بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة / اللص الوطني - قصة مستوحات من الواقع
التاريخ 28 تشرين الاول 2019 المكان ساحة التحرير
نادى عبد الجبار زملائه المتظاهرين قائلاً، "هيا يا شباب، اليوم هو الاثنين، دعونا نقلق نوم قوات الشغب، دعونا نهجم عليهم ونقوض راحتهم"
توكأ عبد الجبار على عصاه وقاد الموجة البشرية المتجهة نحو جسر الجمهورية وصار يهتف بالشباب "الشعب يريد اسقاط النظام، الشعب يريد اسقاط النظام" لكنه كان يتخلف عنهم بسبب اعاقته وينادي، "اسبقوني ايها الشباب سالحق بكم فيما بعد"
الا ان الشباب لم يكونوا ليتركوا هذا الشيخ المسن كي يتعثر وحده بين حشود المتظاهرين كان الكل يعرفه ويحبه ويسانده فالبعض يسميه "ابو الثوار" والبعض يناديه "عبودي" اختصاراً لاسمه. لا احد يعرف اسمه الحقيقي الكامل او كنيته او السبب الذي دفعه كي يسير معهم بهذه الروح الوطنية العالية وهذا الاندفاع والتضحية بالنفس المنقطع النظير. انه آثر حب وطنه على نفسه وهو يتكئ على عصاه يسند بها ساقه الاسطناعي وينطلق قبل الجميع وكانه يريد الشهادة باي ثمن.
باحدى هجمات قوات مكافحة الشغب قاموا يطلقون القنابل المسيلة للدموع (الدخانيات) كما يسميها االشباب في ساحات الاعتصام بكل جنون وكانهم يحاولون بجهد امكانهم ان ينهو الاعتصامات ويخمدوا الثورة باي ثمن. كان الشيء الوحيد الذي يعطي الشباب قوتهم هو صوت ابو الثوار وهو يصيح "ها خوتي ها، ها خوتي ها، اليوم ماكو رجعة انريد نموت ، اليوم ماكو رجعة انريد نموت" فيهتف المتظاهرون ورائه وكانهم بنيان مرصوص "اليوم ماكو رجعة انريد نموت".
وبعد ان هدأت الامور وحل الليل صار المتظاهرون يبحثون عن مأوى لاجسادهم المتعبة، بحثو عن ابو الثوار ولم يجدوه فعلموا وقتها انه رجع الى منزله ليأخذ قسطاً من الراحة وسيعود بالغد لا محال بنفس العزيمة والاصرار. وصل التكتك الابيض الى منطقة السيدية حيث ادله عبد الجبار صوب داره. وعندما دخل من الباب وجد زوجته ملتصقة امام التلفاز تتابع الاحداث بكل اهتمام. نظرت صوب عبد الجبار وصرخت،
امال : الحمد لله على سلامتك عبودي. لماذا تأخرت هكذا؟
عبد الجبار : اليوم كنا نصد هجوم قوات الشغب الذي كان شرساً للغاية.
امال : لكنك لم تعد شاباً يا عبودي، بالاظافة الا انك...
عبد الجبار : معوق اليس هذا ما تقصدين؟
امال : كنت اقصد انك متقاعد ولم تعد في الجيش وهذه ليست حرباً ضد الفرس المجوس.
عبد الجبار : ان هذه الحرب هي اسوأ من ذلك بكثير. فالفارسي كان يحاربنا من منطلق وطني. الا ان اعدائنا اليوم هم يدعون الوطنية العراقية لكن ولائهم الحقيقي لايران وللمال السحت الذي ينهبونه من افواهنا.
امال : لكنك الآن طاعن بالسن، وقد آن الاوان ان يتولى عنك الشباب امر القتال والصمود. فانت لا تقوى عليه كما كنت في الثمانينات.
عبد الجبار : اسمعي مني يا آمال، بالاضافة الى فقداني لساقي هذا، إن كنت قد فقدت ذراعي وكلتا عينيّ فانا سابقى اقاتل من اجل وطني. انه الوطن يا زوجتي. هو الروح هو الحياة هو العرض. من لا يدافع عن وطنه كمن لا يدافع عن عرضه. وانا ما زال عندي قابلية يا حبيبتي. والآن اخبريني اين الاولاد؟
امال : نخيل جالسة بحجرتها مع صديقتها سؤدد. اما دجلة فقد خرج مع زملائه مساء اليوم ولم يعد بعد.
عبد الجبار : حسناً، انا ذاهب لاستحم، فانا اشعر ان رائحتي نتنة من شدة الدخان الذي تعرضت اليه اليوم.
توكأ جبارعلى عصاه وتوجه نحو الحمام فدخله واقفل الباب خلفه. دخل ابنه دجلة البيت ونظر حوله ثم قبل والدته وقال،
دجلة : هل هناك طعام يا امي؟ اكاد اموت من الجوع.
امال : اين كنت يا دجلة؟ هل ذهبت مع اصحاب السوء ثانية؟
دجلة : يا امي هؤلاء الشباب ليسوا اصحاب سوء ابداً. كلهم مثقفين وخريجي جامعات لكن الحظ لم يقف معهم كي يحصلوا على وظائف كما هو الحال عندي، لذا نحن نلتقي بين الفينة والفينة كي نرفه عن انفسنا. لا تقلقي يا امي فابنك بين ايدٍ امينة.
امال : ارجو ذلك يا ولدي فانا اقول كلامي هذا من حرصي عليك لا اكثر.
دجلة : اين ابي يا امي؟ هل عاد الى البيت؟
امال : عاد قبل قليل وتوجه مباشرة نحو الحمام فرائحته لا تطاق.
دجلة : انا متأكد انه كان سهراناً عند عشيقته الشابة يا امي.
امال : لقد اصبت يا ولدي، كان يناضل في سبيل عشيقته التي اسمها العراق.
دجلة : ماذا؟ هل كان مع المتظاهرين؟ هل اصيب والدي بالجنون ؟ وهل يريد ان يفقد ساقه الثانية؟ لقد سمعت انهم يطلقون الرصاص الحي على المتظاهرين.
امال : اجل يا بني ولكنك تعرف والدك جيداً. فهو عنيد كالكبش ولن يحيد عن رأيه حتى لو علم ان في ذلك هلاكه. انا لا استطيع ثنيه.
دجلة : اتركي الامر لي يا امي. ساتحدث معه وسوف لن يخرج غداً. سوف ترين.
امال : هاهاها
صعد دجلة الى الطابق العلوي وقام بتغيير ملابسه ثم فتح جهاز الآيباد وبدأ يستمع لاغاني اجنبية. وبعد نصف ساعة خرج عبد الجبار من الحمام واستفسر عن ولده فاخبرته امه انه في غرفته يستمع الى الاغاني فناداه باعلى صوته،
عبد الجبار : دجلة، يا دجلة، اين انت يا ولدي؟
دجلة : انا هنا يا ابي. هل تريد شيئاً؟
عبد الجبار: اجل يا بني انزل هنا. اريد التحدث اليك.
دجلة : حسناً يا ابونخيل ساتي على الفور.
بعد دقائق نزل دجلة الى الطابق السفلي وسأل والدته عن ابوه فقالت انه في غرفة نومه فذهب اليه ثم طرق الباب ووقف حتى اذن له والده بالدخول فدخل وقال،
دجلة : هل طلبتني يا ابو نخيل؟
عبد الجبار: اجل يا بني اريد التحدث اليك قليلاً. اجلس لو سمحت.
جلس دجلة على احدى الكراسي الموجودة بغرفة نوم والده ونظر اليه فبدأ الحديث قائلاً،
دجلة : تفضل يا ابتي، ما الامر؟
عبد الجبار: ساجيب سؤالك بسؤال آخر. اين كنت؟ وماذا فعلت طوال اليوم؟
دجلة : كنت مع اصدقائي المقربين. كنا نقضي اوقاتاً مسلية مع بعضنا البعض.
عبد الجبار: وكيف كان الوقت يمر. هل استطيع ان اعرف؟
دجلة : كنا فقط نلعب الدومنه والطاولي يا ابتي. انها تسلية بريئة. بامكانك ان تأتي معي بالغد وستقوم بالتغلب عليهم جميعاً لانك بارع بهذه الالعاب. وهم يحبوك ويحترموك كثيراً.
عبد الجبار: انا لا اصدق ما اسمع. ابني يفعل ذلك؟ اسمع يا ولدي جيداً هل تعرف كيف فقدت ساقي؟
دجلة : اجل يا والدي، فقدتها في الحرب مع ايران. الكل يعرف ذلك.
عبد الجبار: إذاً استمع الي فانا اريد ان اقص عليك تفاصيل القصة كاملةً.
دجلة : توقف عن الكلام ارجوك يا والدي. دعني اجلب فنجان قهوة كي استمتع بالقصة.
خرج دجلة من غرفة ابيه واسرع الى المطبخ حيث قام باعداد القهوة له ولوالده ثم عاد حاملاً فنجانين ودخل بهما الغرفة فاعطى احداها لوالده ثم جلس على كرسي وابتسم قائلاً،
دجلة : الآن بامكانك ان تبدأ. كلي آذان صاغية، ولا تدع اي تفصيل يمر هباءاً. اريد القصة كاملة يا ابو دجلة الجگمة.
عبد الجبار: هذا عيب يا ولدي، لا تنعت اختك بهذه الاوصاف. والآن دعني ابدأ قصتي: في عام 77 من القرن المنصرم تخرجت من معهد الفندقة وبعد انهاء الخدمة الالزامية تم تعييني بفندق المريديان (فلسطين) كموظف متدرب من خلال التعيين المركزي. تدرجت في الوظيفة بشكل سريع لقدرتي على التحدث بثلاث لغات، العربية والانكليزية والفرنسية. وبعد ان وصلت الى مركز المدير شدت الحرب العراقية الايرانية اوزارها. كان ذلك عام 1980. تصورت انهم سوف يسوّقوني للجيش ثانية كوني من ضباط الاحتياط الا انهم لم يفعلوا ذلك فبقيت بعملي بالفندق. ولكن في عام 83 نسبت الى الجيش الشعبي. هناك قاموا باعادة تدريبي ثم اخبروني اني سوف ارسل الى الجبهة. في بادئ الامر ارسلوني الى قاطع الوسط وبقيت هناك ستة اشهر ثم نقلوني الى قاطع الجنوب.
دجلة : هل كنت تنزل باجازة الى بيتك ببغداد.
عبد الجبار: عندما يكون الامر هادءاً فانهم يسمحون لنا بالنزول. لكن بالايام العصيبة كنا نبقى بالجبهة لاسابيع واشهر طويلة دون الرجوع لبيوتاتنا. دعني اكمل حديثي: باحدى المرات من عام 84 طلب مني الآمر ان انضم الى احدى الوحدات التي تشكلت سراً كي تستطلع تشكيلات العدو على الجبهة. قام الآمر باختيار نخبة من الضباط وضباط صف من الذين لهم قدرات خاصة. كان معي احد العرفاء من اهل النجف يدعى محمد علي رحمه الله. اختاره الآمر لكي يكون معنا لانه يجيد الفارسية بطلاقة. كانت الخطة تتطلب منا التسلل الى ما وراء خطوط العدو الامامية وجمع المعلومات الاستخباراتية عن الجيش الايراني الذي كانت تدل المؤشرات على انه يعد العدة لهجوم كبير وكاسح على قطعاتنا. تحركنا في الساعة الثانية صباحاً من وادي كنا نطلق عليه (وادي الموت) لانه كان مكاناً عارياً ولا يتجرأ احد المرور به لانه سيتعرض لاطلاق النار ويموت لا محال. لذلك كان من الصعب تخيل ان جنوداً سيعرضون انفسهم للموت ويتسللون من هناك. المهم، دخلنا وادي الموت ولم نشاهد اي جندي من جنود العدو. كان يقودنا نقيب يدعى عقيل كاشف الغطاء. بقينا نسير طوال الليل حتى بزغ الضوء وبدأت معسكرات الايرانيين تلوح بالافق. وقتها صرنا نتقدم بحذر اكبر مطأطئين رؤوسنا كي لا يرانا العدو.
دجلة : كم كان عددكم؟
عبد الجبار: كان مجموعنا الكلي 17 فرداً. المهم بقينا نتقدم ببطئ شديد حتى اصبحنا على مرمى حجر من المخيم الذي كتب عليه (کمپ قهرمانان) سألنا محمد علي عن الاسم قال انه يعني مخيم الابطال. بقينا نراقب المخيم عن كثب حتى دخلنا المنطقة التي امامنا فامرنا النقيب عقيل ان نتسلل اليها بحذر شديد. تقدمت انا ومعي اثنان من ضباط الصف لا اذكر اسمائهم وبقينا نتسلل من مكان لاخر نتجول بين اقسام المخيم. وبعد قليل شاهدنا احد الجنود الايرانيين يتجه نحونا فصوبنا بنادقنا نحوه استعداداً لاطلاق النار الا انه قال بلهجته النجفية (تريدون اطگوني يا انذال، كلكم سبوطعش عربنݘي). عرفنا وقتها انه صديقنا العريف محمد علي حاملاً شيئاً كبيراً بيده فرحبنا به وسألناه عما يحمل واذا به يضع امامنا حزمة من الملابس العسكرية الايرانية وقال، "سنتجول بالمخيم بحرية كبيرة لو لبسنا هذه الملابس". وفعلاً لبسنا البزات الايرانية وبدأنا نتحرك بكل حرية داخل مخيمهم دون ان يكشفنا العدو. وبعد ان اكملنا مهمتنا تجمعنا خارج المخيم وصرنا نتبادل المعلومات. المعلومات التي جمعناها كانت اغلبها غير ذات اهمية. وهي تخص انواع الاسلحة المستعملة والاطفال المجندين الذين كانت تتراوح اعمارهم بين 12 و15 عاماً إذ قام الايرانيون بتجنيدهم وتدريبهم تدريباً بسيطاً وزجوهم للجبهة. اما محمد علي فقد قام بجلب اهم معلومة في ذلك اليوم إذ قال، "لقد عثرت على مستودع للذخيرة هو اكبر مستودع شاهدته بحياتي فهو يحتوي على قنابل مورتر وصواريخ آر بي جي وملايين الرصاصات وقنابل دبابات بالآلاف وقاذفات لهب وانواع كثيرة جداً من الالغام" هنا سأله القائد، وهل اخذت احداثيات ذلك المستودع كي نسلمها للقائد عندما نعود حتى يقوم طيراننا بقصفه؟ فاجابه بالايجاب. وسلمه ورقة مكتوب عليها الاحداثيات. تفحصها المقدم عقيل ثم وضعها بجيبه وابتسم قائلاً، "يجب علينا الاسراع بالعودة، ستكون هذه المعلومة مهمة جداً لجيشنا". قمنا بخلع البزات الايرانية ولبسنا بزاتنا العراقية ثانية وهممنا بالعودة.
دجلة : هل انتهت القصة يا ابي؟
عبد الجبار: كلا يا ولدي، هذه فقط البداية. بعد ان لبسنا بزاتنا العسكرية، اتجهنا نحو الغرب وسرنا ببطئ شديد لاننا لم نشأ ان نشتبك مع العدو خوفاً من ضياع المعلومة التي جلبناها معنا. سار المقدم امامنا وكنا نتبعه بتشكيلة اربعة فاربعة. كان البعض يتجه يميناً والبعض الآخر يتجه شمالاً وهو اسلوب تعلمناه بالتدريبات كي يصعب التصويب علينا إذا كان هناك قناصاً يترصدنا. بقينا نسير غرباً حتى عسعس الليل فقال لنا المقدم، "دعنا نرتاح قليلاً هنا. سيبقى نصفكم يراقب بمختلف الجهات بينما ينام الباقون". طعنا اوامره ونام نصفنا على الارض. بعد مرور ثلاث ساعت استيقظنا وبدأنا نقوم بالحراسة. وما ان بدأت المجموعة الثانية بالاستيقاظ حتى اعلن المقدم عن مواصلة السير. سار هو امامنا وتبعناه بتشكيلات رباعية. وبعد مسيرة ساعتين تقريباً سمعنا فجأة صوت انفجار قريب منا. نظرنا باتجاه الانفجار واذا به لغم ارضي مزق جثة اثنين من مجموعتنا كان المقدم واحداً منهم. وقفنا قليلاً نتفحص شهدائنا فعلمنا ان الشهيد الثاني هو عقيل المياحي فقرأنا الفاتحة على ارواحهما ووقفنا نتباحث عن خطة العمل. قال احد العرفاء سيدي انت الآن اصبحت قائد المجموعة. ماذا تأمرنا؟ قلت لهم "بما ان المعلومة التي حصلنا عليها قد تدمرت مع الشهيد عقيل، فإن مهمتنا تعني اننا بئنا بالفشل وسنرجع بخفي حنين. لذا انا اريد الرجوع الى المخيم الايراني كي نلغم مخزن السلاح بانفسنا. المهمة انتحارية لذلك ستكون تطوعية. من منكم يريد ان يأتي معي؟"
فاجابني الجميع بانهم مستعدون للرجوع معي. فقلت "حسناً دعنا نعود الى (کمپ قهرمانان) ولكن علينا ان نتوخى الحذر اكثر فنحن بداخل حقل الغام الآن، لاننا دخلناه سهواً".
تحركت انا وتبعني الباقون ببطئ شديد وسرنا على اقدامنا طوال اليوم عائدين للمخيم الايراني. كنا نقف لفترات قليلة كي ناخذ قسطاً من الراحة ثم نواصل سيرنا حتى وصلنا الى المخيم. رجعنا ولبسنا البزات الايرانية ودخلت انا واحد الجنود الذي لا اذكر اسمه الآن وتوجهنا مباشرة صوب مخزن الذخيرة. كان هناك حارسان امام المدخل فاشرت للجندي ان يهاجم الحارس الذي الى اليمين وانا اهاجم الحارس الى اليسار. اخرجنا اسلحتنا البيضاء ثم مشينا صوبهم. لم يشكّوا بنا مطلقاً، وما ان وصلنا اليهم قمنا بطعنهم عدة مرات فخروا جثث هامدة. اشرت من بعيد كي يأتي جنديان من مجموعتي ويقفان بدلاً منهما ويتظاهران بالحراسة بينما دخلت انا والجندي الاول اعتقد ان اسمه كان سركيس او گورگيس وبدأنا نلغم العتاد بشكل حِرَفي كما تعلمناه بالتدريبات بمعسكر الوشاش. وبعد ان اكملنا التلغيم ووقتنا الساعة كي تنفجر العبوات بعد 20 دقيقة مما يعطينا الوقت الكافي للهروب.
خرجنا من المخزن وعرجنا الى خارج المخيم وبدأنا نسير باتجاه الغرب. وبعد 20 دقيقة توقفت وتفحصت ساعتي ثم نظرت خلفي كي اسمع الانفجار الا اني لم اسمع شيئاً. قال لي احد الجنود، "لا تقلق ياسيدي، ستنفجر العبوات ان شاء الله" بقينا نترقب لعدة دقائق حتى بدأت الانفجارات وصارت السنة اللهب تملأ السماء. وكلما نقول ان الامر قد هدأ تبدأ الانفجارات من جديد وتتصاعد السنة اللهيب الى الاعلى وقد غمرت اعمدة الدخان المنطقة باكملها. تبسمت وقلت لزملائي هيا يا شباب دعنا نعود الى الوطن. قدْتُ المجموعة متجهاً نحو قطعاتنا. وقبل ان نصل بقليل سمعنا اطلاق نار من خلفنا. وجهنا اسلحتنا الخفيفة نحوهم وبدأنا بالرد عليهم. لكن عددهم بدأ يتزايد وصارت النيران اكثف. امرت مجموعتي بالانسحاب نحو الخلف بينما يقوم اثنان من جنودي بمشاغلة العدو. وبعد ربع ساعة بدأ عتادنا بالنفاذ. قلت لهم استعدوا للقتال بالسلاح الابيض إن لزم الامر ولكن لا تتوقفوا. استمروا بالانسحاب. وبعد نصف ساعة تقريباً لم يبقى من مجموعتي سوى اثنان، انا ومحمد علي. طلبت منه ان يركض والا فاننا سنموت بدون شك. بدأنا نركض والرصاص يتطاير فوق رؤوسنا وما هي الا دقائق وكف الايرانيون عن اطلاق النار علينا. استغربنا لما حصل فنظرنا الى الخلف واذا بهم يهربون الى الوراء. ادرنا رؤوسنا فشاهدنا سمتيات عراقية ثلاثة تتوجه نحوهم وتمطرهم برشاشاتها السريعة. حمدنا الله على ذلك وصرنا نسير ببطئ كي نسترجع انفاسنا. كنا نسير بشكل متوازي لاننا اقتربنا كثيراً من القطعات العراقية. وفجأة سمعت انفجاراً بجهة محمد علي نظرت اليه فوجدته على الارض توجهت نحوه وسألته عن حاله فطلب مني ان اواصل السير لان اصابته بالغة وهو ينازع. لم اوافق على طلبه بل اعنته كي يقف ثم وضعت يده اليسرى حول عنقي وصرنا نسير سوية نحو الغرب. وما ان مشينا بضع دقائق حتى اصبت انا بقدمي برصاصة تائهة لا اعلم مصدرها فسقطت على الارض مغشياً علي.
دجلة : وماذا حصل بعد ذلك؟
عبد الجبار : بعد يومين كاملين فتحت عيني كي اجد نفسي بمستشفى عسكري بالبصرة. نظرت حولي كي استوعب ماجرى فلم يكن احداً بجانبي. بدأت اتحسس يدي واصابعي وكانت كلها بخير لكني عندما تفحصت قدمي وجدت ان القدم اليمنى قد بترت. بكيت قليلاً وبدأت اتذكر احداث ذلك اليوم الذي أصبت به. وفجأة تذكرت محمد علي. ماذا حل به يا ترى واين هو الآن؟ هل استطاعوا انقاذه؟ ماهي الا دقائق وجائني الطبيب فحياني قائلاً،
الطبيب : مرحباً بك يا بطل والحمد لله على سلامتك. لقد كنت في غيبوبة لمدة يومين بعد ان احضرتك الى هنا مجموعة من الجنود.
عبد الجبار : ماذا عن الجندي الذي كان معي؟ هل هو بخير؟
الطبيب : انا آسف جداً. لقد استشهد ذلك الجندي في المعسكر قبل ان يأتوا به الى هنا. اصابته كانت بليغة جداً.
عبد الجبار : لا حول ولا قوة الا بالله. وماذا عني؟ كيف ساعود الى المعركة؟
الطبيب : انت سوف لن تعود للمعركة يا بطل. انت ستحال على التقاعد على ما اعتقد. استمتع باوقاتك لانك خدمت وطنك ودفعت ساقك ثمن لها.
عبد الجبار : كيف استطيع ان استمتع والعدو الايراني الصفوي لازال يتربص ببلدي.
الطبيب : لا تقلق على العراق. فهناك الكثير من الابطال مثلك يدافعون عنه بكل قوة وحزم ورباطة جأش.
خرج من غرفتي وبقيت افكر بكل ما قاله لي ذلك الطبيب الكريم.
دجلة : هل انتهت القصة إذاً؟
عبد الجبار : ابداً. القصة لم تنتهي. بعد رجوعي من الجبهة واحالتي على التقاعد التقيت بآمال (امك طبعاً) وبدأت قصة حب كبيرة بيني وبينها. كانت تنظر الى اعاقتي على انها نيشان من نياشين الكرامة والعزة لاني خدمت وطني وحميته من المد الصفوي. وبعد ان تزوجنا، رجعت الى عملي كمديراً لفندق المريديان (فلسطين) وقد اهداني رئيس الجمهورية سيارة من نوع مرسيدس خاصة بالمعاقين تستطيع قيادتها باليد بدلاً من الاقدام.
في يوم من الايام من عام 1987 قبل ان تنتهي الحرب بسنة كاملة كنت خارجاً من الفندق مبكراً في أمل ان ازور احد الاصدقاء بقناة الجيش. خرجت من مراب الفندق وركبت السيارة ثم قدتها الى القناة وهناك فوجئت ببعض اللصوص يوجهون اسلحتهم نحوي ويطلبون مني الوقوف، توقفت وانزلت الشباك فسمعت احدهم يقول لي،
اللص الاول : اطفئ المحرك وانزل من السيارة.
عبد الجبار : يا اخي انا لست غنياً ارجوكم لا تطلقوا النار. انا اب لطفلة حديثة الولادة عمرها شهرين فقط.
اللص الثاني : قلت لك انزل من السيارة. نحن نريد السيارة.
عبد الجبار : حسناً ولكن ارجوكم انتضروا قليلاً فانا بطيئ الحركة.
خرجت من السيارة واتكأت على عصاي حتى اصبحت خارج السيارة. قلت للص الاول، خزان الوقود مليء تقريباً. ولكن احذركم من قيادتها لانها ليست سهلة.
تفحص اللص قدمي وفجأة صار يجهش بالبكاء. قال لي،
اللص الاول : هل انت معوق؟
عبد الجبار : اجل يا ابني، اصيبت قدمي برصاصة في القادسية قبل بضع سنوات.
نظر اللص الى صاحبه وقال له،
اللص الاول : هل من الشهامة ان نسرق سيارة شخص كان يدافع عنا وفقد ساقه من اجلنا؟
اللص الثاني : كلا هذا مستحيل. نظر صوبي وقال "ارجو منك المعذرة يا سيدي. ارجو ان تسمح لنا بتقبيل يديك"
عبد الجبار : استغفر الله يا اخي. واشكركم على قراركم هذا.
سحبت محفظتي واخرجت منها ورقة نقدية ب 50 دولاراً كان قد منحها لي احد النزلاء الروس في الفندق. لكن اللص دفع يدي وقبلها ثانية وقال،
اللص الاول : من العيب علينا ان نأخذ فلساً واحداً من رجل عظيم مثلك. إذهب وفقك الله وبارك لك بابنتك الجديدة، ماذا اسميتها؟
عبد الجبار : اسميتها نخيل.
اللص الثاني : رافقتك السلامة يا ابو نخيل.
عبد الجبار : وداعاً يا اخواني.
ركبت سيارتي ورجعت الى منزلي بالسيدية لا اصدق ما قد حصل لي.
دجلة : يا الهي، لحظة واحدة يا ابي. دعني استوعب الموقف هنا وافهم ما قلته لي للتو: اللصوص احترموا اعاقتك ولم يأخذوا السيارة منك؟ اللصوص كان لديهم اخلاق من هذا النوع؟ هذا شيء لا يصدق. وكأنك تتحدث عن اناس لا اعرفهم. هل كانوا عراقيين؟
عبد الجبار : اجل يا ولدي. حتى اللصوص كان لديهم شرف واحساس بالوطنية. الا ان اللصوص اليوم اصبحت شهيتهم كبيرة ولا تكفيهم سرقة بيت او سيارة او المال الذي بمحفظتك. هم يريدون سرقة المليارات لذلك هذا الجنس من اللصوص هو اخطر بكثير من اللصوص التي كانت لدينا بالسابق. انهم اشبه بالوباء الذي يفتك الوطن باسره.
دجلة : يا الهي، الآن عرفت لماذا يتظاهر الثوار بساحة التحرير ويقولون (نريد وطن)
عبد الجبار : ليس بساحة التحرير وحسب يا بني. بل بكل محافظات العراق في ذي قار والبصرة والديوانية والنجف وكربلاء وديالى وباقي المحافظات. انها ثورة سلمية حتى النصر يا ولدي.
دجلة : لقد قررت ان اتي معك غداً وسأكون احد المتظاهرين. لكن والدتي ستعارض لا محال.
عبد الجبار : لا اعتقد ذلك. انا اعرف امال جيداً. احساسها الوطني عالياً جداً. اذهب واسألها الآن.
وبهذه الاثناء دخلت عليهم ام نخيل وسألت،
امال : الا زلتم تتحدثون يا رجال؟
دجلة : لقد قررت ان اذهب مع والدي في الغد كي اتظاهر بساحة التحرير، ما رأيك؟
امال : اقول اني قد ربيت رجلاً من ظهر رجل. حياك الله يا بطل.
دجلة : وإذا استشهدت يا امي ماذا ستفعلين.
امال : سازغرد اولاً ثم ابكي قليلاً على فراقك ثم ابعث اختك نخيل ورائك كي تتظاهر بعدك.
دجلة : انت ام عظيمة.
عبد الجبار : على بركة الله.
باليوم التالي خرج عبد الجبار مع ابنه دجلة وعندما صارا بالشارع قامت نخيل بسكب الماء ورائهما وسط زغاريد الام آمال.
وحالما وطأت ارجلهم ساحة التحرير لمحهم المتظاهرون وصاروا يهتفون "عبد الجبار اليوم اويانه ... عبد الجبار اليوم اويانه"
1643 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع