د. خضر (ديفيد) بصون
شارع الذكريات (٢): عام حافل لنهاية العقد الأول من حياتي
احتفلت بعيد ميلادي التاسع بعد شهر ونصف الشهر من قيام ثورة 14 تموز. كانت هذه مناسبة خاصة، فهو أول عيد ميلاد لي في العهد الجمهوري. طالبت كأي "رجل حر" بالحصول على "حقوقي المهضومة" كحق ركوب باص الأمانة الأحمر بدون مرافقة، تخصيص مصرف جيب، واحضار تلفزيون متى سمحت ميزانية البيت. طبعا لم انس أن اذكّر والدتي بأنني "ثوري" وكنت في سوق البتاوين صبيحة 14 تموز وقد رجعت سالماً من رحلتي تلك. وللتأكيد رددت وصفها لهذا الحدث " دتشوف أول مرة أخلى الولد يروح للسوك وهو يسويلنا ثورة".
بالرغم من البداية الدموية لثورة 14تموز، آمن والدي أن القوى والأحزاب السياسية التي شاركت في أول حكومة ستتجه نحو تقصير الفترة الانتقالية والتمهيد لإجراء انتخابات حرة لبرلمان يمثل الشعب. رأى والدي في القوى "التقدمية والديمقراطية" التي ينتمي إليها وفي عبد الكريم قاسم الأمل في تحقيق المساواة لأبناء الشعب ومن ضمنهم يهود العراق. لكن منذ الأسابيع الأولى للثورة، بدأ الشرخ بين مفاهيم وطموحات القوى السياسية يتسع. التف حول عبد السلام عارف الرجل الثاني كل القوميين والناصريين والبعثيين وكانوا يدفعون باتجاه الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا). وساند عبد الكريم قاسم الشيوعيون والأحزاب الديمقراطية والأكراد الذين كانوا يفضلون بناء عراق ديمقراطي مستقل. تحول الصراع سريعاً بعد بضعة أشهر من سقوط الحكم الملكي، من صراع أفكار ومبادئ إلى عنف سياسي ثم عنف دموي.
هكذا بدأت مصطلحات جديدة تدخل إلى قاموسي السياسي! – العهد البائد، الطغمة الفاسدة، الفلول، التقدميون، الديمقراطيون، الشيوعيون، القوميون، الناصريون، البعثيون، الفوضوية، الشعوبية، الاستعمار، الإقطاع، الرجعية، أنصار السلام، الحكم الفردي...... بالرغم من أن والدي كان مرشدي السياسي وكان "قاسميا" حتى النخاع، سأحاول قدر الإمكان، في هذه الذكريات، أن أتجنب الدخول في المتاهات السياسية وان أكون متفرجاً.
انتهت العطلة الصيفية بإعلان كان له صداه وتبعاته لسنين – احتفالاً بالثورة، قررت الحكومة العراقية أن تسمح لكل من رسب في الامتحانات أن "يصعد" للصف التالي أو يتخرج وينضم إلى صفوف الناجحين. طبعاً كان هذا يوم عيد لمن رسب، وتفاوتا بين الفرح والذهول لبقية الطلاب الذين كرسوا جهودهم في الدراسة لاجتياز الامتحانات، كما قوبل في اعتقادي بامتعاض وعض شفاف لدى معظم المدرسين ومدراء المدارس، خوفا من تدهور المستوى التعليمي. كنت أود أن أكون طيراً لأرى تعابير مدير مدرستنا المرحوم الأستاذ عبد الله عوبديا عندما سمع هذا النبأ. كان لمديرنا ونائبيه - ست سمحة نسيم والمرحوم أستاذ اسحق كوهين، وبقية الهيأة التعليمية في مدرستي فرنك عيني وشماش الفضل في أن ننهي الدراسة بأعلى المستويات. عرفت هذه السنة الدراسية بعام الزحف. لم يتكرر هذا الحدث ثانية بالرغم أن العديد من الطلاب خرجوا في الصيف الذي أعقبه بمظاهرات مطالبين بتنجيحهم ومرددين شعار "يا زعيم للأمام نريد الزحف مثل العام"
بدأنا السنة الدراسية وصور الزعيم على حيطان الصفوف. تعلمنا أن نحفظ غيبا الفقرات الأولى من البيان الأول للثورة.
وبعد أشهر، عندما تم تصميم شعار جديد للجمهورية العراقية، تعلمنا رسمه وتفسير رموزه وألوانه. صمم الشعار من قبل الفنان جواد سليم على غرار الشعار الأكدي المكون من الشمس الذهبية ذات الثمانية إشعاعات والنجم المثمن الأحمر وكانت فيه رموز أخرى السيف العربي، الخنجر الكردي، السنبلة الذهبية رمز الزراعة والعجلة المسننة رمز الصناعة.
كان أهلنا متفائلين بهذا التغيير في السلطة بعد الاضطهاد والتمييز الذين عاناهما يهود العراق في السنين الأخيرة من الحكم الملكي. الجالية اليهودية بدأت تشعر لأول مرة منذ سنين أن هناك املا في تحقيق المساواة وان معالم التمييز آخذة في الاختفاء خاصة بعد ان ابعد من السلطة عبد السلام عارف الذي كان حقودا ومتعصبا ضد اليهود. في الأشهر الأولى، أطلق سراح العديد من المعتقلين والسجناء السياسيين وبينهم عدد من اليهود الذين كانوا متهمين بالشيوعية أو بالصهيونية، بعد تخفيض مدة محكومياتهم. (حسب ما قرأت في مذكرات حسقيل قوجمان أحد الشيوعين العراقيين المعتقلين أن الحزب الشيوعي آنذاك كان له موقف سلبي واقترح على المعتقلين والمعتقلات اليهود أن يُسلموا! كذلك نصحوا الذين أطلق سراحهم مباشرة بعد الثورة بان لا يعترضوا على التسفير إلى إسرائيل لعدم إحراج الحكومة.)
تدريجياً، الغيت بعض القوانين والإجراءات المعادية لليهود وتم السماح لهم بالحصول على إجازات الاستيراد والسفر إلى الخارج والدخول إلى الجامعات. والدي عاد للعمل العلني في الصحافة وكان مدير التحرير الفعلي لجريدة الراي العام لصاحبها الجواهري وزميله نعيم طويق كان اليد اليمنى لرئيس الحزب الوطني الديمقراطي كامل الجادرجي.
في السنين الأولى من الثورة شعر يهود العراق بأنهم ربما يعيشون عصرا ذهبيا ثانيا وان عبد الكريم قاسم هو صمام أمانهم.
(في القرن العشرين يعتبر عهد الملك فيصل الاول العصر الذهبي الأول ليهود العراق).
من منجزات الثورة، إننا اقتينا تلفازا لأول مرة في نهاية 1958، أتاح التلفاز لي ولأختاي إن نرى أفلام الكرتون والكاوبوي وكرة القدم ولوالدي متابعة جلسات المحكمة العسكرية الخاصة التي عرفت بمحكمة الشعب (محكمة المهداوي). هذه المحكمة العسكرية التي كان يرأسها العقيد فاضل المهداوي (ابن خالة عبد الكريم قاسم) شكلت لمحاكمة أقطاب الحكم الملكي (العهد البائد) مثل فاضل الجمالي، غازي الداغستاني، بهجت العطية، سعيد قزاز وغيرهم من الساسة والعسكريين. ثم تحولت بعد فترة قصيرة لمحاكمة عبد السلام عارف بتهمة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم ومحاكمة الذين اشتركوا في المحاولة الانقلابية الفاشلة مع عبد الوهاب الشواف في أذار 1959 وعدد كبير من البعثيين والقوميين الذين أُتهموا بمحاولة اغتيال قاسم في تشرين الثاني 1959.
كانت وقائع الجلسات، بعد تسجيلها في الصباح، تعرض مساءا على شاشة التلفزيون. وكان لهذه المحكمة جمهورها الواسع في المقاهي والكازينوهات اذ اتسمت بطابع ترفيهي، فقد كان رئيسها المهداوي يلقي النكات والاشعار ويعلق على الأحداث وكان المتهمون يتعرضون لإهاناته وسخرية الجمهور والهتافات المعادية.
في 1959، ولا اتذكر بالضبط، أي مناسبة كانت، أمّا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة للشواف في آذار أو على الأكثر في مسيرة يوم العمال في 1 أيار، خرجت مظاهرات حاشدة مؤيدة للزعيم عبد الكريم قاسم. أخذني والدي معه وكان شارع الرشيد مكتظاً، لا أحد يستطيع التحرك في هذا الليل. رفعني والدي على كتفيه لكيلا يدوسني أحد ولكي أستطيع الرؤية. أتذكر إني نظرت إلى ساعتي وكانت الساعة الثانية صباحا. ناس تهتف "كرد وعرب فد حزام ... عاش الزعيم المقدام" و "لا بعثية ولا قومية ... جبهة حرة وطنية" و "هربجي ...هربجي كرد وعرب رمز النضال"، "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" وهناك آخرون يرددون ماذا تريدون؟ والآلاف تجيب – إعدام كل الخونة. لم افهم ماذا، أنا ابن التاسعة وشوية ماذا يعني إعدام ولكن كأي مناضل كنت اصرخ ماذا تريدون؟ بالله، قولوا لي ماذا كنا نريد؟
عند كتابتي لهذه المذكرات بدأت أفكر هل كان الشعب العراقي يوما ما موحداً وهل العنف داء مستأصل. متى احترمت الفئات السياسية، أيّن كانت، تناقضاتها في الرأي؟ كل أراد إن يمحو الآخر من الخارطة السياسية. كل معسكر له أجندته التي لا تشمل الآخر. كانت هناك فرصة لولادة عراق ديمقراطي ولكن الكل ساهم في إجهاض الجنين. بعد حوالي خمسين عاما من سقوط الحكم الملكي، أُجهض جنين آخر. والآن يتصدر المشهد العراقي الإسلام السياسي بأقبح صوره والنعرات الطائفية وهجرة الأقليات. واتساءل، هل اتفق القط والفار على خراب الديار؟
آه، لقد شردت في أفكاري، ولنعد إلى عهد الطفولة البريئة....
في العيد الأول لثورة تموز، شاركت الطائفة الموسوية كما كانت تُعرف في المسيرة الشعبية الضخمة. وكانت مدرستنا فرنك عيني، لأيام عديدة، مركز التحضيرات لموكب الطائفة. شارك الكثير من الطلاب والطالبات في تزيين الشاحنة المفتوحة بآلاف الورود من الورق الملون بعد إن تعلموا صناعتها. كانت هذه الأيام من أحلى الأوقات حيث اشتركنا نحن الطلاب في عمل جماعي في المدرسة لا يتعلق بالدراسة.
تجمعت المواكب المشتركة في هذا المهرجان في ليلة الرابع عشر في جانب الكرخ. وفي صباح 15 تموز انطلقت المسيرة بمواكبها الجميلة وعبرت جسر الجمهورية إلى ساحة التحرير لتحيي قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم ثم واصلت المسيرة في شارع الرشيد وسط تشجيع الجماهير المحتشدة على جانبي طريق المسيرة.
في الأسابيع الأولى للثورة استمر استعمال الطوابع التي كانت تحمل صورة الملك فيصل الثاني ولكنها كانت مدموغة ب "الجمهورية العراقية". ثم بدأت مجموعة طوابعي تتسع مع صدور الطوابع التذكارية الجديدة التي كنت احصل عليها في الأيام الأولى – أحد مكاسبي من اشتغال والدي في الصحافة وكنت أقايضها مع أصدقائي بطوابع من دول أخرى. من هذه الطوابع ذكرى يوم الجيش، يوم الشجرة، الإصلاح الزراعي، الذكرى الأولى للثورة.
في أيلول احتفلت بميلادي العاشر وصعدت إلى الصف الخامس حيث بدأنا دراسة اللغة الإنكليزية، بالإضافة الى العربية والفرنسية والعبرية الكلاسيكية (لقراءة كتب التوراة والصلوات الدينية – لم تسمح الحكومات المتعاقبة منذ أواخر الأربعينيات بتدريس العبرية الحديثة كلغة). لأول مرة منذ سنين، غادر العديد من خريجي مدرسة شماش الإعدادية للدراسة -- خارج العراق، بدون الخوف أن تسقط الجنسية العراقية عنهم، والتحق الآخرون بالجامعات العراقية.
كان هذا عاما حافلا انتهى به العقد الأول من حياتي. ماذا ينتظرني في بداية العقد الثاني؟!
الگاردينيا:للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
https://algardenia.com/maqalat/40802-2019-07-12-06-56-38.html
597 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع