بقلم أحمد فخري
قصة حقيقية - ليلة الهروب من بغداد
1954
كان الصف مليئاً بالطلاب وكان الضجيج والصخب يملأ الاجواء بسبب تأخر استاذ اللغة العربية. صاح مراقب الصف قائلاً يا زملائي ان ما تعملونه شيء مخزي. ماذا لو دخل علينا استاذنا الآن؟ ارجوكم اهدأوا قليلاً وليلتزم الجميع بالسكينة. لكن الطلاب استمروا بهرجهم ومرجهم، فمنهم من كان يقتتل مع زميله وآخر يغني بصوت مرتفع وطالب يصرخ باعلى صوته ويقول، "اشتروا صابون لوكس، لوكس يرطب البشرة وينعش البدن برائحته الفواحة" وفجأة دخل عليهم استاذ اللغة العربية فعم الهدوء بالقاعة وكلٌ رجع الى مقعده. نظر اليهم استاذهم بازدراء وغضب إذ قال،
الاستاذ گرجي : ما هذه الضوضاء التي تعملونها؟ ما هذا الانحطاط الخلقي الذي وصلتم اليه؟ اهكذا علمتكم ان تتصرفوا؟ اهكذا هي اخلاق العراقي وقت الازمات؟ يحزنني جداً ان اراكم بهذه الحالة الغير لائقة. لقد اصبتموني بالاحباط يا طلابي. كم كنت افتخر بكم امام باقي الاساتذة واقول لهم ان طلاب الصف الثاني متوسط (ب) هم افضل واهدأ واذكى طلاب بكل المدرسة. ان مدرستنا هذه مدرسة فرنك عيني هي من المدارس النموذجية وتعتبر من اعرق وافضل المدارس ليس ببغداد وحسب بل بالعراق ككل. انا جداً حزين ومستاء وغاضب من تصرفكم هذا. صحيح اني تأخرت 10 دقائق عن موعد الحصة. لكن هل سأل احدكم عن السبب؟ قم انت يا علي. لماذا انا متأخر عن الحضور؟
وقف علي وكأنه عمود من عواميد المدرسة دون ان ينبس ببنت شفة.
الاستاذ گرجي : قم انت يا حسقيل وقل لي لماذا تأخر استاذك اليوم؟
وقف حسقيل بخجل وكأنه بكيم ينظر الى زملائه يستغيثهم.
الاستاذ گرجي : وانت يا شاؤول، هل لديك تفسير لماذا تأخر استاذك اليوم؟
لم ينطق شاؤول ولا حتى بهمسة، بقي يبحلق بالارض وكأن الجواب مكتوبٌ هناك.
الاستاذ گرجي : وانت يا صباح، الست ابني من لحمي ودمي؟ والكل يعرف ذلك. الم تقل لهم ان والدتك تمر بولادة عسيرة بالدار؟ الم تقل لهم انني تأخرت بسببها؟
كان صباح يبكي والدموع تسيل كالانهار على خده المنتفخ الاحمر.
الاستاذ گرجي : هذه آخر مرة تتصرفون بمثل هذا التصرف الغير لائق. اريدكم ان تعودوا الى سابق عهدكم. اريد ان يكون واحدكم نجيب، اصيل، كريم، شريف، شهم، نبيل، المعي، جليل، حاذق، حصيف، حليم، ذكي، رزين، رصين، صافي الذهن، عاقل، فاضل، فطن، كيّس، لبيب، متوقد الذكاء. لا ان يكون مضطرب، هرج، متوتر، ثوروي، غير منتظم، فوضوي، غير مرتب وفاقداً للمسؤولية. لماذا تتصرفون بهذه الطريقة يا اولادي؟ اهذا عهدي بكم؟ اهكذا علمتكم الاخلاق الحميدة؟
عم الهدوء والسكينة بين الطلاب تكاد لا تسمع سوى اصوات انفاسهم. اردف استاذهم وقال،
الاستاذ گرجي : ارجو ان لا يتكرر هذا النمط الغير لائق مستقبلاً. اوعدوني انكم ستتصرفون بلباقة اكثر. والآن سنبدأ الدرس. من منكم يستطيع ان يعرب الآية القرآنية التالية:
مسك الاستاذ گرجي الطباشير وكتب على السبورة (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)
صار الطلاب يرفعون اياديهم فرجع الصف الى سابق عهده. وبدأ الاستاذ گرجي يلقنهم العلم والاخلاق بكل اخلاص وهمة وحماس. بعد ان انتهت الحصة رجع گرجي الى غرفة المدرسين فوجد مدير المدرسة الاستاذ عبد الله عويدا واقفاً بوسط الغرفة بمنتهى التوتر. نظر الى گرجي وقال،
عبد الله عويدا : گرجي، مليح جيت. بدالك قيغيدونك بالبيت. ماعغف شصايغ عدكم. يمكت المدام قتولد.
لم يرد گرجي على ما قاله مديره الاستاذ عبد الله لكنه حمل حقيبته وخرج مسرعاً من غرفة المدرسين ومن المدرسة ككل. وبما ان المدرسة كانت بمنطقة العلوية بحي الوحدة. فان الطريق لم يأخذ منه سوى دقائق معدودة حتى دخل منزله مسرعاً وصعد فوراً الى الطابق العلوي بالدار كي يقف على حالة زوجته راحيل. دخل الغرفة فوجدها في السرير وبجانبها جارتها ام علي. نظرت ام علي صوب گرجي وقالت،
ام علي : الامر بغاية السوء يا ابو صباح. يجب ان تستدعي القابلة الآن. لم يعد هناك مجال للتأخير والانتظار.
خرج من البيت ثانية وركب سيارته قاصداً منزل القابلة فضيلة. هناك قرع الجرس ففتحت له الباب وسألت،
فضيلة : اهلاً استاذ گرجي. هل وقع شيء لراحيل؟
گرجي : انها بحالة مزرية يا اخت فضيلة. ارجوك اسرعي. ساخذك بسيارتي.
فضيلة : كلا، اذهب انت قبلي وسالحق بك لاحقاً.
گرجي : ارجوكِ لا تتأخري فهي في حالة صعبة.
رجع گرجي الى منزله ووقف بالصالة ينتظر مجيء القابلة. بقي ينتظر وينتظر لساعتين كاملتين وفجأة سمع صوت الجرس يقرع بالحاح فهرع اليه ليفتحه واذا بالقابلة تقف امامه حاملة حقيبتها السوداء.
گرجي : لماذا تأخرتِ يا اخت فضيلة؟ ان زوجتي راحيل على وشك الولادة باي لحظة.
القابلة فضيلة : لقد كانت عندي ولادة عسيرة قبلكم.
گرجي : لكن راحيل تتألم كثيراً وقد ازدادت حدة الطلق عندها.
القابلة فضيلة : ما هي الفترات ما بين الطلقة والطلقة؟
گرجي : انها غير منتظمة. احياناً تأتيها كل ساعة واحياناً تأتي كل عشر دقائق.
القابلة فضيلة : حسناً، اريدك ان تعدّ الماء الساخن.
گرجي : ساحضره فوراً.
دخلت القابلة على راحيل وبدأت تفحصها لكنها تبينت فوراً ان مخاضها عسير وانها ليست على ما يرام فنبضها غير منتظم وهي تتعرق كثيراً، آلامها كبيرة جداً وقد لاحظت ان فترة الطلق دامت 8 ساعات. بدأت تفكر بالولادة القيصرية لان الامور تسير من سيء الى اسوأ. خرجت من الغرفة لتجد گرجي متأزماً ينتابه القلق الهستيري قالت له،
القابلة فضيلة : يا سيد گرجي من الافضل نقل زوجتك الى المشفى فحالتها تتطلب تدخلاً جراحياً. ولادتها غير طبيعية. ولديها الكثير من المضاعفات. يجب اجراء كورتاج فوراً.
گرجي : اتقصدين ان هناك خطر على حياتها وحياة جنينها؟
القابلة فضيلة : لا اخفيك القول يا سيدي اجل كلاهما بخطر كبير.
وضع گرجي زوجته في سيارته وانطلق بها باتجاه مستشفى الراهبات بالكرادة داخل. فور دخوله من البوابة الرئيسية تلاقفتها الراهبات وطلبوا منه الانتظار خارج غرفة الولادة. بقي يمشي بالممر الطويل ذهاباً اياباً لمدة ساعتين او اكثر، يعاني من اقصى درجات التوتر لانه مرتعب على حياة زوجته و حياة جنينها. فراحيل سبق وان انجبت له ابنته البكر ليلى وولداً بعدها اسمه صباح واليوم هو ينتظر المولود الثالث بفارغ الصبر. فهو لا يكترث إن كان ذكراً ام انثى. المهم عنده ان يكون بخير وتصبح راحيل بخير. غير ذلك لا يهم بتاتاً. وبينما هو يتصارع مع تلك الافكار خرجت احدى الراهبات وكان القلق بادياً على وجهها سألها بتواضع كبير اشبه بالتوسل،
گرجي : اجل يا ماسير، اخبريني هل ولدت زوجتي؟ هل هي بخير؟
الراهبة : انا اسفة يا سيدي لقد خسرنا السيدة راحيل. لكن المولود بخير.
طأطأ رأسه الى الارض وسار بعيداً عنها ثم عاد ونظر الى الراهبة وقال،
گرجي : يا ويلتي ويا حزني على حبيبتي راحيل. لماذا رحلت وتركتني وحيداً؟ ماذا تقولين يا راهبة؟ ماذا ساعمل بالمولد الجديد الآن؟ كيف ساربيها وحدي؟ من سيرضعها؟ من سيرعاها؟ من سيعتني بها؟
الراهبة : ان المولود طفل وليست بطفلة.
گرجي : وماذا اعمل بالطفل بدون امه؟ كيف ساعتني به وهو رضيع وانا وحدي والاوضاع بالعراق تسوء يوماً بعد يوم؟
الراهبة : ستأتي الراهبة كرستين بعد قليل وستجلب معها المولود الجديد. انا آسفة يا سيدي. ساصلي من اجلها واطلب من الرب ان يحمي طفلكم. لا تنسى ان الطفل هو موهبة من عند الرب سيد گرجي.
توارت الراهبة عن الانظار وهي تدخل غرفة الولادة من جديد تاركة گرجي مثقلاً بالهموم والاحزان. وما هي الا دقائق وخرجت راهبة ثانية تحمل الطفل. وقفت بجانب گرجي وقالت،
الراهبة : هيا يا ولد سلم على ابوك.
نظر اليه گرجي وصار يبكي بكاءاً مراً وانسابت دموعه على وجنتيه. اعطت المولود لاباه فاخذه منها ونظر اليه وقال،
گرجي : لماذا سلمت انت وماتت امك؟ لماذا لم تمت انت يا ولد؟
رفع رأسه ونظر الى الراهبة وقال،
گرجي : اللعنة عليه انه ابرص يا راهبة.
ضحكت الراهبة وقالت،
الراهبة : اجل سيدي انه اشقر ووسيم جداً. سيحرق قلوب الكثير من السيدات عندما يصبح شاباً. سوف ترى.
قبله ابوه ثم اعاده للراهبة فادخلته الى غرفة الاطفال. وبعد قليل عادت تحمل معها دفتراً وسألته،
الراهبة : هل اخترت له اسم سيدي؟
گرجي : قامت راحيل اقصد المرحومة راحيل باختيار اسمين تحسباً لان يكون ذكراً او انثى. سيكون اسم ابني هو فريد. فريد گرجي سوفير.
الراهبة : اسم فريد جميل. انه مثل اسم فريد الاطرش.
كتبت الاسم وعادت الى غرفة الولادة. رجع گرجي الى المنزل واخبر اولاده صباح وليلى بخبر وفاة والدتهما. فكان ذلك الخبر فاجعة كبيرة لهم مما ادخل العائلة بفترة حداد دامت شهراً كاملاً. بتلك الفترة كانت نساء الجيرة يتناوبن على رعاية المولود الجديد ويقمن بارضاعه من الحليب الصناعي. حتى جائته يوماً احدى السيدات تدعى مدام كرستينا فقالت له،
مادام كرستينا : هل قررت كيف ستقوم بالعناية بفريد؟
گرجي : لا اعلم سيدتي انا قليل الخبرة بمثل هذه الامور.
مادام كرستينا : انا اعرف سيدة اسمها مريم هاكوبيان. سيدة ارمنية وانسانة رائعة ومهذبة لابعد الحدود بامكانها ان تسكن عندكم بالدار وتعتني بفريد. ما قولك؟
گرجي : إذا كانت لا تمانع ان تعمل بمنزلٍ رجل يهودي فهذا ممتاز. دعيها تأتي باسرع وقت.
جائت السيدة مريم الى بيت گرجي وحالما رأت فريد وقعت بغرامه من النظرة الاولى لانها سيدة محرومة من الاطفال وهي ارملة حديثاً لذلك قبلت فريد واعتبرته ابنها.
كانت امور اليهود بالعراق تسوء يوماً بعد يوم لانهم كانوا يعانون من الخوف والمصير المجهول. ففي عام 1952 اي سنتان قبل ميلاد فريد تم اقاء القبض على الجواسيس اليهود الذين قاموا بتفجير معبد يهودي (صلاة) يدعى مسعودة شنطوف ببغداد وبعدها اعدمت المحكمة الجاسوسين اليهوديين الذين كانا يعملان لصالح اسرائيل وهما (شالوم صالح) و (يوسف بصري). لكن تلك الامور لن تكن لتقلق گرجي لانه كان مواطناً صالحاً محباً للعراق ومجتهداً بعمله كمدرساً للغة العربية.
عندما اصبح فريد بسنه الرابع ادخل ابوه للروضة ثم قام بارسال ليلى وصباح الى بريطانيا لاكمال دراستهما هناك. فلم يبقى بالدار سوى گرجي وآخر العنقود فريد ومربيته مريم.
مرت السنين سنة بعد سنة وبقي اليهود العراقيون يهاجرون من وطنهم بشكل كبير ما عدى صاحبنا گرجي وعائلته وذلك لايمانه الراسخ بوطنيته واخلاصه للارض التي عاش بها ومنها. حتى جائت حرب الايام الستة عام 1967 إذ صارت هجرة اليهود تتزايد بشكل كبير وقد زُجّ الكثير منهم بالسجن بتلك الفترة للاشتباه بتورطهم بعمليات تجسس لصالح اسرائيل وكان من ضمنهم الاستاذ گرجي. گرجي طبعاً لم يكن يؤمن يوماً بالصهيونية ابداً وفكرة مغادرة العراق كانت بعيدة تماماً عن حساباته. لكن اجرائات المداهمة الجماعية التي قامت بها الحكومة آن ذاك ادت الى اخذ گرجي وزجه بالسجن دون محاكمة. بقي گرجي جثماً بالسجن وواصل ابنه فريد على زيارته مع مربيته مريم بشكل منتظم حتى طفح الكيل بالاب وابنه بعد ان مرت سنتين كاملتين. وباحدى الزيارات طلب گرجي من ابنه فريد الذي اصبح بسن 14 القيام بزيارة لرئيس الوزراء السيد طاهر يحيى يطلب منه المساعدة. وافق فريد على طلب والده ووعده بزيارته باقرب فرصة. وبعد مرور يومين ذهب فريد الى منزل رئيس الوزراء وقرع الجرس ففتحت له الباب خادمة المنزل، اعطاها اسمه وانتظر خارجاَ. دخلت وسألت رئيس الوزراء وقالت له ان هناك فتى اسمه فريد گرجي سوفير يريد مقابلتك فطلب منها ادخاله الى صالة الاستقبال. جلس فريد بالصالة وحيداً لفترة من الزمن حتى دخل عليه رئيس الوزراء وقال له،
رئيس الوزراء : اهلاً فرّودي. كيف حالك حبيبي؟
فريد : انا لست بخير ابداً يا عمي. لازال والدي بالسجن وانت تعرف جيداً انه بريء من تهمة التجسس. انت تعرف كذلك انه لم توجه اليه اي تهمة ولم يحكم عليه بالمحكمة لحد الآن فلماذا هو حبيس السجن يا عمي؟
رئيس الوزراء : انها اجرائات امنية يا ولدي.
فريد : لقد زرته قبل ايام وابلغني سلامه لك وقال، "قل لعمك طاهر انني مستعد ان اقبل بحكم الاعدام إن كانوا قد عثروا على ادلة تثبت تورطي باي امر مخل بوطنيتي. والا، فدعهم يخلوا سبيلي ويتركوني بحالي ويفرجوا عني. فانا سجين للسنتين الماضيتين دون اي ذنب"
احتضن طاهر يحيى فريد وصار الاثنان يذرفان الدمع. بعدها نظر بوجهه وقال،
رئيس الوزراء : اسمع مني يا ابني، ساحاول جهد امكاني ان أخرج والدك من السجن. انا لا يمكن ان انسى كم من ليلة سعيدة قضيناها بمنزلكم بالمسبح مع الرفاق ونحن نلعب الكونكان. فالصداقة لها اوزار كثيرة ومنها الاخلاص والوفاء وايداء الواجب وقت الشدائد. والدك گرجي صديقي وانا لن اتخلى عنه ابداً.
فريد : شكراً لك يا عمي هذا هو عهدنا بك.
خرج فريد من منزل رئيس الوزراء وهو يبتسم تعتريه فرحة عارمة يملأه الامل بالحرية لوالده. ولم تمر سوى ثلاث ايام الا وفتح گرجي الباب ليجد فريد جالساً في الصالة يراجع دروسه واصوات تصدرها المربية مريم وهي تعد الطعام بالمطبخ. رفع فريد رأسه ولم يصدق ما رأى. "اهذا والدي حقاً؟ هل اوفى العم طاهر يحيى بوعده؟ انا لا اصدق". قفز فريد نحوه وصار يقبله ويبكي وصار والده يطبطب على ظهره، يهون عليه ويقول، "انا هنا يا فريد، كفاك بكاءاً، لا تحزن يا ولدي لقد رجعت للبيت عندك، انا حر الآن". دخلت مريم الصالة فصارت تزغرد وتقول، "الحمد لله على السلامتك يا ابو ليلى كيف تشعر الآن وهل عذبوك بالسجن؟". اجابها گرجي "سنتحدث كثيراً فيما بعد ولكن الآن اريد ان اخذ حماماً ساخناً". صعد گرجي الى الطابق العلوي ودخل الحمام وصار يغتسل ويرمي الم السنتين الماضيتين التين قضاهما في السجن دون اي جرم او ذنب. وبعد ان خرج قالت مريم، " لقد اعددت لكما رز مع مرقة الباميا. جلس الجميع على المائدة وصاروا يتناولون الطعام. وبعد الانتهاء من الطعام انتقلوا الى غرفة الصالة فابتدأ الحديث وقال،
گرجي : لم اكن اصدق اني ساخرج من السجن حياً. آن الاوان يا ولدي ان نرحل من هنا.
فريد : انا لا اريد الرحيل يا ابتي. انا مرتاح بمدرستي. بالرغم من معارضة ادارة المدرسة فقد قمت بتأسيس فرع للاتحاد الوطني وقد انتخبوني رئيساً للاتحاد.
گرجي : اي اتحاد هذا يا ابني؟ نحن يهود نحن يهود نحن يهود الا تفهم؟ العراق يتجه من سيء الى اسوأ. لم يبقى لنا لقمة عيش هنا. لقد احترق الاخضر بسعر اليابس وصاروا ينظرون الينا جميعاً كخونة.
فريد : مهما قلت يا ابتي فانا جالس ها هنا. ان كنت تريد الذهاب فاذهب وحدك.
گرجي : انها ليست مسألة عناد يا ولدي بل هي مسألة صراع من اجل البقاء. نحن غير مرحب بنا هنا ويجب علينا الرحيل. لقد سلمنا هذه المرة وخلصت بسنتين من السجن. ربما بالمرة القادمة سيعدموني، اهذا ما تريد؟
فريد : ولكن كيف ستبرر خروجنا من العراق؟ فتسقيط الجنسية قد توقف ولا يمكننا الخروج بهذه الطريقة.
گرجي : إذاً يجب ان نجد طريقة اخرى يا ولدي. ساذهب الى نائب رئيس الطائفة السيد كوهين واتكلم معه غداً. ربما سينصحني بطريق نستطيع ان نسلكه.
باليوم التالي استيقض گرجي مبكراً وركب سيارته متوجهاً الى بيت كوهين فرحب به وجلسا بالصالة ليسأله كوهين،
كوهين : الحمد لله على سلامتك. سمعت انك خرجت من السجن.
گرجي : اجل يا كوهين لقد كانت ايام تذكر ولا تعاد. كم شعرت بالقهر لانني كنت بريئاً ولم اكن قد اقترفت اي ذنب.
كوهين : وذلك حال جميع اليهود الذين كانوا معك بالسجن.
گرجي : لا يا كوهين لا. هناك البعض منهم كانوا متعاونين ولهم صلات مع اسرائيل. لقد حاولوا جرّي معهم لكني لم اوافق بل ابتعدت عنهم.
كوهين : على العموم اترك المتعاونين جانباً، هل سترجع لعملك بالمدرسة؟
گرجي : كلا. لقد قررت ان اغادر العراق مع ابني فريد. وهذا هو سبب مجيئي اليك اليوم. اردتك ان تنصحني بافضل طريقة نترك بها العراق يا كوهين.
كوهين : ليس هناك طريقة سوى الـ (القݘغ).
گرجي : مستحيل. انا لا اقوى على ذلك. اليس هناك طريقة اخرى كعمل جوازات مزورة وما شابه؟
كوهين : كلا. هذه كانت سهلة ايام الباشا نوري السعيد. فقد كان يسهل علينا عملية الخروج. اما الآن فاصبحت صعبة جداً صدقني.
گرجي : وكيف تتم عملية الهروب؟ اشرح لي ذلك فانا لا املك الا القليل من المال لانني كنت بالسجن وقد نفذت كل مدخراتي.
كوهين : دعني اتصل بجماعتي وانسق لك رحلة عن طريق ايران فتكاليف الرحلة ستتكفل بها الطائفة. وحالما تصلون ايران سيستقبلونكم وكأنكم ملوك وسيقدمون لكم اشهى الاطعمة ويضعونكم بفنادق ذات الخمسة نجوم وسيمنحوكم مبالغ كبيرة كي تشتروا بها ما تشتهي انفسكم.
گرجي : هذا يبدو عظيماً. إذاً ساعود لبيتي الآن لابشر ابني فريد. سانتظر منك الرد.
رجع الى بيته فوجد ابنه فريد ينتظر بفارغ الصبر سأله،
فريد : هل توصلتم الى حل ما او طريقة آمنة؟
گرجي : اجل، كوهين يقول ان هناك طريقة الهروب عن طريق ايران.
فريد : وكيف يتم ذلك؟
گرجي : لا اعلم بعد لكنه يقول اننا حالما نصل الى ايران سيقومون بالاعتناء بنا وسيعطونا الاموال وينزلونا بفنادق خمسة نجوم.
فريد : انا اعتقد انه يكذب.
گرجي : من يدري؟ قد يصدق الرجل. دعنا ننتظر ونرى.
فريد : انا اخاف انهم يريدون ارسالنا الى فلسطين المحتلة.
گرجي : لا، لا اعتقد ذلك والا لاخبرني كوهين.
بقي الرجل وابنه ينتظران رداً من نائب رئيس الطائفة السيدة كوهين لفترة طويلة حتى اتصل بهم بعد شهر وطلب من گرجي الذهاب الى منزله بالبتاوين. حالما وصل گرجي طلب منه الجلوس وقال،
كوهين : ابشر يا گرجي لقد وجدت لكما طريقة سهلة ورائعة للهروب. يوم الاربعاء القادم سترحلون انت وابنك فريد من بغداد من كراج الوثبة على الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تتجهون بحافلة صغيرة تنقلكم الى خانقين. تنزلون بوسط مدينة خانقين بساحة فلكة القائمقامية. هناك وبتمام الساعة 5 صباحاً ستلتقون بـ 7 اشخاص آخرين من اعضاء الطائفة وتنتظرون رجلاً كردياً سيعطيكم كلمة السر وهي (عباس). فتخبروه انكم مسافرين الى (دهوك). وقتها سيأخذكم بحافلة صغيرة من فئة 12 راكب ويدخل بكم الحدود الايرانية. وعندما يصل الى مدينة سربل دهاب سيسلمكم الى منظمات انسانية تتولى العناية بكم هناك.
گرجي : وهل هذا الطريق مضمون؟
كوهين : ماكو حل ثاني بدالك گرجي. (غوحو والله كغيم).
گرجي : وماذا عن منزلي؟
كوهين : سيجمد كما هو حال جميع املاك اليهود ممن غادروا. لا تفكر بالمنزل الآن فحياتكم اهم.
گرجي : الله كريم.
كوهين : لا تنسى، (عباس) و(دهوك).
گرجي : اطمئن، سوف لن انسى.
بليلة الثلاثاء كان گرجي وفريد يهمون بالرحيل. وعندما اتمّوا جميع استعداداتهم ودعوا مريم وكانوا يعرفون ان ذلك الوداع هو الاخير وقد لا يروها ثانية. ركبوا سيارة اجرة اقلتهم الى كراج الوثبة. وعندما نزلوا هناك وجدوا حافلات كثيرة. سألوا احد الرجال فادلهم على سيارة بيضاء تقف بآخر الگراج . جلس فريد بجانب والده وبقوا ينتظران سير الحافلة لكن الحافلة بقت واقفة بمكانها مما زاد من خوفهم ووجلهم. سأل فريد، "متى تتحرك الحافلة؟ اجابه الجابي، "عندما تمتلئ السيارة بالركاب". وبعد مرور 45 دقيقة جائت سيدة ريفية تجر ورائها طفل صغير وتحمل بيدها طفل آخر رضيع. ركبت الى جانب فريد فاغلق الجابي الباب وابتدأت الرحلة. كان الطريق سلساً الا ان احد الركاب كان ثرثاراً ويتكلم بطريقة تدل على انه ثمل وكلما كان يتكلم كان لعابه يسيل فيبعث الغثيان بفريد وابوه. استمر عناء الركاب اكثر من 4 ساعات حتى بدأت مشارف مدينة تظهر للعيان فقال السائق ها قد وصلنا خانقين. وقفت الحافلة بساحة مفتوحة فهم الركاب بالنزول. سأل فريد السائق وقال،
فريد : اين تقع فلكة القائمقامية؟
السائق : انت واقفٌ بوسطها.
فريد : ولماذا ليست دائرية إذاً.
السائق : لا اعلم، اذهب وقدم شكوى لدى رئيس البلدية.
وصار يضحك عليه.
سار الاب وابنه قليلاً فشعرا انهما يسيران بمدينة اشباح. فالشوارع مظلمة وخالية من الحياة ما عدى السيارة التي اوصلتهم حتى توارت هي الاخرى عن الانظار وبقوا واقفين بوسط الظلام. قال،
گرجي : نحن وصلنا في الوقت المحدد، الساعة تشير الى الخامسة صباحاً ولم يأتي احد بعد.
فريد : هل انت متأكد من اليوم؟
گرجي : اجل لقد قال الاربعاء.
فريد : ربما كان يقصد الخميس لاننا خرجنا يوم الثلاثاء ليلاً.
گرجي : انا متأكد من التاريخ.
فريد : وماذا عن باقي اعضاء الطائفة؟
گرجي : لا اعلم يا ولدي. لماذا تسألني؟
فريد : انت الذي رتبت كل شيء مع العم كوهين، اليس كذلك؟
گرجي : اجل لكنه لم يعطيني كل هذه التفاصيل. ربما اصابتهم عائقة ما منعتهم من الوصول او ربما امسكت بهم الشرطة. انتظر قليلاً يا ولدي.
وبينما هم يتحدثون شاهدوا مجموعة من الناس تأتي من قلب الظلام ففرحوا وقالوا ها قد جاؤوا اخيراً. كانت المجموعة تتألف من فتاتين وخمسة شبان بسن المراهقة. توقفوا عندهم وسلموا عليهم فعرّف فريد بنفسه وبوالده على المجموعة. قالت احدى الفتيات الواتي كانت من المجموعة،
شولا : انا اسمي شولا، متى قالوا ان المهرّب سيأتي هنا؟
فريد : الخامسة فجراً.
شولا : انها الخامسة الآن. دعنا ننتظر.
گرجي : انا جائع واريد ان ابحث عن بائع للشطائر.
شولا : كلنا جائعون وسنذهب معك يا عمي.
گرجي : لا، الافضل ان يبقى واحدٌ منا هنا قد يأتي المهرب في غيابنا.
هنا تطوع فريد وقال،
فريد : سانتظر انا هنا. اذهبوا انتم واتوا لي بشطيرة من البيض والعمبة.
ذهب الجميع وبقي فريد وحيداً ينتظرهم بوسط الساحة وبعد ان تواروا تماماً عن الانظار جاء رجل يرتدي زياً كردياً فسأل فريد،
الكردي : السلام عليكم. هل انت عباس؟
فريد : كلا. انا فريد.
رحل الرجل الكردي. ثم عاد بعد خمس دقائق وكرر السؤال على فريد قال له،
الكردي : هل انت عباس؟
فريد : كلا، انا اسمي فريد لقد قلت لك بالمرة الاولى اني لا اعرف احد بهذا الاسم فلماذا تسألني ثانية؟ الا تفهم معنى كلامي؟
الكردي : انا آسف يا اخي لا تزعل.
فريد : اذهب من هنا ولا تزعجني ثانية.
ذهب الكردي بعيداً وتوارى عن الانظار. وبعد قليل رجعت المجموعة حاملين معهم شطائر بيض واعطوا واحداً لفريد فصار يأكلها بنهم كبير. سأله احدهم،
شاؤول : هل جاء المهرب يا فريد؟
فريد : كلا.
شاؤول : لماذا تأخر هكذا؟
فريد : لا اعلم.
شاؤول : الم يأتي اي احد في غيابنا؟
فريد : فقط جاء رجل غبي وصار يسأل عن صاحبه عباس فقلت له انني لا اعرفه.
شاؤول : ماذا فعلت يا فريد؟ لماذا قلت ذلك؟ انه هو المهرب.
فريد : ولماذا لم تقولوا لي ذلك. لكنه قال انه يبحث عن عباس.
شاؤول : اجل انها كلمة السر.
فريد : دعنا ننتظر قليلاً، ربما سيعود ثانية.
شولا : او ربما سوف لن يعود ابداً. انت افسدت علينا كل شيء يا فريد.
وبينما هم يتبادلون التهمات بغضب شديد عاد الرجل الكردي صوبهم وسأل، "انا ابحث عن عباس". فقفز فريد واجابه بكل حماس،
فريد : اجل اجل انا عباس وكلنا عبابيس هنا.
المهرب : الى اين تريدون الذهاب؟
شاؤول : الى دهوك.
فهم المهرب انها هي المجموعة التي تريد الرحيل فطلب منهم ان يركبوا بشاحنة صغيرة من نوع "پيكاپ". فقال گرجي،
گرجي : اتريدنا ان نركب بهذه الشاحنة كما لو كنا خراف؟
المهرب : وهل لديكم مركبة افضل منها؟
ركب الجميع على مضض وسلموا امرهم الى لله. اخبرهم المهرب ان سائق الشاحنة سيأخذهم الى مدينة سربل دهاب وستستقبلهم المنظمات الانسانية هناك. فودعهم وبدأت الرحلة.
سارت بهم الشاحنة لمدة اربع ساعت متتالية دون توقف. بالساعة الاولى كان الطريق معبداً رائقاً كالزلال لكن الامور صارت تسير نحو الاسوأ إذ بدأوا يمرون بطرق عسيرة قاسية ملؤها المطبات والحفر والغبار صار يغلف رئوسهم ويدخل انوفهم واذانهم والحفر كانت تترصد لهم وتخرج منهم الطعام الذي تناولوه من قبل في خانقين. وفجأة توقفت الشاحنة وخرج السائق ليقول لهم،
السائق : هيا انزلوا جميعاً.
گرجي : الى اين؟ هل وصلنا سربل دهاب؟
السائق : كلا ولكن اصبحنا على مقربة منها.
گرجي : لكن المهرب قال انك ستاخذنا الى مدينة سربل دهاب.
السائق : المهرب يتكلم كما يحلو له. انا لا يمكنني ان ادخل بتسعة هاربين الى ايران فيمسكني حرس الحدود ويزجني بالسجن.
گرجي : وماذا عنا نحن؟ كيف سنواصل الرحلة؟
السائق : اتفقت مع المنظمات ان تاتي لتأخذكم من هنا. سيأتون بعد قليل.
فريد : انت تكذب. ليس هناك منظمات او اي شيء من هذا القبيل. كل ما يهمك هو جني المال.
السائق : لسان ابنك طويل. هل تريدني ان اقصه له؟
گرجي : كلا، كلا اتركه. انه طفل ولا يعي ما يقول.
فريد : انا لست طفلاً يا ابي. وهذا المجرم سيتركنا هنا بالعراء فقط كي ينفذ بجلده.
گرجي : ليس لنا خيارآخر يا فريد. دعنا ننزل وننتظر المنظمات.
نزل الجميع من الشاحنة ثم انطلقت باقصى سرعة وتوارت عن الانظار. بقيت المجموعة واقفة بوسط الخلاء فليس هناك بشر او حيوانات او طيور او حتى حشرات. كل شيء كان هادئاً يكاد يصم الآذان. بقي الجميع يترقب ويترقب ولم يأتي اي احد. بدأ الفجر يبزغ وبدأ النهار يبشر بقدومه لكنهم مافتئوا جالسين على الارض بوسط الخلاء ولاشيء حولهم فلا شوارع ولا تلال ولا وديان ولا اي شيء بتاتاً. بدأوا يشعرون انهم في قلب جهنم وقد طرأت عليهم خديعة. صار الجميع يبكي ويولول ويتصور ان الموت اصبح وشيكاً. بدأ كل واحد منهم يأتي بفكرة يائسة علّه ينقذ الموقف فينبذها الباقون. وبعد ان فتك بهم الجوع والعطش وبعد ان مرت اكثر من 6 ساعات طوال صارت الشمس الحارقة تنذرهم بفاجعة ضربتها المخيفة. بانت لهم من بعيد مركبة متوسطة الحجم من فئة 12 راكب كانت متجهة نحوهم. استبشر الجميع بها وصاروا يهللون ويقولون، "جائنا الفرج، جائنا الفرج". وقفت الحافلة امامهم وخرج منها رجل اسمر يتحدث العربية بلهجة جنوبية فهموا وقتها انه من عرب ايران. اركبهم معه وسار بهم الى مدينة سربل دهاب. ادخلهم الى مكتب وطلب منهم الجلوس على الارائك. وبعد انتظار دام اكثر من ساعتين خرج اليهم رجل اسمر وقال لهم بلهجة عراقية بحتة، "اهلاً وسهلاً بكم انا المشرف هنا، انتم في طريقكم الى اسرائيل"
وثب فريد من مقعده وصاح باعلى صوته،
فريد : اي اسرائيل هذه؟ نحن جئنا الى ايران. لم تخبرونا باننا سنذهب الى اسرائيل. ما هذا الغش؟
امسك والده بيده وسحبه كي يرجع ويجلس على كرسيه وقال له،
گرجي : اسكت يا فريد ودعنا نفهم ما يقوله الرجل.
فريد : الم تسمع ما حكى هذا الحيوان يا ابي؟ قال اسرائيل.
گرجي : اجل، اجل هو يقول ذلك لانها جمعية يهودية وهذا هو اسلوب كلامهم بمعنى انهم جائوا بنا الى الخلاص. اسكت ولا تتكلم.
المشرف : يبدو ان الشاب متمرد بعض الشيء وتعرض لغسيل الدماغ.
نظر الى المجموعة وقال،
المشرف : سنقوم بوضعكم بفنادق كي ترتاحوا قليلاً من السفر ثم نتحدث معكم فيما بعد.
فريد : هذا هو الكلام المفيد. انا متعب وقد فتك بي الجوع يا ابي.
گرجي : كلنا كذلك يا فريد. قلت لك انهم سيعتنون بنا.
خرج الرجل من المكتب لفترة قصيرة ثم عاد وقال،
المشرف : ستنزلون بفندق (لوك). فريد و گرجي سوفير انتم بغرفة رقم 7. شولة واستر وحسقيل شماش انتم بغرفة رقم 9، كامل واڨرام عيني غرفة رقم 20، رامي وعزرا ساسون غرفة رقم 21. تفضلوا الآن معي.
خرج المشرف ومن خلفه تسعة مسافرين متعبين جائعين الى الشارع ودخلوا فندق لوك. اعطى كل واحد منهم مفتاحه ثم صعد معهم الى الغرف. فتح فريد الباب فصدمه حجم الغرفة الصغير والتي وضع فيها سريرين مزريين. نظر الى والده وقال،
فريد : خمسة نجوم يا ابي؟ هل قال لك كوهين سينزلونا بفندق ذو خمس نجوم؟ اين هي النجوم الخمسة؟ هل سقطت تحت السرير؟
گرجي : لا عليك يا ولدي توقف عن التذمر. ستسير الامور بشكل افضل فيما بعد. تفاءلوا بالخير تجدوه.
فريد : تفائلنا.
في تلك الليلة خلد الجميع للنوم على اسرّتهم مبكراً لانهم كانوا متعبين جداً. فما ان تناولوا وجبة الـ (ݘلو كبابي) التي وزعت عليهم حتى بدأوا يتثائبون.
باليوم التالي زارهم المشرف ثانية وقال بانهم سينتقلونهم الى العاصمة طهران حيث ستستقبلهم منظمة كبيرة تدعى (عاليا ب). ركب الجميع القطار وسار بهم اكثر من 9 ساعات حتى وصلوا طهران. نزلوا بالمحطة الرئيسية وكان باستقبالهم سيدتان اجنبيتان ورجل مسن، تكلموا معهم بالعربية وقالوا انهم سيضعونهم بفندق بوسط طهران. وصلوا الفندق فنظر فريد اليه وقال لابيه،
فريد : يبدو انهم نسو ان يمنحوا هذا الفندق اي نجوم كذلك يا ابي.
گرجي : اغلق فمك وسر بلا ثرثرة. لا تتحدث فنحن لسنا بموقف يسمح لنا ان نتبطر.
فريد : ولكن لماذا امطرونا بالاكاذيب يا والدي؟
گرجي : هذا هو الحال الآن. رضيت ام ابيت. دعنا نسير معهم للآخر.
ادخل فريد واباه غرفة كانت اشبه بالغرفة التي قضوا فيها ليلتهم بالامس. بعد ذلك استدعوهم الى مائدة اعدت لهم في الطابق الارضي. نزل الجميع بعد ان استحموا ولبسوا ملابس نظيفة. التقوا جميعاً بالقاعة فقال رجلٌ،
الرجل : اهلاً بكم في طهران طريق الخلاص لاسرائيل. انا اسمي نوري شوحيط وساشرف على نقلكم الى ارض الميعاد.
وقف فريد وصاح باعلى صوته،
فريد : واين هي ارض الميعاد؟
نوري شوحيط : انها اسرائيل يا ولدي، ارض الحليب والعسل. الارض التي حلمنا بها وحلم بها اجدادنا منذ آلاف السنين الارض التي وعد الله بها شعبه المختار. ستذهبون اليها بالطائرة معززين مكرمين.
همس فريد لوالده وقال،
فريد : ارأيت يا والدي؟ انهم يريدون ان يأخذونا الى اسرائيل عنوة. الم اقل لك ذلك؟
گرجي : اخرس الآن، سنتباحث بالامر فيما بعد.
فريد : لا سوف لن اخرس.
وقف امام الرجل وصاح باعلى صوته،
فريد : ماذا لو لم نرغب بالذهاب الى ما تسمونه اسرائيل؟
نوري شوحيط : سيداتي سادتي هذا الشاب المسكين مورِسَت عليه عملية غسيل دماغ من قبل البعثيين. دعني اخبرك بشيء يا فتى، انتم هربتم من العراق بملابسكم التي تغطي عورتكم. جئتم الى هنا هروباً من ظلم المسلمين لكم. نحن دفعنا ثمن مجيئكم من بغداد الى هنا وسوف ندفع لكم ثمن معيشتكم فيها حتى تغادروا ايران كذلك سوف ندفع ثمن الطائرة التي ستقلكم لاسرائيل وعند وصولكم هناك...
قاطعه فريد قائلاً،
فريد : وعند وصولنا هناك سترشونا بالمبيدات الحشرية وستعاملونا كيهود شرقيين وستسمونا سفراديم بينما تسمون اليهود من اوروبا اشكناز اليس كذلك؟ ستعاملونا كمواطنين من الدرجة الثانية هل هذا خطأ، اليست هذه هي الحقيقة؟ لماذا تخفون عنا الاباطيل؟
گرجي : ارجوك فريد اسكت ولا تثير المشاكل.
نوري شوحيط : انت لن تعطني المجال كي اكمل كلامي. قلت لكم عند وصولكم لوطنكم الجديد اسرائيل ستسكنون بسكن مجاني وستحصلون على العمل فوراً.
فريد : ولكن وطننا القديم هو العراق والجديد هو العراق. ليس لنا وطنٌ غير العراق.
نوري شوحيط : وطنكم الذي تتحدث عنه هذا زجكم بالسجون وعاملكم كالكلاب واعدم الكثير منكم.
فريد : اعدم جواسيس يعملون لصالحكم.
نوري شوحيط : هذا كذب وافتراء.
فريد : ماذا لو لم نرغب بالذهاب لاسرائيل؟ ماذا ستفعلون بنا؟ هل ستعيدونا للعراق قسراً؟
نوري شوحيط : ستغادرون الفندق فوراً. وسوف نرمي اغراضكم بالشارع.
وقف فريد وقال لوالده،
فريد : انا ذاهبٌ للغرفة. لا استطيع ان استمع للمزيد من هذا الغائط. ابقى انت إن رغبت.
گرجي : كلا سوف اتي معك.
خرج الاب وابنه وصعدا الى غرفتهما فقام نقاش حاد بداخل الغرفة،
فريد : الم اقل لك سابقاً يا ابتي، هذه مؤامرة. انهم يريدون ان يأخذونا الى فلسطين المحتلة ويعطونا وظائف مهينة هناك كي نخدم الاسياد من اصول اوروبية. كل ذلك على حساب الفلسطينيين اصحاب الارض الاصليين.
گرجي : وما هو الحل عندك إذاً؟ نحن لا نملك درهماً واحداً بجيوبنا لاننا خرجنا من بغداد بالملابس التي تغطي مؤخرتنا. تذكر يا ولدي ان أَخْوالك باسرائيل سوف يقدمون لنا المساعدة عند وصولنا هناك وسوف يسكنونا عندهم.
فريد : اذهب انت الى فلسطين المحتلة عند اخوالي. اما انا فساذهب لانگلترا. ساتصل باختي ليلى لتبعث لي ثمن تذكرة الطائرة ما قولك؟
گرجي : وماذا اعمل باسرائيل وحدي من دونك يا ولدي؟ هل تريد ان تتشتت العائلة؟ كلا، سنذهب سوية الى انگلترا وسيلتم شملنا باختك واخوك. ولكن من قال لك انها ستتمكن من شراء التذاكر؟ فقد اشترت اختك منزلاً للتو.
فريد : دعنا نسألها يا والدي. لا برسالة لان ذلك قد يستغرق وقتاً طويلاً والاشرار سيرمون امتعتنا بالشارع. وعليه يجب ان نذهب الى البريد ونهاتفها فوراً. هيا لننطلق الآن على عجالة.
گرجي : حسناً يا ولدي هيا.
خرج گرجي وفريد وصاروا يبحثون عن البريد المركزي. هناك تمكنوا من حجز مكالمة دولية الى انگلترا وحالما رن الهاتف سمع گرجي صوت ابنته تقول،
ليلى : انا ليلى، من الطالب؟
گرجي : انا ابوك يا ليلى كيف حالك يا ابنتي؟
ليلى : انا بخير يا ابي. من اين تتحدثون معي. هل انتم ببغداد؟
گرجي : كلا يا حبيبتي. نحن بطهران. لقد خرجنا بامان وسلام لكنهم ارادوا اخذنا الى اسرائيل.
ليلى : اي اسرائيل هذه يا ابي؟ تعالوا الى هنا. لدي بيت كبير يتسع لنا جميعاً. زوجي خليل يرحب بكم. سابعث لكم التذاكر على الخطوط البريطانية فوراً. وسابعث لكم تلكس به دعوة خاصة حصلت عليها من منظمة انسانية تخولكم الدخول لبريطانيا كلاجئين.
گرجي : حسنا يا ابنتي الحبيبة. نحن ننتظر التذاكر والتلكس.
ليلى : اياكم الذهاب لاسرائيل يا ابي. ستأتون الى عندي وستعيشون هنا وسيرزقنا الله واياكم باذنه تعالى. الله يقول "قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي"
گرجي : صدق الله العظيم.
ليلى : اعطني اسم الفندق ورقم الهاتف ورقم التلكس يا ابي.
بعد ان اعطاها كل المعلومات ودعها ووضع السماعة. نظر اليه فريد وسأله بحماس كبير،
فريد : ماذا قالت ليلى؟
گرجي : قالت انها تريدنا الذهاب لاسرائيل.
فريد : هذا مستحيل. ليلى لا تقول ذلك ابداً فهي تربت على يد گرجي سوفير. العراقي الوطني النزيه الرجل الذي احب وطنه وربى اجيال على الوطنية وحب الارض والاخلاص لها.
گرجي : اجل يا حبيبي اجل. كنت امازحك. ستبعث لنا التذاكر غداً. وسنذهب لانگلترا. وستبعث لنا دعوة خاصة باللاجئين تمكننا من الدخول بالمطار.
فريد : وساتمكن من ان امارس حريتي هناك. يا سلام ما اجمل الحرية. ستكون ايامنا اسعد وسنحس بطعم السعادة التي حرمنا منها بالآونة الاخيرة.
گرجي : الآن علينا ان ننتظر ونصبر.
فريد : وهل سنصبر ثانية يا ابي؟
گرجي : اجل حبيبي يجب علينا ان نصبر يوماً واحداً فقط، "استعينوا بالصبر والصلاة، ان الله مع الصابرين"
رجع الاب وابنه الى الفندق بعد ان اشتروا القليل من الغذاء كي يتناولوه. باليوم الثاني خرجت ليلى الى پيكادلي سركس بلندن واشترت تذكرتي سفر وبعثتهما الى طهران ثم اتصلت بالفندق وطلبت من موظف الاستعلامات تبليغ والدها ان التذاكر اصبحت جاهزة.
عندما استلموا رسالة ليلى انتابهم فرح كبير لا يوصف. خرجوا وودعوا زملائهم الذين رافقوهم بالرحلة الشاقة من خانقين.
باليوم التالي ركبا طيارة الخطوط الجوية البريطانية فانطلقت بهم من طهران متوجهة الى لندن. وما هي الا ساعات وهبطت الطائرة على ارض مطار هيثرو بلندن. خرج المسافرون من بوابة الوصول فوجدوا ليلى وزوجها خليل وصباح مع زوجته ينتظرونهم على طرف البوابة وسط حشد كبير من المستقبلين. كانت القبل والدموع تتبادل بين الجميع وكان العتاب سيد الموقف. ركبوا سيارة اجرة ارجعتهم الى منزلهم بمنطقة كنتش تاون وعاشوا هناك اياماً سعيدة لا توصف. والسؤال هو ماذا حل بالجميع اليوم؟
گرجي عمل كمحاسب في محلات سامي وسليم لبيع الملابس بالجملة بشرق لندن وبقي يعمل هناك لسنوات عديدة حتى وافته المنية عام 1989 وذهب الى رحمة ربه.
ليلى بالرغم من شهادتها بالهندسة المدنية فقد عملت لسنين طويلة تُدَرّس الفقه الاسلامي بجامعة كمبرج. رزقت بولدين توفى احدهما والآن ابنها الاصغر يعمل كطباخ ماهر باحدى الفنادق المشهورة. اما ليلى فقد توفت الى رحمة الله عام 2000 بعد ان اصيبت بمرض السرطان. زوجها خليل اصبح اليوم رجلاً طاعناً بالسن ويعيش مع ابنه الاصغر دانيال.
صباح لازال يعمل ويسكن مع عائلته الصغيرة خارج لندن.
فريد تخرج من الجامعة بلندن بعد ان درس مهنة الصحافة عام 1979وبقي يحمل القيم الوطنية وحبه الشديد لوطنه العراق ولم يتخلى يوماً واحداً عن جذوره التي زرعت بوادي الرافدين. تزوج من سيدة عربية مسلمة فانجبت له ولدان. فريد رجل اعمال ناجح ولديه مصنع للاحذية بمنطقة گولدرز گرين بلندن. هو من المعادن النادرة التي يصعب الحصول على مثلها هذا اليوم. يتصف بالكرم والشهامة والقلب الطيب والروح المرحة والصبر والايمان والكياسة والفطنة واللباقة.
كلمة الكاتب:
ليس من السهل ان يكتب الفرد قصة شخص آخر وينقل كل آلامه ومعاناته ومشاعره وتطلعاته الا إذا كان مقرباً جداً من ذلك الشخص ويعرفه عز المعرفة.
تعرفت على فريد عام 1971 عندما كنت ادرس ببريطانيا واعجبت بوطنيته وانسانيته وخفة دمه وكرمه وحبه لاصله وجذوره وتمسكه بالعراق. رابطة الصداقة المتينة التي تربطنا او ربما استطيع ان اصفها بالاخوة الحقيقية بقيت معنا عبر السنين ولم تخبو او تنضمر بالرغم من بعد المسافات. كانت اخته المرحومة ليلى بمنزلة الاخت لي انا ايضاً وقد كنت الجأ اليها بالنصح والمشورة. وبعد ان تزوجت والتحقت بي زوجتي عام 1976 صارت هي الاخرى تحبها كثيراً وتطلب منها النصح دائماً.
الآن وكلما زرت لندن اصبحت اول من اراه هو فريد لانه قطعة من روحي وصديق عمري. وصار اهلي جميعاً يحبوه ويحترموه ويسألونني عنه كلما تحدثت معهم.
اول ما تشاهد عندما تدخل الى مكتبه لوحة كبيرة معلقة على الحائط خلف كرسي فريد كتبت فيها آية قرآني:
1110 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع