عوني القلمجي
وسائل جاهزة لمواجهة الانتفاضة العراقية
لم تكن انتفاضة تشرين العظيمة حدثا عابرا، او شبيهة بالانتفاضات التي سبقتها عبر تاريخ العراق الحديث. فهي قد هزت الارض تحت اقدام السلطة الحاكمة في العراق، واصابت نفوس اعضائها ومليشياتها المسلحة بالرعب والشعور بدنو الاجل. فلاول مرة تكون لحمة الانتفاضة الشباب وسداها النساء. وهي لم تقتصر على طائفة معينة او فئة سياسية او طبقة اجتماعية، وانما شملت عموم الشعب العراقي، مثلما لم تكن محصورة في هذه المدينة او تلك، بل امتدت لتشمل العديد من المدن العراقية، وخاصة المدن الجنوبية، التي ظن البعض بانها اصبحت تحت الهيمنة الفارسية. ناهيك عن شجاعة ابنائها في مواجهة الة القمع العسكرية والامنية بصدور عارية، على الرغم من سقوط اكثر من 500 شهيد وعشرة الاف جريح، اضافة الى الاف المعتقلين. ناهيك عن منع اية جهة من ركوب موجتها، او الاندساس في صفوفها، او حرف مسيرتها، اوالتلاعب بشعارتها الوطنية ومطالبها السياسية، وفي المقدمة منها اسقاط النظام والدستور وتقديم الفاسدين الى المحاكم. اي اسقاط العملية السياسية برمتها.
امام هذه الانتفاضة العملاقة، وامام الفشل في كسر صمودها، لجات السلطة وزعماء المليشيات الطائفية الى استحضار وسائلها الجاهزة، حيث خرج رئيسها عادل عبد المهدي على الناس بخطاب شديد البؤس والسذاجة، اعلن في محصلته وعودا وردية بمنح راتب لكل فرد وبيت لكل عائلة، ظنا منه بان هذه الاكذوبة ستقنع المنتفضين بالعودة الى بيوتهم، ثم تلاه خطاب اخر يداوي فيه خيبة خطابه الاول، فنال الشفقة بدل الترحيب، حيث وعد فيه تقديم عدد من كبار المسؤولين السابقين، وليس الحاليين، لمحاكمتهم بتهمة الفساد. ولم تكن خطابات المرجع الاعلى علي السيستاني اقل بؤسا من خطابات عبد المهدي، فهو يعلم اكثر من غيره بان مطلبه الرنان بتقديم قتلة المتظاهرين والقناصين الى المحاكم خلال اسبوعين، لن ير النور في غرف القضاء المظلمة. بينما كان بامكانه الطلب الى صنيعته عادل عبد المهدي بتقديم استقالته ووضع نفسه واعضاء سلطته امام المساءلة بتهمة القتل مع سبق الاصرار والترصد.
اذا كان رؤساء السلطة السابقون قد تمكنوا من تمرير هذه الاساليب بين الناس والالتفاف على الانتفاضات السابقة، فان عبد المهدي واعضاء سلطته وبرلمانه لن يفلتوا من غضبة العراقيين هذه المرة، فهو قد تفوق على اسلافه باستخدام كل انواع القوة العسكرية ضد ابناء هذه الانتفاضة، بحيث وصلت الى حد استخدام الدبابات والمدفعية ضد مدينة الثورة او صدام او الصدر، سمها ما شئت، والتي راح ضحيتها، في ساعات معدودة، عشرات الشهداء ومئات الجرحى. وهذا ما يفسر استعداداته التي تجري على قدم وساق، وتجهيز كل امكانياته العسكرية والامنية وقيامه بحملة اعتقالات واسعة، لمواجهة الانتفاضة في اليوم الموعود وهو 25 من الشهر الحالي. اما المرجعية الدينية فلم يعد بامكانها انقاذه من محنته، حيث فقدت تاثيرها على المنتفضين، جراء الحماية التي وفرتها للعملية السياسية الطائفية واطرافها طيلة سنين الاحتلال العجاف.
قد يتسائل البعض باستغراب، ترى ما الذي دفع عادل عبد المهدي ليسير على خطى اسلافه، ويرتكب هذه الجرائم الشنيعة ضد انتفاضة سلمية لم يحمل ابنائها سوى قناني الماء لتفادي حرارة الجو وما يمنع بالكاد تاثير القنابل المسيلة للدموع ورائحة البارود؟ اما كان من الافضل له، او من مصلحته، ستر عورته واستغلال هذه المناسبة عبر حماية المتظاهرين والاستجابة لمطالبهم فورا ليقول للعالم وشعوبه شاهدوا رئيس الوزراء الجديد كيف تعامل مع الانتفاضة على خلاف الطريقة العنيفة التي تعامل بها اسلافه؟ ام ان عبد المهدي كان غبيا الى هذا الحد ليقوم بهذه الجرائم ويضيع على نفسه فرصة ثمينة كهذه؟. واذا كان الرجل غبيا فعلا، فماذا عن المحتل الذي هو الاخر بحاجة الى مثل هذه الفرصة لاثبات كذبته حول الديمقراطية في العراق؟ الم يكن بامكانه اجبار عبد المهدي على حماية المتظاهرين والاستجابة لمطالب الناس او بعضها؟ بل اليس بامكانه اقصاء هذه الحكومة باي وسيلة واستبدالها بحكومة اخرى اقل سوءا واقل عمالة لامتصاص نقمة الناس؟
ما حدث لا يدعو للاستغراب، فالمحتل والسلطة التي نصبها لم ينسيا تلك الشعارات التي رفعتها الانتفاضات السابقة التي اكدت في مرات عديدة على اسقاط السلطة وانهاء الاحتلال، سواء كان امريكيا او فارسيا، ودعت الى استقلال العراق ووحدته وعروبته، وتشكيل حكومة وطنية مستقلة. وبالتالي فان اندلاع اي انتفاضة ستشعرهم بالخطر اذا لم يجر قمعها وانهاؤها او الالتفاف عليها. فالانتفاضة بالنسبة لهؤلاء الاشرار حدث مرعب ومخيف بحد ذاتها، كونها تشكل ظاهرة نضالية متميزة تفرض نفسها بقوة لمواجهة اعدائها، بل ويرون فيها اكثر من ذلك، اذ يعتبرونها اداة لتفجير لكل الامكانات الثورية والابداعية لدى الجماهير، وتعزيزا لوحدة الشعب العراقي وترسيخا مفاهيم الولاء للوطن وليس للطائفية او العرق، وهذا يعني هدم كل البناء الذي اقامه المحتل طيلة هذه السنين. كل هذه المفاهيم الثورية قد تجسدت في هذه الانتفاضة التاريخية العملاقة التي انطلقت في العاصمة العراقية وانتشر لهيبها الى المدن الجنوبية وتردد صداها في عموم المدن الاخرى. باختصار شديد فان هذه الانتفاضة لم تر مثلها عين او سمعت بها اذن.
وفق هذا السياق ليس غريبا ان تكون مهمة جميع الحكومات التي نصبها المحتل هي الوقوف بوجه مثل هذه الانتفاضات، ما دام مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا لم يكتمل بعد. واذا اضطرت هذه الحكومة لاجراء بعض الاصلاحات الترقيعية او محاسبة فاسدين سابقين فان الهدف من هذا ليس سوى تخدير الناس وادخالهم الى قاعة الانتظار مرة اخرى، والا ماذا يعني ان يصدر عادل عبد المهدي قائمة بعدد من الفاسدين لا تشمل سوى السابقين؟ ثم لماذا لم تجر محاسبتهم حينها؟ هل سيكون هؤلاء كبش الفداء؟ ام ان معظمهم غادر البلاد مع اموالهم المسروقة؟. بعبارة اخرى، فان عادل عبد المهدي او غيره، لن يتمكن من التمرد على هذا المخطط، خاصة وان هذا الرجل هو صناعة امريكية ايرانية مقرونة بمباركة المرجعية الدينية بامتياز. وعلى هذا الاساس، فان الذين يعتقدون بامكانية قيام هذه الحكومة او الحكومات اللاحقة بالاصلاحات لهو في ضلال مبين. فالاصلاحات تعني رحيل الحكومة ومحاكمة الفاسدين وتمزيق الدستور وقانون الانتخابات وغيرها. وبالتالي يعني نهاية الاحتلال الامريكي والفارسي وزوال العملاء والاتباع والمريدين.
اذا تركنا كل ذلك جانبا، وسلمنا جدلا بان هؤلاء الاشرار سيلجاون الى اصلاحات جدية تقنع المنتفضين بالعودة الى بيوتهم، ترى كيف يمكن تنفيذ مشروع اصلاحي، في ظل عملية سياسية طائفية، جرى تصميمها بدقة متناهية بحيث لا تسمح اطلاقا باي تغيير في القواعد التي استندت اليها، ولا حتى احداث ثغرة في سياجها ولو بحجم خرم ابرة. وماذا عن الدستور الذي يحميها وهو الاخر لا يمكن تغيير مادة فيه ولا حتى كلمة واحدة على حد تعبير رئيس السلطة السابق نوري المالكي؟ اما الحديث عن امكانية التغيير عبر الانتخابات او عبر البرلمان، فهذه قد اثببت فشلها بالصوت والصورة. ولا ادل على ذلك من الخديعة التي نسجتها كتلة سائرون بصدرييها وشيوعييها عبر الاعلان للعراقيينعن قدرتها على التغييرمن داخل هذه العملية السياسية المقيته في محاولة بائسة لتسويق الوهم . فمقتدى الصدر وتياره جزء من هذه العملية وهو حريص على ديمومتها. ثم اليس هو ذاته من شارك في اختيار عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة، ونزهه من كل شائبة ووصفه "بالشخصية الوطنية المستقلة والمستقيلة من الفساد والفاسدين". اما الحزب الشيوعي الذي مثل الوجه الاخر لقائمة سائرون، فقد تحول سكرتيره الاول رائد فهمي وعضو مكتبه السياسي جاسم الحلفي الى ابواق دعاية لعادل عبد المهدي وبشرا بقدرته على على انقاذ العراق من محنته.
ولكي لا نطيل، فالانتفاضة هي الطريق الوحيد لخلاص العراق من محنته، وتحقيق اهداف شعبه المشروعة، وطرد المحتل، امريكيا كان او ايرانيا سواء كان امريكيا او ايرانيا او تركيا او غيرهما، واستعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية، خاصة وان السلطة الحاكمة وعمليتها السياسية المقيتة تعيش حالة من الارتباك والانقسامات، الامر الذي دعاها الى استجداء المساعدة والدعم من اية جهة كانت. ولنا في هروب بعض اطرافها من السفينة الغارقة بهذه الطريقة او تلك خير دليل على ذلك. هذه الانتفاضة العملاقة التي نالت اعجاب شعوب العالم واحترامها، قادرة على انجاز اهدافها، رغم صعوبتها والعقبات التي تنتصب امامها، والمؤامرات التي تحاك ضدها من قبل دول اقليمية ودولية. ان اي رهان غير الرهان على الانتفاضة لن يحصد غير الخيبة تلو الاخرىمراهنة اخرى. فلا المحتل ولا الاحزاب الطائفية والمليشيات المسلحة سيرحلون طواعية. هذه الحقيقة اثبتتها تجارب كل شعوب الارض المضطهدة.
عوني القلمجي
14/10/2019
3307 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع