د. سعد ناجي جواد
هل يفاجئنا الحكام العرب و يغتنموا فرصة تفشي الوباء ويطلقوا سراح سجناء الرأي؟ وهل يصدق المثل الشهير رب ضارة نافعة في هذه الأيام؟ ولماذا تبقى قوانين العفو العام العراقية الأكثر غرابة
لم تمر البشرية بكارثة صحية هددت حياة البشر في كل أنحاء العالم مثل ما تمر به الكرة الأرضية في هذه الأيام، ومنذ ان تم اكتشاف هذا الوباء نهاية العام الماضي. صحيح ان أوبئة كثيرة حصدت أرواحا اكثر من ما حصده هذا الوباء لحد اليوم، الا ان الأوبئة السابقة لم تكُ تشمل كل قارات العالم مرة واحدة ولم تجبر الناس على البقاء في بيوتها بنفس الطريقة التي اجبرت بها مواطني كل دول العالم اليوم.
ان اخطر ما في هذا الوباء انه ينتشر بسرعة مذهلة في الأماكن المزدحمة وعن طريق التلامس المباشر، ولا يوجد هناك أماكن اكثر ازدحاما ومكدسة بالناس فوق طاقتها الاستيعابية اكثر من السجون في الوطن العربي.
بالعودة الى الأحصائيات التي تقوم بها بعض المنظمات غير الحكومية يظهر ان هناك خمسة دول سجلت أرقامًا مخيفة من حيث نسبة السجناء الى عدد السكان، ومن دون ذكر اسماء هذه الدول، لان غرض هذا المقال هو ليس التشهير وإنما لهدف انساني اكبر وأعمق يتمثل في محاولة حث قادة الدول العربية جميعًا ودون استثناء على تبييض سجونهم كلما كان ذلك ممكنا، خاصة وان الغالبية العظمى من سجناء هذه الدول هم من من يمكن تصنيفهم بانهم سجناء راي، اي انهم ليسوا بالقتلة او المجرمين او سراق المال العام او الارهابيين او تجار المخدرات. وحسب هذه الإحصائيات فان دولة ما سجلت 301 سجينا من كل مئة الف من السكان، والثانية سجلت 229 سجينا من كل مئة الف. والثالثة سجلت 222 سجينا من كل مئة الف، والرابعة 212 سجينا من كل مئة الف والخامسة 161 سجينا من كل مئة الف. أما السجون الاسرائيلية فهي تعتبر الاكثر اكتظاظًا حيث انها تحتوي على حوالي 20 الف ومئتي سجين غالبيتهم الساحقة من الفلسطينين العرب.
وتبقى هناك دولًا عربية اخرى لا توجد فيها او عنها اية احصائيات خاصة بعدد السجناء، وأنها تتعمد اخفاء المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع على اساس ان ذلك يمكن ان يثير منظمات حقوق الإنسان ضدها، او انها تعمد الى تكذيب اية أحصائية تتحدث عن اي خرق لحقوق الإنسان فيها، ومن ضمن ذلك الأحكام التعسفية والسجن بدون تهمة محددة. ان احتمالات تفشي الوباء في السجون العربية كبيرة جدا، وان هذه الكارثة اذا ما حدثت فسوف لن ينتج عنها، كما يعتقد البعض، تخليص بعض الحكام من معارضيهم عن طريق تركهم بدون عناية ليموتوا بهذا المرض اللعين، وإنما هكذا حالة لا سامح الله ستساهم في انتشار الوباء في هذه الدول بصورة كبيرة مما سيجعلها غير قادرة على محاصرته بعد ذلك، وقد يؤدي الحال الى تدمير اجيال قادمة. ولهذا فان الحل الأسلم والأكثر إنسانية يتمثل في إطلاق سراح الغالبية العظمى من السجناء، وعلى رأسهم سجناء الرأي والشباب لانهم يمثلون العمود الفقري لمستقبل هذه الدول ولانهم يمكن ان يساهموا في جهود مكافحة هذا الوباء. كما ان استغلال هذه الجائحة لتمرير عفو عام يمكن ان يخلق حالة جديدة من المصالحة الوطنية، ويجعل بالتأكيد العلاقة اكثر إيجابية في مجتمعات هذه الدول، وخاصة بين الحاكم والمحكوم. فهل سيغتنم ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية هذه الفرصة الذهبية كي يبدأوا عهدا جديدا نتيجة لتفشي هذا الوباء الذين تحتاج فيه الدول الى كل طاقاتها البشرية لتجاوز هذه المحنة؟ وهل سيتمكن حكامنا من ضرب المثل العالي في التسامح والعفو عند المقدرة الذي يحث عليهما قرآننا الكريم وسُنة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام؟ وهل سنسمع في الأيام القليلة القادمة عن قرارات تؤسس لبداية جديدة لمجتمعات اكثر ازدهارًا وتسامحًا؟ لا نملك في هذه الأيام العصيبة الا ان نرفع أيدينا بإلدعاء من اجل ذلك.
في الحديث عن الحالة العراقية يمكن ملاحظة مسالتين مهمتين: الاولى ان العراق يصنف ايضا واحدًا من الدول التي لا تنشر معلومات واضحة ودقيقة عن أعداد السجناء فيه. الثانية ان حكومات ما بعد عام 2003، أصدرت اكثر من عفو عام، (2008 و 2016) الا ان نتائج هذه الإعفاءات كانت مخيبة للآمال، حيث تمخض عنها إطلاق سراح سراق المال العام والمزورين والفاسدين بل وحتى مرتكبي جرائم قتل وتجار المخدرات، في حين ان الغالبية العظمى من المحكومين والمسجونين السياسيين وخاصة أولئك المتهمين بتهم (الإرهاب)، وهي تهم أطلقت وتطلق في الغالب على كل من يخالف الأحزاب والكتل الحاكمة، وتهم المخبر السري الذي لا يعرف من هو ولا يعرف ما هو مصدرها او دليلها، والتي في غالبيتها كيدية، ولم يفكر احدا بهم او بشمولهم باي عفو على اساس انهم يشكلون خطرا على (الأمن الوطني). في حين تركت عصابات الخطف والقتل والسرقة والابتزاز تصول وتجول في كل مدن العراق وبدون محاسبة جدية. علمًا ان أعداد المسجونين بتهم (الإرهاب) والمخبر السري على كثرتها لا تشمل المخطوفين والمغيبين في السجون السرية الخاصة والتابعة للأحزاب والمليشيات المتنفذة، وان أعداد هؤلاء ربما تفوق أعداد المثبتين رسميا كسجناء في السجون الرسمية والمعروفة. وهولاء لا يمكن ان يشملهم اي عفو لسبب بسيط ان اغلب الأحزاب والمليشيات التي تتحكم بمصير هؤلاء المساكين لا تطالهم سلطة الدولة، وربما تكون الأجهزة الحكومية لا تعرف شيئًا عن مصيرهم او عن السجون السرية والخاصة التي تضمهم، وان مشكلتهم لا يمكن ان تحل الا اللهم بتدخل منظمات دولية وانسانية مقتدرة، او بتدخل أطراف تمتلك نفوذا كبيرا على هذه المليشيات او الفصائل المسلحة، وهذا امر مستبعد جدا.
في هذه الأيام يجري الحديث عن عفو عام جديد اخر، وتكلل هذا الحديث بطلب رئيس وزراء تصريف الأعمال من رئيس الجمهورية بالعمل على اتخاذ ما يلزم بشأن إصدار قانون عفو جديد نظرًا للظروف التي يمر بها العالم نتيجة لتفشي فيروس الكورونا. الا ان الملفت للنظر ان مسودة هذا العفو أيضًا لم تشمل الأعداد الكبيرة من المتهمين بتهم (ارهاب) واغلب أصحابها من الشباب الذين اضطروا للاعتراف على انفسهم نتيجة الكم الهائل من التعذيب الجسدي الذي تعرضوا له. وبالتأكيد انها لن تشمل حوالي عشرين الف معتقل ومخطوف ومغيب اخذوا من بيوتهم ومن بين عوائلهم من قبل مليشيات مسلحة بعد طرد عصابات داعش من محافظاتهم الغربية، ولا يعرف اي شيء عن مصيرهم. (اخر المختطفين هو الصديق الصحفي المعروف توفيق التميمي وقبله مجموعة من قادة التظاهرات والحراك الشعبي الذي لم يعرف مصيرهم لحد الان). لقد كان يفترض بهذا المقترح ان لا يستثني الذين تعرضوا ولا يزالون يتعرضون لظلم غير مسبوق من هذه الفئات، او ان يعاد التحقيق بشفافية بقضاياهم وان يشمل ذلك المغيبين في السجون السرية. وانه لمن المؤسف ان تطغى الصراعات السياسية المدعومة من الخارج على الحالة في العراق مع استمرار انتشار هذا الوباء القاتل بسرعة كبيرة، وان تبقى الكتل السياسية مشغولة بالمنابزات والبحث عن المناصب وفي ظل فتاوى متخلفة تتعارض مع جهود وزارة الصحة ونداءات الوزير الدكتور جعفر علاوي الذي اثبت كفاءة واخلاص نادرين في إدارة الأزمة، ومعه كوادر الوزارة، لإنقاذ ما يمكن انقاذه، وبدون دعم مادي يذكر من الدولة وبغياب مستلزمات صحية حيوية كثيرة.
ويبقى الأمر متروك لأولي الأمر في العراق. فهل سيعي هؤلاء خطورة الموقف ويتعاملون معه بما يستحق من إهتمام؟ خاصة وان الموت اصبح يحيط بالبشر من كل جانب. وهل سيفكرون ولو لمرة واحدة واستثنائية بانقاذ النفوس المهددة بهذا الوباء بعيدا عن مصالحهم الضيقة والأنانية، وبعيدًا عن فكرة تصفية الذين يختلفون معهم؟ هي أمنية صعبة جدا بل وربما شبه مستحيلة، ولكن عسى ان يلقى هذا النداء الإنساني البحت، والبعيد كل البعد عن اية أهداف سياسية، استجابة من قبل من بقي في قلوبهم ولو نزر يسير من رحمة وشعور بالمسؤولية كي يفوزوا برحمة وغفران من الله تعالى:
﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ صدق الله العظيم
2142 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع