القانون بالليل يدگوون بي وبالنهار يحبسون بي

                                              

                      بقلم المحامي المستشار
                     محي الدين محمد يونس

القانون بالليل يدگوون بي وبالنهار يحبسون بي

مع تجدد نشاط الاجنحة العسكرية للأحزاب الكردية المعارضة للحكومة العراقية مع بداية عام 1976 بادرت إلى تشكيل مفارز خاصة تابعة إلى مديرية الأمن العامة ومديرية الاستخبارات العسكرية للقيام بالتصدي لهذه الأجنحة التابعة للأحزاب التي شكلت بعد انهيار الحركة الكردية على أثر توقيع اتفاقية الجزائر من قبل شاه ايران وصدام حسين عام 1975 وهي:-

• الحزب الديمقراطي الكردستاني
• الاتحاد الوطني الكردستاني
• الحزب الشيوعي العراقي
• الحزب الاشتراكي الكردستاني
• حزب الشعب الكردستاني
• وغيرها من الأحزاب والتيارات الأخرى.

    

وكان الأفراد المنظوين في هذه المفارز من القومية الكردية ويقومون بارتكاب الكثير من التجاوزات والانتهاكات بحقوق المواطنين وعلى المال العام من خلال تجاوزهم على الأراضي الأميرية في المدن وتقسيمها إلى قطع وبيعها للمواطنين دون أن تستطيع السلطات المحلية منعهم أو اتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم.
وقد نشأت أحياء عديدة في مدينة أربيل بهذا الشكل العجيب والأعجب من ذلك هي التسميات التي كانت تطلق على هذه الأحياء نذكر منها:-
1) حي (جي مه دي) ومعناه لا تأخذ تعليمات الحكومة بنظر الاعتبار وتعال ابني (لا إدير بال)
2) حي (بو تيناوه) وهذا الحي لا تستطيع دخوله إلا وأنت محتذي البوتين (الجزمة)
3) حي (دركاوه) وهذا الحي تكثر فيه الأشواك
4) حي (شاباوه) وهذا الحي من المحتمل أن يطردوك منه بالجلاليق
5) حي ( ترحيو) كان يقع على طريق مخمور واسم الحي يدل على الاستهزاء من ساكنيه
6) حي (باداوه) وهو من أكبر الأحياء التي بنيت بهذه الطريقة ولا زالت
7) حي (بيركوت) ويقع على طريق أربيل شقلاوه وأزيل مؤخرا بعد تعويض ساكنيه.
كان أداة القياس عند بيع هذه الأراضي للمواطنين هو الحبل في أكثر الأحيان لسهولة القياس به, لذلك فإن هذه الدور قياساتها وأبعادها كانت غير منتظمة بالإضافة إلى قياسات أزقتها.

                                 

                     إسماعيل رسول محافظ أربيل

زار الرئيس العراقي السابق (صدام حسين) محافظة أربيل في نهاية السبعينيات من القرن الماضي والتقى محافظها المرحوم (إسماعيل رسول) واستفسر منه عن المشاكل التي تعاني منها المحافظة, فبادره المحافظ بأن مشكلة التجاوز على أراضي الدولة هي من اهم هذه المشاكل وليس في مقدور الإدارة المحلية معالجة ذلك لمرور فترة طويلة على هذا التجاوز وكون معظم المتجاوزين من الطبقة الفقيرة وناشده في المساعدة لوضع حل لهذه المشكلة والتي تعتبر تجاوزاً على التصميم الأساسي لمدينة أربيل, عندها اقترح الرئيس العراقي (صدام حسين) منح كل واحد من المتجاوزين قطعة أرض مساحتها 200 متر مربع مع مبلغ (3000) ثلاثة آلاف دينار عراقي والشيء المثير للضحك وعند تسرب هذا الخبر بين المواطنين سارع الكثير منهم في ذلك اليوم بنهاره وليله إلى بناء العشرات من الدور بتعاونهم فيما بينهم وقبل خروج اللجان المكلفة بالجرد في صباح اليوم التالي لغرض حصر من تشملهم المكرمة.

       

           صدام حسين اثناء زيارته محافظة أربيل

مع ازدياد النشاط العسكري للأحزاب الكردية ضد السلطة تضاعف عدد منتسبي المفارز الخاصة المحسوبين على دوائر الأمن والاستخبارات وكانوا يقومون في المناسبات القومية والدينية (عيدي الفطر والأضحى وأعياد نوروز) وفي ليلة هذه المناسبات يبادر منتسبو المفارز الخاصة إلى إطلاق العيارات النارية من الأسلحة المسلمة لهم من قبل السلطة نحو السماء ابتهاجاً بهذه المناسبات وكان من تداعيات ذلك مقتل وإصابة العديد من المواطنين الذين كانوا يعتقدون خطأ بأن الرصاص المتساقط من السماء لا يشكل خطورة على حياة الإنسان وبدلاً من الاحتياط والحذر والانتقال إلى الأماكن المغلقة يبقون في المناطق المفتوحة والعراء والرصاص المتساقط من السماء يسقط بشكل عمودي ولا زال بدرجة عالية من الحرارة وتصيب أماكن خطرة من جسم الإنسان يصعب إخراجها أو إخراجها بصعوبة وكان أخطرها الرصاص الذي يصيب الرأس ولا بد أن أشير إلى كوني قد أوردت هذه المقدمة لمقالي عن الوضع الأمني في منطقة الحكم الذاتي (إقليم كردستان حالياً) ومحافظة أربيل على الخصوص لأتحدث لكم عن هذه الحكاية التي حصلت مع جاري (الحاج ناصح القصاب) في عام 1979... حيث كنت أسكن في محلة شعبية تتميز بطيبة قلب ساكنيها وفي أحد الأيام وكان الوقت ليلاً وإذا بصوت صراخ وعويل للنساء مصدره الزقاق الذي كنت أسكن فيه, هرعت مسرعاً لأخرج من داري للوقوف على مصدر الصراخ وأسبابه فتبين لي بعد خروجي ومشاهدتي للعديد من الجيران وهم يتسابقون للدخول إلى دار جاري (الحاج ناصح القصاب) تزاحمت وحذوت حذوهم ودخلت الدار والذي كان من الطراز الشرقي وذو فتحة في وسطه تحيط به الغرف من كافة الجوانب, كان المرحوم (ناصح القصاب) جالساً في هذه الفتحة من الدار مفترشاً سجادة جالساً عليها وبيده رزمة من النقود فئة العشرة دنانير وكتفه الأيمن مصاب بإطلاقة نارية والدماء تنزف منه بغزارة, المرحوم (الحاج ناصح) بحالة نفسية سيئة وهو يشاهد الدماء على ملابسه البيضاء والنقود لازالت في يده وفور مشاهدته لي بادر بالصراخ: ((أبو ديار إلحگلي راح أموت سويلي چاره... راح أموت)) والنساء في صراخ وعويل.
أجبته: ((حاج استهدي بالرحمن وإن شاء الله ماكو عليك شي... وما تموت))
وداعبته قائلاً: ((بس گلي هاي الفلوس اللي بيدك اشگد...))
أجابني على الفور: ((ألف دينار))
فقلت له: ((زين إذا ما صار بيك شي وصرت زين عندك استعداد تجعل المبلغ الألف دينار صدقة وتوزعها على الفقراء))
أجابني على القور: ((نعم سأتصدق بكل هذا المبلغ بس ما يصير علي شي))
بمساعدة المتواجدين من أهله والجيران تم وضعه في سيارتي وانطلقت به مسرعاً إلى مستشفى الطوارئ في مدينة أربيل, وكان أثناء الطريق يرفع يديه الى السماء ملتمساً من الله العلي القدير أن يسلمه وينجيه من ما هو فيه, وفور وصولنا تم إدخاله إلى صالة العمليات بعد استعمالي لنفوذي الشخصي وعلاقاتي مع الأطباء لكوني كنت نقيباً في الشرطة, وقد لاحظت وجود العديد من المواطنين رجالاً ونساءاً من الجرحى المصابين بالإطلاقات النارية العشوائية المتساقطة في المدينة تعبيراً من مطلقيها عن فرحهم بانتهاء أخر يوم من شهر رمضان وحلول عيد الفطر في اليوم التالي.
وبعد إجراء العملية الجراحية اللازمة له من قبل الأطباء وإيقاف النزف الدموي, اخرج من صالة العمليات دون استطاعتهم إخراج الرصاصة من مستقرها الصعب في كتفه وطلب منه مراجعة طبيب جراح مقتدر لهذا الغرض... أعدته إلى داره واستقبل من قبل أهله والجيران بالفرح والسرور وكنت ازوه في كل يوم لغرض الاطمئنان عليه وكانت صحته في تحسن, وفي اليوم السابع وكان مقبلاً على الشفاء...
خاطبته: ((الحاج ناصح... هل لازلت عند وعدك الذي وعدتني به يوم اصابتك وامام الحاضرين من اهلك وجيرانك))
أجابني ضاحكاً: ((أخي أنا عند وعدي ولكن ألا تشاطرني الرأي بأن المبلغ الذي وعدت أن اتصدق به مبلغ كبير))
تأملته وأنا أفكر في حال الإنسان عندما يكون في ضيق وقلق من وضع لا يطيقه ويأمل الخلاص منه وعلى استعداد ليجود ويعمل وحسب الحالة التي هو فيها وبهذا الخصوص نذكر الآية 12 من سورة يونس : بسم الله الرحمن الرحيم ((وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) ويبدو أن القانون عندنا كما قال عنه ذلك الأعرابي (بالليل يدكَوون بي وبالنهار يحبسون بي) وكان قد حضر إلى العاصمة بغداد في بداية السبعينيات من القرن الماضي لأمر ما وهو يرتدي الملابس العربية وصادف حضوره عند تطبيق قانون المرور الجديد وعدم جواز العبور من الشوارع إلا من المحلات والأماكن المخصصة لهذا الغرض وكانت التعليمات من السلطات العليا تقضي بحجز المخالف لمدة خمسة عشر يوماً.
هذا الأعرابي في مساء ذلك اليوم وعندما كان يتجول في شارع السعدون لاحظ وجود مكان تنبعث منه أصوات الموسيقى والأضواء تزين واجهته وهناك حركة لدخول الناس إليه ودفعه الفضول إلى أن يدخل إلى ذلك المكان وكان عبارة عن ملهى ليلي يرتداه الناس للترويح عن أنفسهم , استهواه المكان وجلس فيه وأخذ يستمع إلى الأغاني والموسيقى وأعجبه صوت أحد الآلات الموسيقية, فنادى على أحد العاملين مستفسراً منه عن اسم هذه الآلة.
أجابه العامل: ((عمي هذا يسموه قانون))
وفي اليوم التالي عندما كان يحاول العبور من شارع السعدون من غير المكان المخصص للعبور تم الإمساك به من قبل مفرزة شرطة المرور فبادرهم قائلاً: (( آني شمسوي))
أجابوه: ((أنت خالفت القانون ولازم تنحبس))
أجابهم: ((گال هذا شنو القانون بالليل يدگوون بي وبالنهار يحبسون بي))
طبيعة غالبية الشعب العراقي والذي يفسر تطبيق القانون انتهاكاً لحريته الشخصية حتى ولو كان ذلك في مصلحته فهي عقلية مجبولة على المخالفة والانطلاق وعدم التقيد والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها ما نحن بصدده حول تعليمات العبور من الأماكن المحددة لذلك طبق في عام 1971 إلا أنه لم يستمر إلا لفترة قصيرة, كذلك شد حزام الأمان عند قيادة السيارة, طبيعة السلطة عندنا تساير طبيعة المجتمع من خلال تشجيعه على مخالفة القوانين في عدم تطبيقها بشكل جدي ودائم.
بعد سنين قليلة من هذا الحادث غادرنا الحاج (ناصح القصاب) إلى الدنيا الأبدية هذا الرجل الطيب والخير وكان موضع حب واحترام الجميع رحمه الله برحمته الواسعة مع اعتزازي وتقديري لجميع من يطلع على مقالي هذا وأملي أن ينال الرضا والارتياح.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

959 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع