ضرغام الدباغ
الحكمة في اتخاذ الموقف الصحيح ...!
• ما هو الموقف الصحيح ...وكيف نتوصل إليه ...؟
• هل هو الموقف الذي يلبي مصالحك بصورة تامة ....؟
• أم هو القبول بالأمر الواقع مهما كانت نتائجه..
• أم أن السياسي المحنك قادر على صياغة الموقف الأفضل الملائم لمصلحته.
في الحالة الأولى :
تحقيق المصالح الوطنية البعيدة المدى / الشاملة، أو الأهداف التكتيكية، هو هدف العمل السياسي وأداته المختصة المحترفة الدبلوماسية. ولكن ينبغي فحص كل حالة بدقة تامة وتفصيلية بواسطة موظفون سياسيون مختصون وبالاعتماد على مصادر دقيقة. وتبلغ الدقة درجة رفيعة حين يتمكن السياسيون، والموظفون الأكفاء قياسها باستخدام الرياضيات العالية، ووسائل أخرى (تبادل الأدوار)، للتوصل إلى أدق نتيجة ممكنة، وعلى ضوء نتائج الفحص والجرد والتدقيق الذي يشترط أن يكون على درجة عالية جداً من النزاهة، والابتعاد عن الانفعال وأحكام الهوى، تصاغ قرارات تضمن (بدرجة كبيرة) نجاح المسعى السياسي. أو باستخدام المؤثرات. وفي حالات كثيرة تحول ظروف موضوعية وذاتية دون الحصول على كامل الأهداف، والأقل من النجاح التام هو أيضا نجاح، وإبقاء الطريق سالكاً للمساعي السياسية، هو أفضل من قطع الجسور وأقفال أفق العمل.
في الحالة الثانية :
القبول بالأمر الواقع ونتائجه، هي الفقرة الأخيرة قائمة الممكن، وهنا يقدم السياسي / الدبلوماسي البارع أفضل ما يمكن من المساعي السياسية بأستخدام أساليب عمل مدروسة، حيال العجز التام في تحقيق موقف لصالحه، مستخدما ثقافته وتجربته وحكمته، في تقليص حجم الخسارة، بالقدر الممكن، ومحاولة تليين مواقف الطرف/ الأطراف المقابلة، وإعادة صياغة الموقف، والنتائج، بصبر وتوءدة، ولا تبخس قيمة أي جهد يمكن أن تصحح وتعدل النتائج النهائية مهما كانت بسيطة، فهذه الدرجة البسيطة ستشكل ربما القاعدة التي ترتكز عليها فعاليات ومجهودك اللاحق في تصليح الموقف.
نسعى ... البشر والحكومات لتحقيق الأفضل .. والأفضل هو كامل برنامجك ومخطط وما تريد، ولكننا وخاصة في عالم اليوم، يصعب الحديث عن مصالح لا تصطدم أو تحتك، أو تمس مصالح الآخرين، أفرادا كانوا أو حكومات، وحتى حين تسكن في شقة بمفردك، سيسألونك أت كنت تحتفظ بكلب أو حيوان في الشقة، فذلك قد يزعج بعض الجيران بدرجة ما، وسوف لن يسمح لك بأن ترفع صوت التلفاز أو الراديو بعد الساعة العشرة مساء، وتصرف الأولاد يجب أن يضبط بدقة، والبعض يستاء أن حضرت وجبة رائحة الطبخ فيها نفاذة ...الخ إذن الحديث عن تحقيق برنامجك لا يخلو من صعوبات، وعليك ان تخطط لتنفيذ مشاريعك بصبر، ولا بأس على مراحل لكي لا تبدو طموحا جموحا حيال الآخرين فيخشونك ..!
المهم هو أن تحقق درجة من النجاح وتحقيق تقدم بأي نسبة من برنامجك، هو أمر جيد ..
مثال مهم : حسب الظروف السياسية والعسكرية المعروفة إلى أدت إلى نتائج سلبية، تمكن العدو من احتلال كامل شبه جزيرة سيناء البالغ مساحتها (60088 كم مربع)، بأستثناء جزء من محافظة بورسعيد الواقع على الجانب الشرقي لقناة السويس (بورفؤاد)، وتحديدأ منطقة صغيرة لا تتجاوز بضعة كيلومترات (رأس العش)، تمركز فيها فصيل من القوات الخاصة / الصاعقة (30 جندي)، وحين أراد العدو إتمام سيطرته على سيناء (1 / تموز / 1967) صمد فصيل الصاعقة وقاوم إرادة العدو ومنعه من تحقيق هدفه وتواصلت القوات المسلحة المصرية في المنطقة، وهذه المنطقة أصبحت رأس جسر لعمليات تحرير سيناء في حرب اكتوبر / 1973.
والسياسي الحكيم هو الذي يمكنه التوصل إلى قرارات صحيحة، أو خالية من الأخطاء أو قليلة الثغرات، ويستعين السياسي بخبراء ومساعدين ومستشارين اخصائيين، وصناعة القرار ليست عملية عشوائية، بل هي أشبة بورشة تمر بمراحل ودوائر عديدة وقد تستغرق وقتاً طويلاً، وبمرور الزمن، ومع ارتقاء الاقتصاد إلى مستويات عالية من الأهمية في العلاقات الدولية، توجب على القادة السياسيون متخذو القرار السياسي، الاعتماد بدرجات أكبر على العلماء والخبراء، وإعطاء فسحة أكبر للمداولات، وتغيرات في المادة موضوعة التداول، فإن طرأ تحسن بدرجة معينة، تعدل الخطط المقابلة، وإن ازداد سوءاً فسينعكس على أوساط متخذي القرار ويبرر أتخاذ قرارات صلبة.
التفكير في البدائل
بتقديري أن للسياسي أن يلجأ للمناورة وأن يجيد ذا الفن ...!، بل من الضرورة أن يضع السياسي في حساباته مواقف بديلة، أن أصطدم قراره أو مشروعه بموانع صلبة، فمن أجل تجنب الفشل وتراجع العزم والاندفاع، فهو يمكن له أن :
• يعيد صياغة مشروعه ليبدو أقل أستفزازاً للآخرين، وأكثر مقبولاً.
• أن يقبل بتجزئة برنامجه إلى مراحل.
• أن يطمئن الجهات التي تعتقد أن في برنامجه هواجساً لها.
• أن يشرك آخرين في برامجه ويشعرهم أن من مصلحتهم دعم مشروعه.
• أن يتقبل بواقعية أن مشروعه لا يلقى القبول اللازم، أو نه سيصادف عراقيل جمة، أو خسائر أكثر من الفوائد، لذلك عليه أن يحدث التغير المناسب لكي يكون مقبولاً.
• أن يتقبل أخيرا إذا لاحظ أن أمام المشروع موانع جمة، عليه أن يجد البديل، وقد يكون البديل لا يصيب الهدف، ولكنه سيقذفك بالقرب منه، أو يبقيك لاعباً في الميدان.
• ليست هناك نظرية سياسية تقام على أساس " أنا والآخرين في الطوفان " مصالحي أنا ومصالح الآخرين في الجحيم "، هذه طروحات لا علاقة لها بالسياسة.
• حتى إذا كنت قوياً بدرجة خارقة وقادراً بقواك الذاتية المادية والمعنوية، على فرض إرادتك، عليك أن تحسب ردود الفعل في الملعب وعلى أطرافه القريبة والبعيدة.
• من الضروري أن يكون كل موقف يقام على أساس مراعاة القانون وقواعد التعامل، وحتى الجوانب الأخلاقية على ضعفها في عالم اليوم ...!
الدبابة الحديثة تزن 60 طناً من الفولاذ، طائفتها مكونة من 4 جنود مدربين تدريبا ممتازاً، سعرها بين 4 ــ 5 مليون دولار، تحمل 50 ــ 60 قنبلة متنوعة : خارق للدروع، مهداد ضد المباني والموانع، منثار ضد الأفراد، وربما أنواع حديثة، مزودة بمقدرة مدى، وجهاز للرؤية الليلية، بوسع سلاح خفيف يديره جندي واحد لا يستغرق تدريبه أكثر من يوم واحد، بقاذف لا يتجاوز سعره 100 ــ 300 دولار أن يدمر هذه الدبابة بصاروخ لا يتجاوز سعره 80 دولار. وعلى قائد الدبابة أن يحسب في عمله أن يطلق النار وينتقل فورا بلا تأخير إلى موقع بديل يختاره سلفا، وإلا فسيتلقى صاروخاً (بحشوة جوفاء) يدمره بعد ثوان.
المقاتل يفعل ذلك بحسه القتالي العالي، وربما بتجاربه، والسياسيون لا يرون ذلك عيانياً، لأن ذلك هو في فلسفة العمل السياسي لا يشاهد بالعين المجردة، ولا يدرك إلا بأستخدام العقل ..
لاحظوا (والأمثلة على الممارسات السياسية كثيرة) درس ألقاه الرسول محمد (ص)، متنبئاً بحدوث فتن سياسية : " ستكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي ".
ثم لاحظوا الذكاء الفطري عند أعرابي نطقها بصراحة البدوي الذكي، حين سأل مع من هو في النزاع بين علي بن أبي طالب ومعاوية: فقال " اللقمة مع معاوية أدسم ، والصلاة وراء علي أتم، والجلوس على التل أسلم.
ولاحظوا موقف فرقة المرجئة من الخلاف بين علي أبن أبي طالب ومعاوية :
نرجئ الأمـور إذا كانـت مشـبهة ونصدق القول فيمن جار أو عندا
وما قضى الله من أمر فليس له مرد وما يقضي من شيء يكـن رشدا
أمـا عـلي وعثـمان فإنـهما عبدان لم يشركا بالله منذ عبدا
يجزي علي وعثـمان بسعيهما ولست أدري بحق أية وردا
الله أعلـم ماذا يحضـران به وكل عبد سيلقى الله منفرداً
ثم لنلاحظ كيف تعامل أثنان من الرؤساء الأمريكان حيال قضية الحرب في فيثنام :
ــ عرض المستشارون في القصر الأبيض على الرئيس ليندون جونسون 1964، بعد أن تفاقم الوضع في فيثنام وغطست الولايات المتحدة في مستنقعات فيثنام، وكان على الطاولة خياران: الأول إما قصف فيثنام الشمالية (هانوي) بالسلاح النووي ولهذا تداعياته السياسية، أو تطبيق خطة تدمير شامل بالأسلحة التقليدية، وغير التقليدية الخفيفة (غازات، رش الكيمياوي على الغابات وإبادتها، قنابل عنقودية، ونابالم) وسميت الخطة النيران المتدحرجة (Rolling Thunder). فأعتقد الرئيس جونسون أن الخيار النووي الأول ستكون له تداعياته الخطيرة جداً غير مرغوبة، فلجأ للخيار الثاني وجرى تنفيذه.
ــ حين تسلم الرئيس ريشتارد نيكسون (1969) كانت الحرب في فيثنام في أسوء مراحلها، تأكد الرئيس بفطنته (وهو من أكفأ الرؤساء الأمريكان) أن لا حل عسكري لهذه الحرب، وأن تكاليفها باهضة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فأيقن أن الأمر بحاجة لاتخاذ قرار كبير، وصعب، وتسليم بالحقائق، وهو ما عبر عنه بالتفاوض في باريس مع الثوار الفيثناميين (1973)، والانسحاب من هذا البلد.وهذا الخيار على صعوبته، إلا أنه كان الممكن الوحيد، وتم الوصول إليه بطريقة سياسية / قانونية. واتخاذ الموقف الصحيح العب، هو موقف كفوء وذكي، ويدل على حكمة وبعد نظر، خير من المضي في طرق المهالك.
1466 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع