د. سعد ناجي جواد
القضاء الاجنبي يلاحق ويعاقب من أفسد في العراق والجهاز القضائي العراقي يقف متفرجا
للمرة الرابعة تصدر محكمة اجنبية حكماً قضائياً بسجن مفسد اخر قام بتقديم رشى الى مسؤولين عراقيين كبار للحصول على مشاريع كبرى اعتبرتها المحكمة قد اضرت وتضر بمصالح الشعب العراقي، بينما القضاء العراقي لا يزال يقف موقف المتفرج. مرة اخرى يُعَاقب مُفسِد اجنبي بالسجن، (بقرار من محكمة استرالية هذه المرة)، والقضاء العراقي لا يزال يقف موقف المتفرج على الرغم من ان الاتهام كان واضحا والاسماء العراقية المشاركة في هذه العملية الفاسدة قد تم الاعلان عنها. علما ان كل القضايا كانت الدلائل فيها واضحة واحكامها قاطعة.
الحادثة الاولى جرت في بريطانيا (2013) عندما قضت محكمة بسجن صاحب شركة لانتاج اجهزة تساعد في الكشف عن كرات لعبة الغولف، ولا يتجاوز ثمن الواحدة عشرات الدولارات، باعها للعراق، وبتواطؤ مع مسؤولين عراقيين كبار، كان بينهم من هو وزير ووكيل وزارة ومدراء عامون وضباط كبار، على اساس انها اجهزة لكشف المتفجرات. وبيعت الواحدة باكثر من ستين الف دولاراً، ووصلت مبالغ هذه التعاقدات الى مئات الملايين من الدولارات. ومن كشف هذه العملية شريك صاحب الشركة (البريطاني ايضا)، الذي لم تغره هذه الارباح الهائلة وبلّغ السلطات المختصة عنه، بعد ان فشل في اقناع شريكه بالتوقف لان ما يفعله يتسبب في مقتل ابرياء كثر !!. وسُجن صاحب الشركة لمدة عشر سنوات بعد محاكمة علنية، ودفع غرامة وصلت الى خمسين مليون جنيه استرليني. الامر المهم في القضية ان المتهم اعترف اعترافات كاملة من بينها انه قام بفتح حوالي خمسة عشر حساباً مصرفياً في لبنان للمتواطئين العراقيين معه في هذه الصفقات الفاسدة، اودع فيها عمولاتهم. وعندما اثار الاعلام العالمي مسألة ضرورة ان تقوم السلطات العراقية بالاطلاع على هذه الاعترافات لمعاقبة المشتركين في الجريمة، ارسلت الحكومة مندوبا عنها عُرِضَت عليه كل الاعترافات والوثائق، وعاد المبعوث ولم يتم اتخاذ اي اجراء ضد المتورطين، وذلك لعدة اسباب اهمها ان المتورطين كانوا من قيادات الاحزاب الحاكمة والثاني هو ماتردد من ان من تم ارساله للاطلاع على التحقيق، كان هو احد المتورطين في هذه الصفقات الفاسدة. ولحد هذه اللحظة لم يتم معاقبة احد من قبل القضاء العراقي على هذه الجريمة.
القضية الثانية (2014) والتي اكتشفتها صحفية اردنية شجاعة تمثلت في تزويد طلاب المدارس العراقية ببسكويت مغذي (وفق برنامج منظمة الاغذية العالمية الذي ترعاه الامم المتحدة) تبين انه منتهي الصلاحية. بتواطؤ من مكتب الامم المتحدة في عمّان ووزارتي الصحة والتربية العراقيتين، قام المسؤولون عن البرنامج في الاردن بتوظيف عدد من العمال البسطاء اغلبهم من اللاجئين العراقيين والسوريين لتغيير اغلفة البسكويت واستبدالها بتواريخ صلاحية جديدة. وظلت وزارة التربية في العراق تتسلم الشحنات الفاسدة وتوزعها على الاطفال في المدارس العراقية حتى بعد الاعلان عن هذه الفضيحة، وبعد ان قامت الحكومة الاردنية بقرار من البرلمان الاردني!! بإتلاف الشحنات المتبقية قبل ارسالها للعراق. الامم المتحدة بدورها عاقبت موظفيها، والاهم انها كرمت الصحفية الاردنية بوسام كبير على شجاعتها وكشفها لعملية الفساد هذه. اما المحاكم والبرلمان العراقيين فظلوا في مقاعد المتفرجين، وظل المسؤولون عن هذه الفضيحة طلقاء ويتحدثون كل يوم عبر اجهزة الاعلام عن الشرف والنزاهة (وضرورة محاربة الفساد).
القضية الثالثة والتي اثارها صحفي استرالي قبل تسع سنوات تمثلت في تورط شركة نفطية يمتلكها شخص يقيم في فرنسا من اصل ايراني مع ولديه، ويعمل فيها اشخاص من اصل عراقي، وكشفت التحقيقات، (التي شاركت فيها اجهزة مختصة في استراليا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة) ان هذه الشركة حصلت على عقود نفطية عديدة في العراق بطرق ملتوية وبدفع رشاوي بمئات الملايين من الدولارات لمسؤولين عراقيين كبار. وبمجرد ان ظهر هذا التحقيق تدخل القضاء البريطاني، حيث يوجد مقر للشركة، واجرى محاكمات امتدت لسنوات انتهت بسجن ثلاثة اشخاص بينهم مدير في الشركة من اصل عراقي يحمل الجنسية البريطانية (2019-2020). اما اصحاب الشركة الام في باريس فلقد تطوعوا بالكشف عن كل تفاصيل هذه العمليات القذرة شريطة ان يحصلوا على اعفاء من العقوبة او على عقوبة مخففة، (يكونوا شاهد مَلِك كما هو متعارف عليه في اجراءات الشرطة).
القضية الرابعة الاحدث تمثلت في الحكم الذي اصدرته احدى المحاكم الاسترالية قبل ايام والمتمثل بالقاء القبض على مواطن استرالي يمتلك شركة نفطية ظهر انه متواطئ ومشترك في علميات الفساد النفطية في العراق. وتم ايداعه السجن بعد محاكمات وتحقيقات امتدت لسنوات، ولايزال القضاء الاسترالي ينتظر ان يتسلم متهمين اثنين اخرين احدهم موقوف في فرنسا والاخر في اسيا. وتم مرة اخرى تسمية نفس المتورطين من العراقيين، ومرة اخرى لم يعر القضاء العراقي لحد الان اية اهمية لهذه الحقائق الدامغة.
عندما ظهرت نتائج تحقيق الصحفي الاسترالي، وبعد ذلك اعترافات بعض المتورطين بعمليات الفساد، ووردت اسماء مسؤولين عراقيين (كبار)، شملت وزيرا اسبقا كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء، واثنين من وزراء النفط السابقين ايضا، مع مدراء لشركات نفطية حكومية، هبّت الوجوه الفاسدة للدفاع عن نفسها وانكار الجريمة، على الرغم من كل الاعترافات والوثائق والتسجيلات، والتي تم اعتمادها في المحاكم البريطانية والاسترالية. لم تكلف المحاكم العراقية نفسها حتى مشقة الاطلاع على هذه الحيثيات. وما زال المتهمون بها يشغلون مناصب رسمية كبيرة او يرشحون بين فترة واخرى الى مناصب وزارية جديدة.
الشيء المؤلم الاكثر من حقيقة ان هذه الاحكام صدرت عن محاكم اجنبية، وان القضاء العراقي لم يتخذ اي اجراء، ان المحاكم البريطانية والاسترالية اعلنت ان صرامة قرارات الحكم الصادرة جاءت بالدرجة الاولى لاسباب انسانية واخلاقية. فالمحكمة البريطانية ثبتت ان بيع اجهزة كاذبة ساهم في ان يفقد الكثير من العراقيين الابرياء ارواحهم، بينما ثبتت المحكمة الاسترالية مسالة اخلاقية اهم حيث ذكرت ان القضية لا تتعلق بمئات الملايين التي ستصادر او ستفرض كعقوبة على الجناة، وانما لان هذه العمليات الفاسدة تحرم الدول المتضررة من الاستفادة من ثرواتها الطبيعية، وتدمر مستقبل الاجيال القادمة من ابنائها.
ان كل ما قيل اعلاه لا يمثل سوى عشرة بالمائة من حجم الفساد المسكوت عنه والمحمي من قبل الحكومات المتعاقبة في العراق. واخر نموذج هو ما قامت به الحكومة الحالية، ورغم كل الكوارث التي اوصلت البلاد الى حافة الافلاس، ولكي تخرج من ضائقتها الاقتصادية، وبدلا من ان تتخذ اجراءات صارمة لمحاربة الفساد واسترداد الاموال المسروقة، قامت بالاقتراض من مصارف داخلية اهلية غالبيتها العظمى تاسست بعد عام 2003، واغتنت بالمشاريع والصفقات الفاسدة والوهمية، وعملية بيع الدولار من البنك المركزي العراقي. بكلمة اخرى ان الحكومة الان، وبدلا من ان تفتح تحقيقات حول كيفية تضخم موجودات هذه المصارف، تقترض منها، وبفوائد، الاموال التي سرقتها من اموال العراقيين.
سيبقى القضاء العراقي مطالبا باتخاذ ما يلزم لمحاربة الفساد والفاسدين، ومن يقف على راس المُطَالَبين بالوقوف بحزم المحكمة الاتحادية والادعاء العام. في القران الكريم وردت ثلاثة اوصاف لمن لا يحكم بما انزل الله، فمرة وصفهم بالكافرين واخرى بالظالمين وثالثة بالفاسقين. كما روي عن الرسول الكريم (ص) انه قال (القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار). والامر متروك لقضاة العراق في اختيار المأوى الاخير الذي يناسبهم، او الصفة التي يريدون يذكروا بها او تذكر بها عوائلهم.
2186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع