بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة - عُشُق هيلين /الجزء الاول
تبدأ قصتنا باواخر شهر ايار من عام 1977 الساعة التاسعة صباحاً دخل الاستاذ مصطفى الى صفه فوجد الطلاب بحالة فوضى عارمة. كانت اصواتهم تصل الى اقصى نقطة بالمدرسة، لكنهم هدأوا فجأة لما شاهدوا معلمهم يدخل من الباب. نادى مراقب الصف باعلى صوته "قيــــــــــــام" فوقف الجميع خلف رحلاتهم بهدوء وكأنهم جنود بثكنة عسكرية. وضع مصطفى اضبارة تحتوي على اوراقه على المنضدة بالقرب من السبورة ثم نظر اليهم وتفحصهم جيداً ثم قال ببرود تام "جلوس" فجلس الطلاب وهم يرتعدون خوفاً من العقاب. الا ان الاستاذ مصطفى كان رحيماً جداً وكان لا يلجاً للعقاب الا بالضرورة القصوى ومع ذلك فقد تظاهر بالغضب كي يجعلهم يصلحون من سلوكهم مستقبلاً لانه يعرف انه مربي بقدر ما هو معلم. حالما انتهى من لحظات الترهيب الصباحية استدار نحو السبورة وقام بمسحها فصار غبار الطباشير يتطاير بكل مكان ثم كتب بالانكليزية في وسط السبورة كلمة Pronunciation اي اللفـظ. قال مصطفى، "اليوم سنواصل تعلم طريقة لفظ الكلمات بالانكليزية مفهوم؟" فاجابه الجميع بصوت واحد، "مفهــــــــوم استاذ".
بدأ يطلب من طلابه تلفظ كلمات كان يكتبها على السبورة وكان الطلاب يصيبون تارةً يخطأون اخرى لكنه كان يتجنب سؤال احد من تلامذته بالتحديد وهو الطالب لؤي لانه يعلم تماماً انه فصيح بالانكليزية وذلك يعود لكون والدته من بريطانيا. اما باقي الطلاب فكانوا بمستوىً متوسط واحد تقريباً.
بقي الاستاذ مصطفى يدرّس طلابه حتى انتهاء فترة الحصة والتي دامت 45 دقيقة لما سُمِعَ رنين جرس الفرصة فانطلق الطلاب من الصف كقذائف الكاتيوشا الصاروخية فرحين بالحرية وصار صراخهم يصم الاذان. انتقل مصطفى الى صف آخر وبات يدرس مادته التي تخصص بها "الانكليزية". بقي يتنقل من صف لآخر حتى دق الجرس معلناً فرصة الغداء فحمل اغراضه وتوجه الى غرفة المدرسين التي تلتصق تماماً بغرفة مدير المدرسة الاستاذ حنا.
"صباح الخير يا شباب" قالها استاذ مصطفى وهو ينظر الى اصدقائه المدرسين الثلاثة الذين جلسوا على طاولة كبيرة من دون الاناث فاعترضت احدى المدرسات وقالت،
جانيت : الا تسلم علينا يا مصطفى؟
مصطفى : بالعكس انتن تستحقن اكثر من السلام.
وبدأ يحرك حواجبه،
جانيت : ماذا تقصد يا استاذ؟
مصطفى : اقصد انكن تستحقن هذه.
دس يده في كيس بلاستيكي كان يحمله واخرج باقة من الورد الاحمر فقدمها للست جانيت. جانيت هي اقدم مدرسة بهذه المدرسة العريقة مدرسة القديس يوسف الابتدائية الاهلية التي خَرّجَتْ اجيالاً من العلماء والسياسيين ومهندسين والمهنيين بحيث كانت الست جانيت من اوائل المُدَرّسات فيها وهي ستحال على التقاعد بنهاية السنة الدراسية الحالية. تفحص مصطفى الست جانيت فوجد الدموع قد فاضت بمقلتيها من الفرح ثم وقفت واحتضنت مصطفى لانها تعتبره واحداً من اولادها. صار المدرسين يشربون الشاي ويتناولون الكعك الذي احضرته احدى المدرسات، وفجأة دخل عليهم الاستاذ حنا مدير المدرسة والابتسامة العريضة قد رُسِمَت على وجهه،
حنا : صباح الخير يا اساتذة، كيف حالكم؟
فاجابه الجميع بانهم بخير ويدعون له بالصحة والعافية. نظر الى مصطفى وسأل،
حنا : متى ستسافران؟
مصطفى : لقد قررنا انا والاستاذ فارس ان نطير من مطار بغداد يوم 15 تموز.
فاضاف الاستاذ فارس قائلاً،
فارس : اردنا ان نحتفل بثورة 14 تموز اولاً ثم نتجه بعدها الى اليونان. هاهاها
مصطفى : هذا غير صحيح يا استاذ حنا، بل لاننا لم نجد اي حجز الى اليونان قبل هذا الموعد. فقد كنا نود ان نذهب هناك بداية عطلتنا الصيفية الا اننا صدمنا بان الاماكن كلها كانت ملئى للآخر واقرب فرصة ستكون يوم 15 تموز فقبلنا بها على مضض.
المدير حنا : وكم ستمكثون هناك؟
فارس : شهراً واحداً. بالواقع ستكون اربعة اسابيع كاملة.
المدير حنا : انا احسدكم على هذه الرحلة يا شباب. من المؤكد ستكون ممتعة، فاليونان جميلة وبها مرافق وآثار رائعة. لدي فيها ذكريات حلوة مع زوجتي ام هيثم عندما تزوجنا.
مصطفى : ولماذا لا تأتي معنا يا استاذ حنا؟
المدير حنا : انا رجل متزوج وابني الاكبر هيثم بكلية الصيدلة سنحتفل بخطوبته على سهاد ابنة احد اصدقائي في هذا الصيف. هي بنفس الكلية مع هيثم. اما انتما فلا زلتما عزاباً وبامكانكما الاستمتاع بشبابكما قبل ان تُكَبّلونَ بالعوائل والاطفال والمسؤوليات.
مصطفى : كلامك صحيح لكني ايضاً خاطب يا استاذ حنا.
المدير حنا : ومن هي سعيدة الحظ يا مصطفى؟
مصطفى : انها الست جانيت، سنتزوج قبل رأس السنة.
جانيت : اخرس ايها المعتوه، انا اتزوجك؟ لا تأبه لهذا الفتى المتهور، انه يكذب عليك يا استاذ حنا. فانا بسن جدته.
المدير حنا : وانا اعرف ذلك يا ست جانيت. انه يمازحك وحسب.
ضحك الجميع فوقف الاستاذ حنا وقال،
المدير حنا : اذهبوا الى صفوفكم الآن ساقوم بقرع الجرس.
تفرق الجميع متوجهين الى صفوفهم وفي الطريق همس الاستاذ فارس باذن صاحبه،
فارس : اليوم ساذهب الى توماس كووك لاشتري التذاكر.
مصطفى : دعنا نذهب سويةً يا فارس، متى ستخرج؟
فارس : الساعة الخامسة بعد الظهر.
مصطفى : ساكون امام منزلكم بسيارتي تمام الخامسة، اتفقنا؟
فارس : اتفقنا، ولكن لا تنسى ان تجلب نقودك معك.
مصطفى : بالتأكيد. لقد توقفوا عن اهداء التذاكر المجانية لزبائنهم منذ امد بعيد. هاهاها
توادع الصديقان ودخل كلٌ الى صفه. وفي مساء نفس اليوم وقف مصطفى امام منزل صاحبه فارس بالساعة الخامسة الا ربعاً وقام بالكبس على الجرس. خرجت ادّا اخت فارس فقال لها مصطفى،
مصطفى : هلو ادّا، كيف حالك؟
ادّا : هلو مصطفى. انا بخير ومنهمكة بالدروس. انت تعرف الطبّية وهمها. فنحن ننام ونستيقظ على الدم والعظام والاعضاء البشرية والجماجم.
مصطفى : اعانكم الله. ان الطب معقد جداً. لذلك اخترت الأدب الانكليزي لانني لا اقوى على دراسة الطب.
ادّا : بل قل ان معدلك كان ضعيفاً بالاعدادية وكنت قد تخصصت بفرع الادبي.
مصطفى : ويحك يا عقربة. هل تتلذذين بتعذيبي يا ملكة الزواحف؟ ان لسانك دائماً كالمنشار. اين اخوكِ الصعلوك؟
ادّا : العرّيس يرتدي ملابسه وسوف ينزل فوراً. تفضل ادخل ودعنا نخسر عليك زجاجة ببسي او فنجان قهوة.
مصطفى : لا اريد ببسيكم ولا قهوتكم، فستحسبونها عليّ دَيْناً انتم المصالوة. سانتظر اخاك هنا شكراً.
ادّا : كما تشاء عزيزي مصطفى، لقد وفّرت.
انتظر مصطفى خمس دقائق فقط حتى جائه صديقه فارس مرتدياً ملابس صيفية انيقة.
مصطفى : ما هذا يا فتى؟ تبدو وكأنك مارلون براندو.
فارس : اترك هذه المجاملات الرخيصة ودعنا نذهب الى وكالة السفريات قبل ان يغلقوا ابوابهم.
ركب الصديقان سيارة مصطفى من نوع (لادا) وتوجها الى منطقة السعدون ومن هناك الى وكالة (توماس كووك) للسفريات. اوقفا السيارة بالقرب من الوكالة ودخلا هناك فوجدا موظفة سمراء تجلس خلف جهاز الحاسوب. بدأ فارس بالكلام،
فارس : مساء الخير سيدتي.
الموظفة : مساء الخيريا سادة تفضلا بالجلوس، كيف استطيع خدمتكما؟
فارس : لدينا حجز اولي على يوم 15 تموز لشخصين، الاول باسم فارس شاشة والثاني باسم مصطفى عبد السلام.
الموظفة : اجل الحجز مؤكد وبامكانكما شراء التذاكر الآن.
فارس : وهذا سبب مجيئنا اليوم. اردنا شراء التذاكر وصكوك المسافرين لو سمحتِ.
الموظفة : على الرحب والسعة. اجلسا دقيقة واحدة، اجهّز لكما التذاكر والصكوك.
بدأت الموظفة الشابة باعداد التذاكر ثم غابت لبضع دقائق ثم عادت حاملة دفترين طويلين يمثلان تذاكر السفر. قالت،
الموظفة : المبلغ الاجمالي 553 دينار، اي 76 ديناراً ونصف بالنسبة للتذاكر و200 دينار على هيئة صكوك مسافرين لكل فرد.
فارس : الحمد لله لان الدينار العراقي يساوي قرابة الثلاث دولارات هذه الايام والا لكنا دفعنا مال قارون.
دس فارس يده بجيبه واخرج حزمة منضدة من الاوراق المالية ثم وضعها على طاولة الموظفة وقال، " تفضلي سيدتي"
استلمت الموظفة الحزمة وصارت تعدها ثم ارجعت له الباقي فاخذ فارس التذاكر وصكوك المسافرين وورقة مطبوعة تحتوي على تفاصيل الرحلة بالكامل. شكرها فارس ومصطفى وخرجا وهما بغاية السعادة وحينها سأل مصطفى،
مصطفى : هل تعتقد ان الجو سيكون ساخناً هناك؟
فارس : حسب معلوماتي فان درجة الحرارة باثينا ستكون مرتفعة جداً. ربما اقل بقليل من بغداد لكنها ساخنة، لذلك يجب عليك ان تأخذ ملابس صيفية خفيفة.
مصطفى : هذا ما كنت افكر به. انا جداً سعيد يا فارس لانها اول سفرة لي الى خارج العراق. فانا لست مثلك لانك ابن بطوطة يا محتال، تسافر كل سنة الى الخارج ولولاك لما تجرأت ان اسافر لاي مكان وحدي.
فارس : دعك من هذا الحسد يا مصطفى وفكر بالرحلة التي سنستمتع بها بالعطلة الصيفية والتي سَنُحَدّث بها احفادنا بالمستقبل.
رجع الصديقان الى المنزل وبقيت التذاكر وصكوك المسافرين لدى فارس. باليوم التالي التقى الصديقان بالمدرسة وعاد كلٌ الى صفه منهمكين بالتدريس. وعندما التقيا ثانية في فترة الفرصة بغرفة المعلمين قال مصطفى،
مصطفى : ايها الزملاء الاعزاء ايتها الزميلات العزيزات نود ان نبلغكم اننا بالامس استلمنا تذاكر السفر وصكوك المسافرين وقد تأكدت رحلتنا الى اثينا يوم 15 تموز اي بعد شهر ونصف من الآن ولم يبقى لدينا سوى اجرائات الحصول على تأشيرة اليونان. بامكانكم تقديم التهاني والتبريكات والهدايا. قالت الست جانيت،
الست جانيت : اي هدايا هذه التي تتحدث عنها؟ نحن الذين ننتظر منكما الهدايا عندما تعودان من اليونان. انا اريد زجاجة عطر احبها كثيراً واسمها (سوار دي باريس).
فارس : ساكون سعيداً لان البي طلبك هذا يا ست الستات.
مصطفى : وانا كذلك سالبي طلب اي واحد منكم طالما لا يزيد ثمن طلبه عن ربع دينار عراقي.
فارس : وتقول علينا مصلاويين؟
ضحك الجميع وبدأوا بشرب الشاي.
بعد مرور حوالي شهر على هذه الحادثة اي باوائل حلول العطلة الصيفية اتصل فارس بصديقه مصطفى وقال بصوت مضطرب،
فارس : انجدني يا مصطفى، انا بامس الحاجة اليك. الوالدة مريضة جداً واريد مساعدتك.
مصطفى : بالتأكيد حبيبي، سلامتها ان شاء الله، ما خطب الخالة ايڨلين؟
فارس : لقد اغميَ عليها فجأة هذا الصباح. اتصلنا بالدكتور البير قليان لكنه لم يكن بالبيت ارجوك تعال بسرعة.
مصطفى : سارتدي ملابسي فوراً واكون عندك مسافة الطريق.
ركب مصطفى سيارته وقادها باقصى سرعة من الجادرية متجهاً الى بيت صديقه فارس بالكرادة. وحالما دخل البيت وجد الجميع يبكي ويولول. وعندما شاهده فارس قال،
فارس : لقد راحت من يدنا يا مصطفى. امي ماتت.
مصطفى : ماذا تقول يا رجل؟ قبل يومين فقط كنت اتحدث اليها وقد كانت توصيني كي اعتني بك باليونان. كانت بخير ولم تكن تشكو من اي شيء. ماذا جرى؟
فارس : بدأت تحس بصداع شديد ليلة امس، استمرت تعاني من هذا الصداع حتى صباح اليوم. قامت اختي ادّا بقياس ضغطها فوجدته مرتفعاً جداً. وبعد ان اتصلت بالدكتور البير ولم تجده بالبيت ولا بالعيادة قمت انا بمهاتفتك فقلت بانك ستأتي على الفور كي ننقلها بسيارتك للمشفى. ولكن بعدها بدقائق تَمَكّنَت اختي ادّا من العثور على طبيب بالمنطقة واستدعته انه جارنا الطبيب علي وما ان دخل الى البيت وكشف عليها الا وخرج من غرفتها بعد دقائق ليخبرنا بانها فارقت الحياة. ماتت امي بسرعة كلمح البصر يا مصطفى لا اعلم كيف حصل ذلك.
اجهش فارس بالبكاء مما جعل مصطفى يذرف الدموع ويهون عليه ويضمه وصارا يبكيان كالاطفال. لم يتمكن مصطفى من تعزية ادّا لانها كانت بحالة صعبة جداً وهي تبكي وتنعي امها. بقي مصطفى معهم طوال اليوم وهو يستقبل المعزين وكان فريق من اقاربهم يهيئون ايڨلين كي يذهبوا برفاتها الى كنيسة سيدة النجاة بالكرادة. كان مصطفى معهم طوال الوقت كما لو كانت والدته هي التي توفت. بقي معهم حتى أخِذَت الى المقبرة ودفنت هناك. كان فارس ممتناً من صاحبه لانه قام بكل شيء من الالف للياء. بعد اربعة ايام من الوفاة اتصل فارس بمصطفى صباحاً بالهاتف وقال،
فارس : اسمع مني يا مصطفى، لقد قررت ان الغي رحلتي الى اليونان.
مصطفى : لماذا يا فرّوسي؟ ان الرحلة ستنسيك آلامك وتهون عليك فراق الوالدة.
فارس : لا يا مصطفى، ان قلبي حزينٌ جداً وسوف لن اتمكن من الاستمتاع بالرحلة. سانكد عليك بكل شيء هناك. يجب علي ان الغي رحلتي.
مصطفى : إذاً سالغي رحلتي انا ايضاً. انا لن اذهب وحدي وانت حزين.
فارس : لا تكن سخيفاً يا مصطفى. ان اهم سبب لبقائي ببغداد هو لدعم اختي ادلين حتى لا تكون وحيدة بالدار فتصبح فريسة الحزن على الوالدة اما انت فارجوك اذهب وحدك واستمتع بدلاً عني.
مصطفى : هذا مستحيل، سوف لن اذهب بدونك يا فرّوسي. يجب عليك ان تغير هذا الجو الكئيب وان تستمتع بوقتك. اما ادّا فستكون بخير في بيت عمك ريمون.
فارس : لا يا مصطفى. لا اريد ان اتركها وحدها. سالغي رحلتي انا فقط. اذهب انت وحدك.
مصطفى : دعنا نذهب الى وكالة السفر ونرى إن كان بامكاننا استرجاع ثمن تذاكرنا وصكوك المسافرين.
خرج الاثنان في عصر ذلك اليوم بعد ان تناولا وجبة الطعام التي اعدتها لهم ادّا والتي كانت بامية وتمن. ركب الصديقان بسيارة مصطفى وتوجها الى السعدون حيث مكتب السفريات. وحالما دخلا المكتب وجدا نفس الموظفة التي اصدرت لهما التذاكر والصكوك. فحيوها وسألها فارس،
فارس : اختي العزيزة، لقد طرأ امر جلل في العائلة. فقد توفت والدتي وسوف لن نتمكن من السفر الى اليونان.
الموظفة : البقاء بحياتك استاذ فارس ولكن بحسب علمي فان التذاكر غير قابلة للارجاع. دعني اسأل السيد المدير بما انها حالة وفاة طارئة. ربما يكون لديه رأي آخر.
دخلت الموظفة مكتب المدير كي تحاول الاستفسار منه. وبعد عشر دقائق رجعت وقالت.
الموظفة : لقد تحدثت مع السيد المدير، لكنه اخبرني بان ترجيع ثمن التذاكر مستحيلاً. انا آسفة جداً.
فارس : وماذا عن صكوك المسافرين؟
الموظفة : بالطبع بامكانكما ارجاع ثمنها دون اي خسارة.
هنا التفت الى صاحبه وقال،
فارس : بما ان ارجاع التذاكر مستحيلاً فلماذا نخسر اموالنا نحن الاثنان؟ دعني انا ارجع صكوكي واخسر ثمن الرحلة فحسب ولكن بامكانك انت ان تسافر وحدك يا مصطفى. حرام عليك ان تخسر تذكرتك انت الآخر.
مصطفى : ولكن يا فارس الخالة ايڨلين لم يمر على وفاتها...
قاطعه فارس وقال،
فارس : انا لا الغي رحلتي بسبب وفاة امي وحسب. انا الغيه كي ابقى بجانب اختي ادّا. لا اريدها ان تكون وحيدة بهذا الوقت العصيب، ثم انك غير مجبر ان تخسر نقودك يا اخي. لاحظ انك سوف لن تكون بجانب اختي ادّا بل انا الذي ساكون بجانبها. اذهب حبيبي الى اليونان وانا ساستمتع بالرحلة كما لو كنت قد ذهبت معك.
مصطفى : ولكني لم يسبق لي ان اسافر ولا...
قاطعه فارس ثانية وقال،
فارس : انت ضليع باللغة انكليزية وهذه اللغة ستخدمك كثيراً بالسفر. اليونان بلد سياحي وسوف ترى ان جميع الناس هناك سيهرعون لخدمتك فلماذا تتردد؟
مصطفى : حسناً. دعنا نسترجع صكوككَ انت على الاقل حتى لا تكون خسارتك كبيرة.
ارجع فارس صكوكه واستلم النقود دون اي خسارة ولم يخسر سوى ثمن تذكرة سفره. اما مصطفى فقد وافق على ان يبقي على رحلته ويسافر وحده.
في صباح يوم 15 تموز اي بيوم السفر هاتف فارس مصطفى وسأله،
فارس : متى ستتحرك الى المطار؟
مصطفى : الطائرة ستقلع الساعة السابعة مساءاً لذلك ساخرج بسيارة اجرة من بيتي الساعة الثالثة ظهراً.
فارس : ولماذا لا تأتي الى هنا بسيارتك، ثم نذهب سوية الى المطار؟ ساقوم انا بارجاع السيارة الى منزلك.
مصطفى : ما هذا السخف يا فارس؟ بل ابقي السيارة معك واستعملها كما تشاء فانا لست بحاجة اليها عندما اكون باليونان.
فارس : وماذا لو وقع للسيارة مكروه؟
مصطفى : فداك يا اخي هي وصاحبها.
شكر فارس صديقه مصطفى وقال له،
فارس : إذاً تعال الى هنا بسيارتك وسنخرج سويةً الى المطار.
مصطفى : حسناً ساكون عندك بحدود الثالثة.
اغلق مصطفى الهاتف مع صاحبه ثم رجع الى غرفته ليتأكد لآخر مرة من الاغراض التي يجب عليه وضعها في الحقيبة قبل ان يغلقها. بعد الظهر ذهب الى بيت فارس فسأله فارس،
فارس : هل تمانع إن جائت معنا ادّا للمطار. اريد ان اخرجها من ازمة الكآبة التي تعاني منها.
مصطفى : وهل تطلب مني الإذن؟ انها اختي كما هي اختك. دعها تأتي.
ركب الثلاثة في السيارة وانطلقت بهم الى المطار، وفي الطريق كان فارس يسدي النصائح لصاحبه حول اجرائات السفر وتفاصيله لانها الرحلة الاولى لمصطفى وعلى ما يبدو فهو خائف قليلاً من ركوب الطائرة.
وقتما اعلن عن توجه المسافرين الى قاعة المغادرة، قام مصطفى بتوديع فارس وادّا ثم دخل قاعة الجمارك فسأله الموظف الواقف هناك بلهجة ريفية مميزة،
الموظف : هل تسافر وحدك اليوم؟
مصطفى : اجل وهذه اول رحلة لي بالطائرة.
الموظف : احذر يا اخي. اغلب الطائرات التي تتجه نحو اليونان تسقط ويموت جميع ركابها.
مصطفى : ما... ما... ماذا تقول؟
الموظف : انا امازحك يا رجل هاهاها. طائراتنا الخطوط الجوية العراقية هي اامن خطوط بالعالم لان جميع طيارينا يتلقون افضل التدريبات ببريطانيا بمنطقة تدعى پرث باسكوتلندا وباوكسفورد فاطمئن ولا تخف.
مصطفى : لكنني لست مسافراً على الخطوط الجوية العراقية. رحلتي هي على الخطوط الاولمپية.
الموظف : اجل انها ايضاً خطوط جيدة. لا تقلق عدد الحوادث عندهم قليل جداً هاهاها
مصطفى : طمأنك الله يا اخي.
جلس مصطفى في صالة المغادرة ينتظر موعد اقلاع الطائرة. وبعد نصف ساعة سمع الاعلان التالي: "تعلن شركة الخطوط الجوية الاولمپية عن اقلاع رحلتها رقم 008 المتجهة الى اثينا. على حضرات المسافرين الكرام التوجه الى البوابة رقم 6"
وقف جميع المسافرين ووقف معهم مصطفى ثم ساروا نحو الموظفة التي وقفت عند بوابة المغادرة كي تتفحص بطاقة الـ (بوردنگ) للمسافرين. وعندما دخل مصطفى الطائرة لاول مرة بحياته صار يتفحصها من كل الجوانب فقابلته مضيفة شقراء جميلة حيّته بكل ادب وسألته عن بطاقة الصعود فاعطاها البطاقة. نظرت اليه وشعرت انه بحاجة للمساعدة فقالت، "اتبعني لو سمحت"
سارت المضيفة بالممر الوسطي للطائرة وتبعها مصطفى حتى وصلا الى الكرسي رقم 27B فقالت له "تفضل سيدي، اجلس هنا، بامكانك وضع امتعتك في الخزانة العلوية".
اعطته بطاقته فجلس وربط حزام الامان كما علّمه صاحبه فارس بالسيارة في طريقهم الى المطار. بقي يتفحص الطائرة من الداخل ويقارنها بما كان يشاهده في الافلام فبدت له وكأنها اصغر بكثير مما تخيل. ابتدأت الطائرة تتحرك وصار قلبه يخفق بتسارع كبير حتى اقلعت بهم فبدأ يشعر انه يشكو من الاسهال بمعدته. نظر الى الاعلى واذا بعلامة ربط الاحزمة قد خبت. فتح حزامه وسار الى مؤخرة الطائرة كي يذهب للمراحيض لكنه عندما دخلها واراد ان يقضي حاجته وجد انه كان انذاراً كاذباً وانه كان يعاني من الهلع فقط. لذا غسل وجهه بالماء البارد وعاد الى مقعده.
بقيت الطائرة تحلق فوق السحاب لساعات طويلة حتى سمع الطيار يعلن عن اقتراب موعد وصولهم الى مطار اثينا الدولي فربط حزامه وصار يستعد نفسياً لمجابهة موجة جديدة من الرعب. لكنه شعر بتحسنٍ كبير عندما حطت الطائرة وصارت تسير على ارض المطار. فتح حزام الامان ووقف كي يسترجع امتعته من الخزانة العلوية فوجد المضيفة تقف له بالمرصاد. امرته بالجلوس وارتداء الحزام فوراً لان الطائرة مازالت تتحرك فرجع وجلس على كرسيه وربط الحزام بينما كان ينتابه شعور بالخجل. حالما توقفت بشكل نهائي بدأ الركاب بفتح احزمتهم ففتح حزامه معهم ووقف ليأخذ امتعته ويسير مع باقي المسافرين. ولما انفتح باب الطائرة جابهه منظر المطار ومركبات الخدمات والصيانة التي تسير بكل الاتجاهات. هبط من سلم الطائرة وركب حافلة كبيرة مع باقي الركاب فنقلتهم الى صالة الوصول. عندما اكمل اجرائات الجمارك خرج الى صالة الاستقبال يجر حقيبته ورائه، نظر بوجوه الناس الذين جائوا لاستقبال احبتهم واقاربهم لكنه لم يتوقع ان يستقبله احد فاستمر بالسير حتى شاهد رجلاً يحمل ورقة بيضاء كتب عليها اسمه بالانكليزية "مصطفى عبد السلام" فذهب صوبه وقال له بالانكليزية، "انا مصطفى عبد السلام" فرد عليه بلغة انكليزية مهلهلة، "اهلاً بك باليونان رجاءً اتبعني" اراد ان يصحح له لفظه للانكليزية لكنه توقف بآخر لحظة وتذكر انه ليس احد تلاميذه فتبعه بصمت وسارا نحو مراب السيارت فركب الرجل امام مقود السيارة بينما جلس مصطفى بجانبه. سارت بهم السيارة لمدة نصف ساعة بداخل المدينة النائمة في جنح الظلام حتى وصلا الى الفندق الذي كان اسمه "فندق الاكروپوليس" فقال مصطفى بسره، "يبدو انه فندق من الدرجة الاولى" لكنه صدم بالفندق لان الاسم لم يكن يوازي مستوى الاسم الرنان. توجه مباشرة نحو مكتب الاستعلامات فحياه الموظف هناك وطلب منه ملأ استمارة الاقامة ثم اخذ منه جواز سفره واخبره بانه سيرجعه اليه في صباح اليوم التالي. طلب منه مصطفى ان يتصل به هاتفياً الساعة التاسعة كي يوقظه من نومه.
قال له الموظف ان غرفته في الطابق الثاني وسوف يعاونه الشيال على حمل الحقيبة. حمل الشيال الحقيبة فتبعه مصطفى. ركب الرجلان المصعد حتى بلغا الطابق الثاني فسار الشيال بالحقيبة في الممر الطويل حتى توقف امام احدى البيبان ففتحها واشعل النور ثم وضع حقيبة مصطفى على طاولة خشبية. سأل الشيال مصطفى إن كان يريد اي شيء آخر فاجاب "كلا". بقي واقفاً ينظر الى مصطفى وبقي مصطفى ينظر باستغراب للشيال ثم فهم الشيال ان مصطفى لايرغب اعطائه اي بقشيش فدمدم ببضع كلمات باليونانية وخرج من الغرفة وهو يهز برأسه. تفحص مصطفى الغرفة فوجدها بحالة لابأس بها الا ان الجو كان ساخناً جداً فبدأ يبحث عن جهاز التحكم بالمكيف (الثرمستات) حتى وجده على الجدار بالقرب من الحمام. اداره للآخر لكن المكيف صار بنفث هواءاً ساخناً. اراد ان يغير درجة الحرارة الا انه لم يستجيب فرفع الهاتف وتكلم مع الاستعلامات بالانكليزية وقال لهم بان جهاز التكييف لا يعمل. اخبره الموظف بان ليس هناك مجال لاصلاح العطل بالتكييف بتلك الساعة المتأخرة من الليل وسيقوم بتغيير الغرفة باليوم التالي لذا عليه ان يتحمل حرارة الجو. وافق مصطفى على مضض لانه كان يشعر بتعب شديد وكانت من اوائل همومه هو النوم. فتح الشباك كي يحصل على هواء نقي ثم خلع ملابسه جميعها ورمى نفسه على السرير ليغرق بنوم عميق حتى استيقظ باليوم التالي على صوت الهاتف وهو يرن بالحاح مزعج. رفع السماعة واذا بموظف الاستعامات يقول، "كاليميرا"
فلم يفهم مصطفى ما قيل له فسأله بالانكليزية،
مصطفى : ماذا تقصد؟ لم افهمك!
موظف الاستعلامات : (كاليميرا) باليونانية تعني صباح الخير.
فاجابه مصطفى،
مصطفى : كاليميرا لك انت ايضاً.
اغلق الهاتف فوجد حالته مزرية لانه كان سابحاً بعرق غزير لذا دخل الحمام فوراً واغتسل ثم خرج وهو يشعر شعوراً جيداً بالنظافة. ارتدى ملابسه ونزل الى الطابق الارضي، فسأل موظف الاستعلامات. هل انتهيتم من جواز سفري؟ فاجابه الموظف اجل بامكانك ان تأخذه الآن سيدي لكني انصحك ان تبقيه معنا في الخزنة الحديدة خوفاً من ان تفقده او يسرق منك بالشارع. فشعر ان كلامه منطقي لذلك قرر ان يبقي الجواز مع موظف الاستعلامات. وبعد ان تناول وجبة الافطار بمطعم الفندق رجع الى الاستعلامات وسأله،
مصطفى : كيف لي ان اتصل بتوماس كووك هاتفياً؟
موظف الاستعلامات : لماذا تريد الاتصال بهم؟
مصطفى : اولاً كي اصرف صكوك المسافرين لعملتكم (الدراخما) وثانياً كي استفسر منهم إن كانوا ينظّمون رحلات سياحية.
موظف الاستعلامات : بامكاننا ان نصرف لك صكوك المسافرين هنا وبعمولة افضل اما بخصوص الرحلات فانا متأكد من ان توماس كووك لديهم رحلات سياحية كثيرة الا انها باهظة الثمن وهي ليست من ضمن المبلغ الذي دفعته لهم من بغداد. اي انك ستدفع ثمن الرحلات السياحية بشكل اضافي.
مصطفى : وهل هناك سبيل افضل من ذلك؟
موظف الاستعلامات : اجل، هناك شركات محلية تنظم رحلات اقل ثمناً من توماس كووك.
مصطفى : دعني انتقل لغرفتي الجديدة واتأكد من عمل المكيف فيها ثم ارجع اليك كي تساعدني في اختيار رحلة سياحية.
موظف الاستعلامات : لقد وجدنا لك غرفة ممتازة وهي مقابلة لمنظر الاكروپوليس ومكيفها يعمل بانتظام. الغرفة في الطابق الثامن.
مصطفى : إذاُ دعني انتقل اليها فوراً.
موظف الاستعلامات : لا عليك سيدي، سوف يقوم الموظفون بنقل امتعتك تلقائياً وسيضعون كل شيء بمحله عندما تعود بعد الظهر.
مصطفى : هذا شيء رائع. إذاً اتصل بالشركة السياحة المحلية الآن لوسمحت.
اتصل الموظف باحدى الشركات وصار يتكلم معهم باليونانية ثم توقف عن الكلام وقال لمصطفى،
موظف الاستعلامات : هناك رحلة سياحية الى آثار (دلفي) ستنطلق اليوم الساعة الثانية عشر ظهراً، ما رأيك؟
مصطفى : كم هو ثمنها؟ وكم هي المسافة الى دلفي؟ وهل هناك دليل؟
موظف الاستعلامات : الثمن هو 500 دراخمة، تبعد دلفي حوالي ساعتان ونصف بالحافلة. هناك ايضاً دليل سياحي يتكلم باللغة الانكليزية والفرنسية.
مصطفى : هذا شيء عظيم. احجزها فوراً.
قام الموظف باعطاء بيانات مصطفى على الهاتف ثم نظر اليه وقال،
موظف الاستعلامات : سيأتون لاخذك من هنا الساعة الحادية عشر والنصف.
مصطفى : انا مستعد من الآن، شكراً جزيلاً.
موظف الاستعلامات : (پاراگالو).
مصطفى : ماذا قلت؟
موظف الاستعلامات : قلت لك لا شكر على الواجب.
مصطفى : وكيف تقول شكراً ثم لا شكر على واجب؟
موظف الاستعلامات : تقول (افخاريستو) وتعني شكراً وتقول (پاراگالو) وتعني لا شكر على الواجب.
مصطفى : ساكتب هذه الكلمات كي احفظها واستعملها، افخاريستو.
بقي مصطفى بالقرب من مكتب الاستعلامات كي ينتظر الدليل السياحي حتى يأخذه الى مدينة دلفي ذو الاثار العريقة. جلس على اريكة جلدية حمراء يراقب الناس وهم يدخلون ويخرجون من الفندق. وفي تمام الساعة الحادية عشر والنصف دخلت الى الفندق فتاة شقراء فائقة الجمال متوسطة القامة في منتصف عقدها الثالث ترتدي قميصاً ازرقاً ذو اكمام قصيرة وسروال جينز ازرق اللون وتلبس حذاءاً رياضياً وردياً، سارت مباشرة نحو مكتب الاستعلامات. تفحصها مصطفى وقال لنفسه، "يبدو ان نساء اليونان جميلات جداً إذا كانوا بجمال هذه الفتاة، انها اشبه بممثلات السينما"
وبعد ان تحدثت مع موظف الاستعلامات رجعت صوب مصطفى وسألته بالانكليزية،
الدليل : هل انتَ السيد مصطفى عبد السلام؟
مصطفى : اجل انه انا، من حضرتك؟
اليكسا : اسمي اليكسا، انا الدليل السياحي لرحلة اليوم الى دلفي. هل انت جاهز؟
مصطفى : بالتأكيد جاهز، انا بالواقع توقعت الدليل السياحي أن يكون رجلاً.
اليكسا : وهل يزعجك ان اكون امرأة بدلاً من رجل؟
مصطفى : ابداً، ابداً بالعكس. انا سعيد لكونك امرأة اقصد انا لا يهمني إن كنت امرأة او رجل. اقصد ليس لدي اي مانع.
اليكسا : حسناً هيا معي إذاً.
خرج معها مصطفى الى الخارج ليجد حافلة كبيرة ملئى بالسواح تنتظرهما، ركبا الحافلة وانغلقت الباب خلفهما ثم سارت بشوارع اثينا بينما عثر مصطفى على مقعد خالي بآخر الحافلة فجلس وصار يستمتع بالجو المبرد وحديث الدليلة وهي تشرح عن مدينة اثينا بالانكليزية ثم بالفرنسية اثناء مسير الحافلة بشوارع العاصمة وحاراتها وازقتها الصغيرة قبل ان يدخلوا الطريق الخارجي المتجه نحو الشمال. كان مصطفى معجباً بطلاقة لسان اليكسا بالانكليزية وكان متيقناً من ان بلاغتها بالفرنسية كانت ممتازة ايضاً بالرغم من انه لا يفقه الفرنسية بتاتاً. كان ينظر الى شفاهها ولا يبالي بمضمون حديثها. شعر ان هناك جاذبية مغناطيسية كبيرة تشده اليها لم يعهدها بسيدة اخرى من قبل. كانت اليكسا تتوقف عن الكلام احياناً وتجلس لترتاح قليلاً ثم تعود وتقف فتشرح ثانية عندما يصلون الى معلم مهم او اثري. بعد حوالي ساعتان ونصف وصلوا الى مكان توقفت فيه الحافلة تماماً واعلنت اليكسا بانهم قد بلغوا وجهتهم وهي اثار دلفي. نزل السواح من الحافلة ومعهم مصطفى وصاروا يتجولون بين الصخور والاعمدة الاثرية كان الجميع يتبع اليكسا كما لو كانوا صغار البط وهم يتبعون امهم، لانها كانت تتحدث عن تأريخ تلك الحقبة من الزمن لما كانت هذه الآثار تشكل حضارة اغريقية كبيرة. وبعد ساعة تقريباً اعلنت اليكسا ان وقت الغداء قد حان وان الجميع بامكانه تناول وجبته التي احضرها معه. اخذ صاحبنا هذا الخبر على حين غرة لانه لم يحضر معه اي طعام فجلس بعيداً وترك الجميع ينتشرون حول الآثار ويتناولون طعامهم. انتبهت اليكسا بأن مصطفى لا يأكل فجائت اليه وسألته بالانكليزية،
اليكسا : لماذا لا تأكل يا سيد مصطفى؟
مصطفى : لاني لم احضر معي اي طعام. لم اكن اعلم بان علينا احضار طعامنا معنا.
اليكسا : يبدو انك محظوظ جداً يا سيد مصطفى لان والدتي قد اعدت لي الكثير من الطعام بالرغم من انها تعلم باني لا اءكل كثيراً. بامكانك ان تشاركني طعامي.
مصطفى : كلا يا انسة اليكسا ان هذا الطعام طعامك وانت تحاولين ان تجامليني.
اقسمت له بالعربية وقالت "والله" ثم باقي جملتها بالانكليزية "انا لا اكذب عليك. فطعامي وافر وسوف لن اتمكن من تناول نصفه"
قالت كلمة (والله) فقط بالعربية. فسألها باستغراب،
مصطفى : اين سمعت هذه الكلمة؟ هل تعلمتيها من احد السواح سابقاً؟
هنا تحولت بحديثها للعربية وقالت،
اليكسا : كلا، انا اعرفها منذ الولادة. نحن يونانيو الاصل لأننا كنا نسكن مصر. انا ولدت بالاسكندرية، وقد عشت فيها حتى بلغت الثانية عشرة من عمري. وقتها تركنا انا ووالديّ واخي الصغير مصر وهاجرنا الى اليونان.
مصطفى : ان لفضك للعربية ممتاز جداً انا منبهر بلسانك.
اليكسا : والآن هل تريد ان تخجلني وترفض مشاركتي الطعام يا استاذ مصطفى؟
مصطفى : ارجوكِ نادني مصطفى فقط، سيكون الانسان غبياً إذا اخجل فتاة بجمالك واخلاقك النبيلة.
اليكسا : انت جداً لطيف يا درش.
مصطفى : انا اسمي مصطفى وليس درش.
اليكسا : وانا اعرف ذلك، لكننا في مصر كنا ننادي كل مصطفى بدرش وهي كنية لكل من يسمى بـ مصطفى والأصل فيها أن السلطان مصطفى العثماني تنازل عن الحكم في أواسط القرن الحادي عشر الهجري، وانضم إلى طائفة الصوفية الذين كان يطلق عليهم بالتركية نقلا عن الفارسية فيما يبدو (لقب درويش) أي على الباب أو على باب الله بمعنى أنهم لا يملكون شيئا. ثم تحورت درويش إلى درش تخفيفا. وكذلك نطلق لقب (ابوعلي) على كل من يسمى حسن ونطلق لقب (أبوحنفي) لكل من يسمى محمود وهكذا.
مصطفى : اجل، اجل نحن في العراق لدينا نفس التقليد لاننا نطلق على كل احمد لقب ابوشهاب ومحمد ابو جاسم وعباس ابو فاضل والجندي ابو خليل والشرطي ابوسماعيل. ولكن اخبريني كيف صارت هجرتكم؟ هل كانت قسرية؟
اليكسا : بعد إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وبداية مرحلة التأميم في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، نزح عشرات الآلاف من اليونانيين إلى بلادهم تاركين مصر، في موجة هجرة غير مسبوقة منذ قدومهم إلى المحروسة، حتى وصل عددهم اليوم إلى أقل من خمسة آلاف معظمهم في مدينة الإسكندرية ومنطقة مصر الجديدة بالقاهرة. إن السبب الوحيد لخروج اليونانيين من مصر كان اقتصاديًا، حيث تراجعت مصادر رزقهم ومن ثم انقطاعها نهائيًا، وعلى عكس اليهود الذين خرجوا في غضون عشر سنوات، خرج اليونانيون على مدار ثلاثين عامًا بداية من عام 1927 وانتهاءاً مع قوانين التأميم والإصلاح الزراعي نهاية الخمسينيات.
مصطفى : إذاً لم يكن قسرياً والا لذهبت انا واقمت الدنا ولا اقعدها على الحكومة المصرية.
ضحكت اليكسا بطريقة جميلة جداً وجد فيها صاحبنا حلاوة كالعسل واردف قائلاً،
مصطفى : وعائلتك يا الكس، اين هي؟ هل هم معك باليونان؟
اليكسا : نسكن جميعاً في شقتنا باثينا. والدي ووالدتي متقاعدين. اخي مازال يدرس بالجامعة وانا تخرجت العام الماضي من كلية السياحة واعمل كبياعة فول وطعمية ومهلبية.
مصطفى : بياعة فول وطعمية ومهلبية؟
اليكسا : هاهاها انا امزح معك انا اعمل كدليل سياحي.
مصطفى : اقسم ان دمكِ خفيف للغاية ولديك اجمل ابتسامة شفتها بحياتي.
اليكسا : شكراً لك على المجاملة. وانت يا درش ماذا تعمل؟
مصطفى : انا مدرس لغة انكليزية بمدرسة ابتدائية ببغداد وتدعى مدرسة القديس يوسف الاهلية. اسكن وحدي بمشتمل منذ ان توفي ابي وامي قبل سبع سنوات بحادث سير.
اليكسا : رحمهم الله ولكن ما هو المشتمل؟
مصطفى : المشتمل بالعراق هو منزل صغير يبنى كملحق لمنزل كبير ويؤجر احياناً او يباع. المشتمل الذي اعيش فيه هو ملكي.
اليكسا : آه نعم، نعم نحن نسميه (بارالتيما). هل تصدّق يا درش، كان لدينا مدرسة القديس يوسف بالقاهرة ايضاً؟
مصطفى : احقاً ما تقولين؟ لم اكن اعرف ذلك. والآن هل تأذنين لي بطلب شخصي؟
اليكسا : بالتأكيد تفضل.
مصطفى : هل تأذنين لي ان ازور والدتك واشكرها على الطعام؟
اليكسا : ستكون ماما بقمة السعادة عندما ترى شخصاً عربياً. فهي تتحرش بالسواح العرب عندما تصادفهم بالسوق وتبقى تتحدث معهم بالساعات. والدي كذلك سوف يربطك بحديث سياسي يجب عليك ان تتملص منه والا فانت بورطة كبيرة.
مصطفى : إذاً ارجو منك ان تأخذي لي موعداً معهم عندما نعود الى اثينا كي اقوم بزيارتكم.
اليكسا : حسناً، على الرحب والسعة.
وقف مصطفى وصار يتفحص الاحجار الاثرية لكنه من الداخل كان يريد ان يرقص رقصة (الهݘع) لانه سيذهب مع هذه الفتاة الجميلة ويزور اهلها. هنا تذكر انه لم يسألها إن كانت مرتبطة ام عزباء لكنه انّب نفسه بقسوة شديدة وقال، "ويحك يا اهبل، لمجرد ان الفتاة كانت بمنتهى الادب فشاركتك طعامها وقبلت طلبك بزيارة اهلها فانت تعتقد انها ستميل اليك وتقع بحبك يا روميو. ابقى بهذه العقلية المتحجرة يا غبي. ليتك تعلمت دروساً في التعامل مع النساء من صاحبك فراس"
بعد ساعتين نادت اليكسا على جميع السواح كي يرجعوا الى الحافلة استعداداً للعودة الى اثينا. وعندما وصلوا اثينا، اوصلت الحافلة مصطفى الى فندق الاكروپوليس ثم غادر باليكسا وباقي السواح.
اخذ مصطفى مفتاح غرفته الجديدة وصعد للطابق الثامن ثم بحث عن الغرفة رقم 818. ولما عثر عليها فتح الباب ودخل الغرف فخيل اليه انه يدخل بثلاجة. فالمكيف كان يعمل باقصى طاقته، ابتسم وصار يقلل من شدة البرد لانه سيصاب بالزكام إن استمر على هذا الحال. هنا قرر ان يأخذ حماماً سريعاً ثم ينزل الى مطعم الفندق كي يتناول العشاء. وبينما هو هابطٌ بالمصعد خطرت له فكرة التجول بالمدينة وتناول عشائه بمطعم خارج الفندق فطلع الى الشارع وصار يتمشى على الرصيف حتى وصل الى عربة طعام تفوح منها رائحة شواء. نظر الى اسياخ اللحم وهي تشوى فسال لعابه فسأل البائع بالانكليزية لكن البائع لم يفهم عليه فاشار الى شرائح اللحم. فاجابه البائع بكلمة "تكّادز" تبسم مصطفى وقال يا الهي اننا نسميها تكة وهم يسمونها تكادز. فاشار باصابعه الاربعة ففهم البائع انه يريد اربعة اسياخ. شواها له ووضعها في خبزة واضاف اليها الطماطم والخيار والبصل. اخذها منه وصار يأكلها بشهية كبيرة ثم بعد ان تجول في الشوارع التي تعج بالسيارات والمارة بدأ يحس بالنعاس فادار وجهته وعاد الى الفندق. بالطريق لم يكن بباله سوى اسم واحد ووجه واحد وابتسامة واحدة. وصل الفندق وتوجه نحو غرفته مباشرة، القى ثيابه على الارض ولبس بجامته التي اخرجها من الحقيبة ثم دخل السرير ومعه اليكسا بفكره ووجدانه وقلبه وروحه. وبعد بضع ساعات من الارق الممتع دخل بنوم عميق فلم يعي شيئاً الا وجرس الهاتف يرن في الصباح الباكر. رفعه بغضب شديد وقال،
مصطفى : نعـــــــــــــــــم، ماذا تريد؟
موظف الاستعلامات : كاليميرا
مصطفى : كاليميرا، ولكني لم اطلب منكم ان توقظوني هذا الصباح.
موظف الاستعلامات : الساعة الآن هي العاشرة سيدي ونحن لم نوقظك ولكن لديك زائر.
مصطفى : لدي زائر؟ من هو؟ انا لا اعرف احداً ياليونان.
موظف الاستعلامات : انها سيدة وتقول ان اسمها اليكسا ثيودراكس.
مصطفى : اجل، اجل، اجل ارجوك قل لها اني ساهبط بعد ربع ساعة... لا، لا مهلاً قل لها بعد خمسة دقائق. ارجوك قل لها ان لا ترحل.
موظف الاستعلامات : حسنا سيدي ساخبرها.
1710 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع