الطاف عبد الحميد
اثنان وعشرون عاما عاشها زميلي المسلم ( النقيب مثنى بدر الدين الليلة) في قفص اسلامي محكم الاغلاق مؤدلج بثورة اسلامية تفارقت مع غار حراء ، ولم تحفظ كلمة إقرأ ولم تقرأ (وإ ن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا) ولم ترضى بما رضيه الله لنا بكمال الدين واخوة المسلمين....
فرقتنا اقفاص الاسرى المحددة بالحديد ، والقفص الكبير المحدد بالاتجاهات الاربعة فوق خريطة الوطن ، ونشرتنا على حدوده المسيجة بالنار والسواتر المكسوة بالخاكي والطين المترهل بالشظايا والمخضب بالدماء والدموع والامال المتجمعة في غرابيل الامل المفتوقة والتي استعصى على الراقع العربي و الاسلامي ترقيعها ، لتلتقم من اعمارنا ثمانية سنين حرب وقرابة ربع قرن أسر...تاريخ مؤثث بالفواجع والمحن ومزينا باللافتات السوداء ومؤطرا بخوذ الفولاذ وقصائد البارود والموت المتأسد والسائد والمتسيد على سواد الناس ، لتتغرب العروبة عنا وتترمل زوجة المعتصم ولا لاحد منهم ( وامعتصماه ) تعني له شيئا... أفواه الناس مقفلة برتاجات حكامها وملوكها : وسفاح يورث الحكم لسفاح وشعراء منقسمين بين نصاب ومداح...لاتكفي الذكرى والاستذكار لردم هوة الانتظار والاسى وغربة الاسر...جردوا المأسورين من انسانيتهم ... جردهم من تجرد من الانسانية وباتوا بلا ( محمد) مسلمين لايزيد إسلامهم على إسلامهم الابعدا عنه....عانقت صديقي وعانقني أسير القرن..ربع قرن من الاسر ...ساتوقف عن الوصف أوالمضي بتفكيك المعاناة التي عاناها الاسرى ، فما فينا من الهموم يكفينا ، وبعيرنا النحيل ماعاد قادرا على ان يضاف إلى حمله مايقصم ظهره المتهالك والأيل للسقوط ....متى أسرت ؟: أجاب في أول سنة حرب ..وكيف هو الاسر؟ : (نشر يديه وزم شفتيه وهز رأسه) كأنه يقول لي لاتسأل أو انه يتهمني بالجهل او التجرد من الكياسة والدماثة وتقليب المواجع والفواجع ، وكل حديث لترميم الانهيارات والتداعيات النفسية سيكون عقيما ، بل إن الاحداث الجسام والحصار والخوف والترقب ووأد المستقبل قد لاتساوي يوم اسر أو قهر أو ذل مذل ،لاراد له أو قدرة للواقع عليه ولامتحكما في الحد منه ....صمت اعقبه كلام ...صديقي الذي شدني اليه بصداقته ، الظرافة فيه ، وشهرته بخلق الضحكة والبسمة والنكتة وهو الطابع الذي كان يتطبع به...كان مؤنسا لنا في لقاءاتنا اليومية عندما عملنا معا في الوحدة ذاتها ف2لمش29....اجابني وقد استحضر بعض من ظرافته وقال ( أنا مثل سيد جبر من ..... امه للكبر ) استذكرت مامر به العراقيون وكلانا في اواسط الستينات من العمر ومن نفس الدورة في الكلية العسكرية وقارنت مانحن فيه مع سيدنا ( سيد جبر) ووجدت فيه انه السيد السائد علينا ، وقول ماقال لايعلو عليه قول ، وقد حاولت تجميل جملته الشهيرة بتبديل كلماتها إلا اني لم أجد المبرر الكافي لحذفها أوتبديلها فهي ليست مخدشة للحياء في عالم الادراك فالكلمة لاتزيد عن كونها عضوا بشريا بدأت الحياة بمغادرته بصرخة ، ويتوق الشباب الذكور رغبة بالعودة اليه ، ولا تخلوا الادبيات الاسلامية من ذكر الاشياء بمسمياتها (لاحياء في الدين).... جرنا الحديث الى حديث في امور الدنيا البسيطة والتافهة والتي لا تستهويني ، فقد كانت الاحداث الجسام مقبلة وترتسم ملامحها ، وتلقي بظلها على العراق المحاصر بحصار لا أول له ولا أخر ...نحن في العام 2003 وشكل الحرب بدا واضحا واصبح مايمكن ان يكون متوقعا ( اليوم الذي بكينا فيه ربما نبكي عليه) كائنا ....ودعته وتواعدنا على اللقاء في قابل الايام ...التقينا بعدها ووجد كلانا دون ان يصرح احدنا للاخر بأننا اصبحنا هياكل انسانية تجردت الافراح منها وحل في دهاليزها الانكفاء والانطواء والسوداوية والسعادة الغابرة ...اصبح اللقاء مكلفا مرهقا لكلينا وادركنا معا بلا تصريح بأننا بشر طرقتنا مطارق الزمن وسحقتنا فوق سندان الحروب المتعاقبة.... تباعدنا عن بعضنا بالرغم من القرب المكاني ، ورفعنا الراية البيضاء،واعلنا انتصار الزمن..
2130 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع