نزار جاف
ويسألون عن العيون السود
سألوه، مارأيت في العيون السود حتى منحتها تلك الفيافي المترامية من دنيا وجدك؟ هل هي حقا بذلك الحسن و انها تأخذ من القلب تلك المساحة الواسعة؟
قالوا؛ ماذا عن العيون الزرقاء والخضراء والشهلاء؟ هل نسيت بهجة الاخضرار و زرقة السماء و بريق شهل العيون التي تشعل نيرانا في آجم و أغوار الروح وهل کان روميو أو کازانوفا أو روفائيل عشاقا لعيون سوداء؟
وهتف به شاعر توله زمنا في دنيا العيون؛ تتمادى و تمنح دجى الليل فضلا على الغسق و لحظات ولادة النور و تباشير الحياة، والله أنك لفي تيه ليس هناك من بعده تيه!
وعاتبته تلك التي ظنت أن عيناها فقط کانتا(حديث دنياه و شاغلة قلبه)، ورفضت تبريراته عن تفضيله لسواد مبهم على الضياء الواضح؟
أما آخرون، فقد رأفوا بحاله و ظنوا أن الکبر قد أخذ من لبه و جعله أسير حالة حنين لشئ ضاع منه ذات يوم من دون أن يکون قد ملکه حقا، وهم لذلك تعاطفوا معه و سايروه کي يحتفظ بما بقي له في رأسه المتعب.
لکن، کثيرون و کثيرون، وجدوا أنفسهم مولهين و مغرمين أکثر من هذا الذي يدعي عشقه للعيون السود التي لم تنجبها بقعة من أرض الله الواسعة کما أنجبتها الصحراء العربية بعد مخاض عسير لحسن دجى لم يضاهيه أي نور أو ضياء أو خضرة أو زرقة أو قوس و قزح على الاطلاق!
يسألونه عن العيون السود، ولم يك أي منهم شريك سفره الوجداني لسنوات و عقود بحثا عن ألق کحل ذلك السواد الذي لم تضع رتوشه إلا ترانيم و أصداء مجهولة من عمق الصحراء العربية، لم يحمل أي منهم بؤبي عينيه و سراج قلبه و وجد روحه کي يجول بهم في أرض خلقها الله في ستة أيام لکنها طوت من عمر الانسان ملايين و ملايين السنين، من أجل إکتشاف قارة للعيون، قارة ضيائها کظلامها، موتها کحياتها، وجودها کعدمها، قارة لا يدنس طهارة حسن أرضها إلا من توضأ ببريق دجى الليل الجاثي صريعا أمام بواباتها، انها قارة مختلفة تماما الاختلاف عن قاراتکم السبعة وليست ولن تکون أبدا مجرد أخت صغرى لهن بل هي القارة الامبراطورة التي يختزل و يتسامى فيها المکان و الزمان وهي القارة الوحيدة التي تسلب الالباب من دون قمر أو نجوم!
يسألون عن عيون قد تکفي مجرد إيماءة منها لإقصاء الناظر الى عالم آخر، عالم الضياع في الحسن و الالق الليلي، عالم الذوبان في أمواج يم من دياجير الانبهار و الغرق اللذيذ، ومن غاب في أغوار مور دجى هذه العيون، فلا خلاص له أبدا وانما سيظل محکوما أبديا کسيزيف لکنه لن يدفع صخرة ما وانما يضع وعن طيب خاطر قيودا من نجوم سوداء حول روحه و قلبه ويظل يرتل سفر العيون السود من کتاب الصحراء العربية.
قال شاعر ذابت العديد من الحسان وجدا في عيونه السوداء وسماره الطاغي لما علم بلوعتي في العيون السود؛ لکن اللون الاسود بلا أصالة، وهو في الواقع لا وجود له وانما مجرد عدم، محض عدم، لا بل هو لون و معنى الموت، ألا تخبرني مالذي بهرك في هذا اللون الاخرس؟
يقول الزاهد الايراني الشيخ أبو سعيد أبو الخير:
لو اصبحت ترابا
لترابك أصير ترابا
لأنني لترابك صرت ترابا
فقد تطهرت.
الوجود جاء من العدم، و الضياء إنبثق من الظلام، والمکشوف جاء من المستور و المجهول، فکيف يکون الاسود غير أصيلا؟ کيف يکون الموت لاشيئا وهو بوابة الحياة الحقيقية؟ أوليس يتمنى خيرة الزهاد و العارفين و من وصل في عشقه الى الذروة، الفناء؟ وأجمل الکلام و أعذبه ماتقوله عيون خرساء لاتجيد من الالفاظ شيئا سوى تسعير جحيم کلمات من عشق يبدأ لکن هيهات و هيهات أن ينتهي وتلك هي قصتي مع العيون السود، قصة کتلك القصص التي لها بداية واحدة لکن في نهايتها ألف و ألف مفترق.
828 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع