كي لا ننساهن – المرأة اليهودية العراقية

                                                  

                               داود كركوكلي

كي لا ننساهن – المرأة اليهودية العراقية

عديدة هي الدراسات والابحاث والكتب التي أرخت وتطرقت للإجحاف العرقي الذي مارسته الأنظمة القمعية المتعاقبة ضد يهود العراق في ستينات وسبعينيات القرن المنصرم. كان من البديهي أن تؤرخ معظم المنشورات، وبلغاتها المتعددة، للرجال ممن غيبوا أو أعدموا، من أبناء الطائفة الموسوية، في أقبية ومعتقلات المتعاقبين على كرسي الحكم ببغداد. غير أن تركيز هذه المؤلفات، التوثيقية والتحليلية والدراسية، على الضحايا الذكور، كون مجمل الضحايا من الرجال، خلف نوعا من الغبن والفراغ التاريخي بحق المرأة اليهودية من اللواتي فقدن معيلهن واضطررن، بين ليلة وضحاها، مرغمات غير مخيرات لإدارة بيوتهن وتربية اولادهن القصر في ظروف اقتصادية ونفسية لا يمكن وصفها الا بمرعبة.

كخلفية وللتاريخ نذكر، وقبل أن نخوض في غمار موضوعنا، بأن الفتيات اليهوديات كن من المبادرات من بين اقرانهن الفتيات العراقيات، لتخطي حاجز عتبة بيوتهن، فتخلين عن "الايزار" (لباس الخروج للمرأة الموسوية) والتحقن بمدرسة الاتحاد الفرنسية (الأليانس) - بعد أن كان تعليمهن يقتصر على الثقافة الدينية التي اعتدن على تلقيها داخل المنزل. مدرسة الاليانس هذه والتي عرفت فيما بعد بمدرسة لورا خضوري افتتحت فرعها الخاص بالبنات في بغداد عام 1893 ( ثلاثة عقود بعد افتتاح مدرستها للبنين)، وفي البداية كان هناك معارضة من قبل رجال الدين اليهود ولكن بعد ان بارك الخطوة الحاخام عبد الله سوميخ وفي عدم معارضة كبير الحاخامات آنذاك الحاخام يوسف حييم – طيب الله ثراهم، اينعت هذه المدرسة وربت اجيالا من الفتيات.

الفتاة اليهودية، وان كانت قد تحررت جزئيا من قيود مجتمعها الشرقي، بقت مكرهة ظلا للرجل لا تختلف عن باقي أطياف المجتمع من العراقيات. على الرغم من أن بعضهن مارسن الأعمال المتاحة من داخل منازلهن كالخياطات والقابلات ودلالات الزواج. وبالرغم من أن العديدات منهن كسرن تلك الحواجز وخضن مجالات عديدة، كالأدب وبالأخص كتابة القصة القصيرة انحصرت نجاحاتهن على التجارب الفردية، أمثال:

السيدة استرينا ابراهيم (زوجة الاديب القانوني انور شاؤول) والسيدة فهيمة ابراهيم، رائدة وباحثة اجتماعية من دعاة تحرير المرأة والسيدة ماتيلدا يوسف داود كاتبة ومترجمة (شقيقة مترجم القرآن للانكليزية نسيم يوسف داود) والسيدة رني طويق كاتبة متحررة ذات عقيدة ديمقراطية وتقدمية نشرت العديدة من اسهاماتها في الصحف العراقية خريجة دار المعلمات وعملت كمدرسة للغة العربية في مدينة العمارة، والسيدة مليحة اسحيق من رواد القصة العراقية والمربية الفاضلة والاديبة مريم الملا (زوجة الصحفي سليم بصون) التي كتبت العشرات من القصص القصيرة في العراق وفي إسرائيل والسيدة بحرية بنت المقدم العسكري الضابط سالم صالح عيزر التي كانت من أوائل الفتيات اللواتي شاركن في تظاهرة بالعراق.

كما التحقن عدد من الفتيات بالسلك التمريضي مثل وديعة ونظيرة ناحوم وطبيبات مثل الدكتورة فيوليت شاؤول طويق، والتي عاشت وتوفيت في بغداد، ود. سمحة اسحق من سكان البصرة والتي أنهت دراستها في جامعة دمشق عام 1947، ود. مارسيل سلمان اول يهودية تخرجت من كلية الطب ببغداد عام 1941 ومارسيل جابيد المحامية مواليد 1921 .وغيرهن من الفتيات اليهوديات اللواتي اخترن السلك التعليمي كالمربية الفاضلة صبيحة نوري زكريا التي كانت رائدة في تبني السبل التعليمية المعاصرة وتطبيقها كمديرة لمدرسة مئير طويق، السيدة خاتون مزين مديرة مدرسة حسقيل مناحيم دانيل الصناعية لتعليم حرفة الخياطة للبنات، ومساعد مدير متوسطة فرنك عيني وإعدادية شماش المربية الفاضلة سمحة ليلى والمرحومة مارسيل صالح مديرة ابتدائية مناحيم دانيل ولولو ناحوم الطلائعية التي تولت إدارة نادي لورا خضوري في بغداد.

كما انخرطن عدد من الفتيات اليهوديات، بعد فاجعة الفرهود عام ١٩٤١, في صفوف الحزب الشيوعي العراقي والحركة الصهيونية. ولم تقتصر الحياة العملية للنساء على حرف التمريض والتعليم بل تعدين ذلك إلى مجالات الهندسة والصيدلة والكيمياء وادارة الاعمال، خاصة منذ اوائل الستينات والى مغادرة الأغلبية العراق في أوائل السبعينيات بعد أن تعرض المكون اليهودي لأسوء حملات الاضطهاد والقتل، وهذا موضوع آخر بحد ذاته.

وتركن المحسنات اليهوديات من ذوات اليد البيضاء شواهد ملموسة على الارض مثل رفقة دانيل التي أنشأت مدرسة عام 1902، ومدرسة مسعودة سلمان 1932. كما تأسست عام 1932 جمعية نسائية خيرية لدعم النساء الحوامل المتعففات، ومن السيدات المؤسسات لهذا الصرح الخيري أولغا ليفي، حبيبة الكبير (ام ساسون) رحيمة مئير شعشوع، نجية صالح شوحيط، مزلي ستانلي شعشوع ومزلي حسقيل شوحيط وفيكتوريا مئير حكاك. وقد كرمت الحكومة العراقية السيدة رينة ابراهيم الكبير (زوجة مؤسس ديوان المحاسبة المالية ابراهيم الكبير بين عامي 1931-1946) وفيكتوريا سلمان بوسام الهلال الاحمر العراقي عام 1946 تكريما من على جهودهن الإنسانية. ولا بد في هذه الفسحة الضيقة أن نتذكر المحسنة راشيل حاخام اسحق (عقيرب) التي أقامت عام 1924، وبمبادرة ذاتية، مدرسة لتعليم المكفوفين أسمتها "دار مواساة العميان" لتحول بعزيمتها التي لم تعرف حدود، الأطفال المكفوفين من عالة على المجتمع إلى عازفين وحرفيين يكسبون شرف قوتهم بعرق جبينهم. وبهذا العمل الجبار غيرت نظرة المجتمع الاستخفافية للمعاقين. وقد برز العديد من الموسيقيين من تلامذة هذه الدار مثل ابراهيم سلمان وداود اكرم وغيرهم.

ونعود للفترات المظلمة، من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، الى اخر حقب الوجود اليهودي على أرض الرافدين، ففي خلال تلك الفترة شهدت المرأة اليهودية تغييرا جذريا في شخصيتها نتيجة للعوامل السلبية التي املتها الظروف السياسية والقيود التي فرضت على يهود العراق من منع السفر والتضييق على التنقل داخل العراق ومداهمات قوى "اللا أمن" لبيوت اليهود والاعتقالات التعسفية في الشوارع ودور السكن بلا أي مبرر قانوني. هذا ما عدا التعذيب الجسدي والنفسي الذي تعرض له اليهود وكان أوجهه اعدامات عام 1969 وتعليق الجثث في الساحات العامة ببغداد والبصرة بالإضافة للذين قضوا نتيجة لظروف اعتقال وتعذيب وحشية كانت حصيلتها المأساوية زهق ارواح ٥٠ فردا من أبناء الطائفة الوديعة خلفوا وراءهم أرامل وأمهات ثكلى وايتام بعمر الورود.

زوجات وامهات لم يتركن باب الا وطرقوه عرضوا فيه كل ما يملكن من دنانير ليخلصن الزوج أو الابن من بين فكي الطغاة لكن هيهات فالوعود التي تلقوها نكثت والأبواب أوصدت. لتنوح الام ابنها والبنت أباها والاخت أخيها هكذا كان حال ٥٠ عائلة مفجوعة في أواخر ستينات وبداية سبعينيات القرن العشرين.
لقد اوصد النظام ابواب الجامعات أمام من أكمل شهادة الثانوية من بعد 1967 وبهذا أضاعوا على الكثير منهم فرص التعليم الأكاديمي لا لشيء الا لكونهم يهود. واضطر البعض للعمل لإعالة ذويهم من الذين ضيقت عليهم مجالات التجارة وطاردهم النظام في لقمة عيشهم.

وحتى بعد تهجير ونزوح اليهود من العراق فإن وضع المرأة اليهودية الاجتماعي والاقتصادي، خارج العراق، أخذ مناحات أخرى حيث اضطرت معظم النساء لطرق ابواب العمل في مجالات لم تزاولها من قبل طلبا لرفع مستوى دخل أسرتها وبهذا أصبحت الكثير من الأمهات معيلات لعوائلهن بعد "تنحي" مضطرا معيل الأسرة جانبا.

فلنتذكر امهاتنا واخواتنا اللواتي بكين الليالي يتحسرن فيها على احباءهن ولنقدر لهن ما قدموه لأولادهن حاملات عبئ تربيتهم في دائرة الرعب. وقفة اجلال لنساء قسى عليهن طغاة قبل أن تقسى عليهن الأقدار ليقضوا ما حيين يتذكرون أعزاءهن.

نتأمل بأن نتطرق في المستقبل القريب في مقال منفصل وبشكل أوسع عن دور المدرسات من يهود العراق في النهضة التربوية في العراق وبعد هجرتهم الى إسرائيل.

المقالة لذكرى المرحومة والدتي خريجة الأليانس التي التفت بالعباية وهي تبحث عن والدي في معتقلات البصرة.

حولون - إسرائيل


المصادر:
- صالح طويق، ذكريات وخواطر، من منشورات رابطة الجامعيين اليهود المنحدرين من العراق، ٢٠١٢/١١.
- يوسف مئير، التطور الاجتماعي الثقافي ليهود العراق منذ عام ١٩٨٠- إلى وقتنا المعاصر، ١٩٨٩ بالعبرية.
- شاؤول اسحيق، التحولات في وضع المرأة اليهودية بالعراق منذ نهاية القرن التاسع عشر ، مجلة "فاعميم" الفصلية العدد 36 معهد بن تسفي لدراسات تراث وتاريخ يهود الشرق (بالعبرية).
- نيلي گباي، تعليم بنات الطائفة الموسوية ببغداد (1894-1951), مجلة "فاعميم" الفصلية العدد 82، معهد بن تسفي لدراسات تراث وتاريخ يهود الشرق (بالعبرية).
- ابراهيم توينا، موسوعة شتات وتحرر، الجزئين الخامس والسادس،1977 (بالعبرية).

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

963 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع