهزلِ، كُنا نَدْعوهُ" بابا سيدي" نجتمعُ إليهِ كلَّما عُدْنَا منَ المدرسَةِ، يرشِدُنا ويقَدِّمُ لنا نصائحَهُ الغاليةَ، وكان يحكي لنا حكاياتهِ الَّتي لا تنتهي عن حرب"لاندوشين"، وفوق كل ذلك، لا يبخل عنا بالحلوى والنقود، كنا ننْشَرِحُ حينما نراهُ، وكان يبدُو سعيداً أَيضاً، كلَّما اجتمعنا حولهُ، وكأنَّنا أولادهُ وأسرَتهُ! وما ترسَّب في ذاكرتي المثقوبة، أنَّهُ كان أول من كون فريق حيِّنا "للا أميرة" لكرة القدم، بهذَا الحيِّ كان يَنزوِي أشبهَ ما يكونُ بنفايةٍ مرميةٍ هُنا، وقد اتخذَ من دُكَّانٍ ضيِّقٍ بيتاً وَمَسْكَناً لَهُ.

بطولِ ثلاثِ حيطان صورٌ من ورقِ الإعلاناتِ لممثلات"هوليود"، بابُهُ الخشَبيِّ صارَ مَرْتَعاً للسُّوسِ، وعلى دَفَّةٍ من دفَتيِ إحدَاهَا المتآكِلَةِ بطفيلياتِ الخشَبِ، عُلِّقَتْ مرآةٌ مُكَسَّرَةٌ تَبْعَثُ عن جُرحٍ قديم عميقٍ، كأخدودٍ انكساريٍّ لأحلامَ وَرْدِيةٍ ضاعت في أعقابِ أَعْوَادِ الثِّقاب، صاحبها يعيشُ أحلامَ"الدونكشوت"، وتحتَها مِقلاةٌ لطَهيِ سمكِهِ الملَوَّثِ بِنفْطٍ بعيدٍ، وشبكَةِ صَيْدٍ حمراءَ ذاتِ عُيونٍ كبيرةٍ، لم تعد تنفَعُ أمامَ شُباَّكٍ مثلَ الغِربالِ، وفي أعلى الدَّفَّةٍ المثبتَةِ، عُلِّقَ قفصٌ لعُصفورهِ الحزينِ، وبالدَّاخلِ عتبةٌ من الأرضِ مرفوعة، فوقها حصيرةُ مجدهِ الغابرِ، صفراءَ بالية، ممدة عليها زربِية من القُماشِ المطليِّ بالرُّقعِ الزاهيةِ، المزَرْكشَةِ بكُلِّ ألوانِ الفُصولِ، تُنبِؤُ بتاريخٍ مَنسيِ الموعدِ والفرحَةِ، وفي الجانبِ الآخرَ مائدةٌ من خشبِ العرعارِ، عليها إبريقُ شاي، وصحن، وفنجان خزفي يشهدُ بعبقرية إبداع" العملي" مكسورٍ، يضعُ فيهِ سجائرَهُ عادةً، وعلى الأرضِ كُرسِيٌّ وحقيبةٌ باليةٌ، فوقَها مجلات وجرائد من كلِّ صوتٍ وصدَى، وعُلَبُ للتِّبغِ، وبعض النقود ومذياع، بين هذا المتاعِ كان يبدو لنا سعيداً، وكان أهلُ الحيِّ يستجيبون له في كرمٍ، وكأنهم يقرأونَ وحدتَه، وكلما أحَسَّ بالجوعِ، كانت في انتظارهِ أطباقٌ حافلةٌ من الطعام، كان يُقبِلُ عليها بكُلِّ شهيةٍ ونهمٍ، ثم يقفُ مُتَخَشِّعاً مبهوراً متنهداً، وهو يتطَلَّعُ إلى عصفورهِ الوحيد، جاذباً أنفاسـاً عـميقةً من سيجارتهِ الَّتي أوقَدها، وفي يدهِ اليُسرى، كوبُ شايٍ، وضبابُ السِّيجارةِ والكوبِ يرتفعُ إلى أعلى، إلى أعلى، إلى أعلى...!
خمسة عشر سنة...، فباستثناء الأتربةِ الَّتي صارت مطلية بكدرون" الزفت"و"الشيخة الحاجة فاطنة"التي اشترتِ المنزلَ، الذي يضُمُّ دكان"بابا سيدي"و"مقدم الحيِّ" العتيقِ، الذي غيرحجرهُ الأساسَ، غير هذا كلُّ شيء قابعٌ في مكانه، لا شئ تغيَّرَ، أصبح الآنَ قبُالةَ هذا البائسِ من شهادةِ السكنى، والميلاد، وشرف المقاومة، وصباح ككل الصباحات المشدودةِ بالمللِ، والتي لاتندرُ بميلادِ شيءٍ جديدٍ لدى"بابا سيدي"، الَّذي تقوَّسَ ظهرهُ، يحملُ غسيلَهُ لينشرهُ بالخارج أمام دفتي بابهِ المشمَّسَةِ بخُيوطٍ عموديةٍ، وكأنها تنسجُ خُيوطَ زمنٍ انفلتَ من قبضةِ يدَيْهِ، ومذياعهُ يعاوِدُ ترتيلةٍ صباحيةٍ قديمةٍ "عش أنت"، يعاودُها هوَ بتنهيدةٍ منَ الأعماقِ، وهذه "الشيخة"منحنية إلى الأرض، تسيحُ الماءَ في كُلِّ مكانٍ، كانت عظيمة الخلقة، مكتظة الأعضاء، ورائحتها المنبعثة عن بعد، جذبت "المقدم" الذي يرغي ويزبد معها في الحديثِ، وسِهامُ نظراتهِ تحلِّلُ، وتفصل تفصيلا، تفسرها حركات فمه، دفع"بابا سيدي"البابَ، وكان له صريرٌ كئيبٌ، وهو يرَدِّدُ حَنْحَنة، وآخ...ويطيلُها، كما لو أنَّ آثارَ الجراحِ فيما يبدو لم تندَمِلْ بَعْدُ، من هؤلاء الَّذينَ يسقُطون ويفُوزُون!؟ أشعلَ"بابا سيدي"عودَ الثِّقابِ، وعلى ضوئهِ إهتدَى إلى الدَّاخلِ، كان يريدُ أن يتكئ، لكن أشياءَ كثيرةً كانت تحدثُ من حولهِ، أحَسَّ برَجْفَةٍ تهزُّهُ، الوحدةُ، الملَلُ، التَّعَبُ، والإرهاقُ، والأيامُ المتشَابهةُ!؟ صمتٌ وسكونٌ، ماضيهِ كلُّهُ شَعَر بِهِ؛ فجأةً، أحَسَّ بالإشفاقِ على نفسهِ، أحسَّ بأنَّهُ مِسكينٌ، وأنَّ حياتَهُ ليسَ لها معنى، وبلا قيمَة، فلماذَا يعيشُ؟! بل وكيفَ عاشَ الفترةَ الماضيةَ كلها، لو كان لهُ بيتٌ، وأُسرَةٌ ككلِّ النَّاسِ، لو كانَ استقَرَّ، كان يحِبُّ أن يعيشَ في سلامٍ، حُرًّا طليقاً، والآنَ، بلِ اللَّحْظةَ شعَرَ أنَّ حريتَهُ قتلَتهُ، أحَسَّ بأنَّهُ ميِّتٌ، ألقى بجسَدِهِ، لا يهمُّهُ شيء الآنَ، سِوَى أن يَرتاحَ، أَحْشَاءُ الفِراشِ تخرجُ منها أسرابٌ منَ النَّملِ، والحشَرات، أحسَّ بها تتسَلَّلُ إلى ملابسِهِ، ثم إلى جسَدهِ، هَبَّ واقفاً، الضَّيْقُ يكادُ يخنقُهُ، غيرُ قادرٍ، والموتُ يتسللُ إليهِ في خُفوتٍ، أحسَّ بحَجْمِهِ يتَضَاءلُ، ويَنْكَمِشُ وقد ألم على ذاتهِ...!
ليبقَى ذلكَ الإنسان، الَذِي لم يوُلَدْ لذلكَ الشيء، والذِي تَغنى بأغنيةِ "الخلود"، في قَفصِ العُصْفُورِ، مُتَلَبِّساً بِرُوحٍ لا تُشْبِهُهُ، وليكونَ لقمةً لحفرةٍ جائعةٍ في زَمَن حَلَزُوني....

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

835 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع